قوله تعالى : { لكم فيها } أي : في البدن قبل تسميتها للهدي ، { منافع } في درها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها ، { إلى أجل مسمى } وهو أن يسميها ويوجبها هدياً ، فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها ، هذا قول مجاهد ، وقول قتادة و الضحاك ، ورواه مقسم عن ابن عباس . وقيل : معناه لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا بأن تركبوها وتشربوا ألبانها عند الحاجة ( إلى أجل مسمى ) ، يعني : إلى أن تنحروها ، وهو قول عطاء بن أبي رباح . واختلف أهل العلم في ركوب الهدي : فقال قوم : يجوز له ركوبها والحمل عليها غير مضر بها ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا أبو علي زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال :اركبها ، فقال : إنها بدنة . قال : اركبها فقال : إنها بدنة . قال اركبها ويلك ، في الثانية أو الثالثة ، وكذلك قال له : اشرب لبنها بعدما فضل عن ري ولدها " . وقال أصحاب الرأي : لا يركبها . وقال قوم : لا يركبها إلا أن يضطر إليه . وقال بعضهم : أراد بالشعائر المناسك ومشاهد مكة . ( لكم فيها منافع ) بالتجارة والأسواق ( إلى أجل مسمى ) وهو الخروج من مكة . وقيل : لكم فيها منافع بالأجر والثواب في قضاء المناسك . ( إلى أجل مسمى ) أي : إلى انقضاء أيام الحج . { ثم محلها } أي : منحرها ، { إلى البيت العتيق } أي : منحرها عند البيت العتيق ، يريد أرض الحرم كلها ، كما قال : { فلا يقربوا المسجد الحرام } أي : الحرم كله . وروي عن جابر في قصة حجة الوداع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحرت هاهنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم " . ومن قال : الشعائر : المناسك ، قال : معنى قوله { ثم محلها إلى البيت العتيق } أي : محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق ، أي : أن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر .
{ لَكُمْ فِيهَا } أي : [ في ] الهدايا { مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } هذا في الهدايا المسوقة ، من البدن ونحوها ، ينتفع بها أربابها ، بالركوب ، والحلب ونحو ذلك ، مما لا يضرها { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } مقدر ، موقت وهو ذبحها إذا وصلت مَحِلُّهَا وهو الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ، أي : الحرم كله " منى " وغيرها ، فإذا ذبحت ، أكلوا منها وأهدوا ، وأطعموا البائس الفقير .
وهذه الأنعام التي تتخذ هديا ينحر في نهاية أيام الإحرام يجوز لصاحبها الإنتفاع بها . إن كان في حاجة إليها يركبها ، أو في حاجة إلى ألبانها يشربها ، حتى تبلغ محلها - أي مكان حلها - وهو البيت العتيق . ثم تنحر هناك ليأكل منها . ويطعم البائس الفقير .
" وقد كان المسلمون على عهد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يغالون في الهدي ، يختارونه سمينا غالي الثمن ، يعلنون بها عن تعظيمهم لشعائر الله ، مدفوعين بتقوى الله . روى عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : أهدي عمر نجيبا فأعطى بها ثلاث مائة دينار ، فأتى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا رسول الله إني أهديت نجيبا ، فأعطيت بها ثلاث مائة دينار . أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا ? قال : " لا . انحرها إياها " .
والناقة النجيب التي جاءت هدية لعمر - رضي الله عنه - وقومت بثلاث مائة دينار لم يكن عمر - رضي الله عنه - يريد أن يضن بقيمتها ، بل كان يريد أن يبيعها فيشتري بها نوقا أو بقرا للذبح . فشاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يضحي بالنجيب ذاتها لنفاستها وعظم قيمتها ، ولا يستبدل بها نوقا كثيرة ، قد تعطي لحما أكثر ، ولكنها من ناحية القيمة الشعورية أقل . والقيمة الشعورية مقصودة ( فإنها من تقوى القلوب ) . وهذا هو المعنى الذي لحظه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يقول لعمر - رضي الله عنه - " انحرها إياها " هي بذاتها لا سواها !
قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي : لكم في البدن منافع ، من لبنها ، وصوفها وأوبارها وأشعارها ، وركوبها .
{ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } : قال مِقْسَم ، عن ابن عباس [ في قوله ]{[20208]} : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } قال : ما لم يسم بدنا .
وقال مجاهد في قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } ، قال : الركوب واللبن والولد ، فإذا سُمّيت بَدنَةً أو هَديًا ، ذهب ذلك كله . وكذا قال عطاء ، والضحاك ، وقتادة ، [ ومقاتل ]{[20209]} وعطاء الخراساني ، وغيرهم .
وقال آخرون : بل له أن ينتفع بها وإن كانت هديا ، إذا احتاج إلى ذلك ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدَنَةً ، قال : " اركبها " . قال : إنها بَدنَة . قال : " اركبها ، ويحك " ، في الثانية أو الثالثة{[20210]} .
وفي رواية لمسلم ، عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اركبها بالمعروف إذا ألجئتَ إليها " {[20211]} .
وقال شعبة ، عن زهير بن أبي ثابت الأعمى ، عن المغيرة بن حَذْف ، عن علي ؛ أنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها ، فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها ، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدَها .
وقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أي : مَحِل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق ، وهو الكعبة ، كما قال تعالى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ، وقال { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] .
وقد تقدم الكلام على معنى " البيت العتيق " قريبا ، ولله الحمد{[20212]} .
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء : كان ابن عباس يقول : كل من طاف بالبيت ، فقد حل ، قال الله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ مَحِلّهَآ إِلَىَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
اختلف أهل التأويل في معنى المنافع التي ذكر الله في هذه الاَية وأخبر عباده أنها إلى أجل مسمى ، على نحو اختلافهم في معنى الشعائر التي ذكرها جلّ ثناؤه في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ فإنّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ فقال الذين قالوا عني بالشعائر البدن . معنى ذلك : لكم أيها الناس في البدن منافع . ثم اختلف أيضا الذين قالوا هذه المقالة في الحال التي لهم فيها منافع ، وفي الأجل الذي قال عزّ ذكره : إلى أجَلٍ مُسَمّى فقال بعضهم : الحال التي أخبر الله جلّ ثناؤه أن لهم فيها منافع ، هي الحال التي لم يوجبها صاحبها ولم يسمها بدنة ولم يقلّدْها . قالوا : ومنافعها في هذه الحال : شرب ألبانها ، وركوب ظهورها ، وما يرزقهم الله من نتاجها وأولادها . قالوا : والأجل المسمى الذي أخبر جلّ ثناؤه أن ذلك لعباده المؤمنين منها إليها ، هو إلى إيجابهم إياها ، فإذا أوجبوها بطل ذلك ولم يكن لهم من ذلك شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : ما لم يُسَمّ بُدْنا .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : الركوب واللبن والولد ، فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب كله .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في هذه الاَية : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : لكم في ظهورها وألبانها وأوبارها ، حتى تصير بُدْنا .
قال : حدثنا ابن عديّ ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، وليث عن مجاهد : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : في أشعارها وأوبارها وألبانها ، قبل أن تسميها بدنة .
قال : حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : في البدن لحومها وألبانها وأشعارها وأوبارها وأصوافها قبل أن تسمى هديا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، وزاد فيه : وهي الأجل المسمى .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء أنه قال في قوله : لَكُمْ فِيها مَنَافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْت العَتِيق قال : منافع في ألبانها وظهورها وأوبارها ، إلى أجَلٍ مُسَمّى : إلى أن تقلد .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثل ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : قال ابن علية : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله : لَكُمْ فِيها مَنافعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : إلى أن تُوجِبها بَدَنة .
قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي نجيح ، عن قَتادة : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى يقول : في ظهورها وألبانها ، فإذا قلدت فمحلها إلى البيت العتيق .
وقال آخرون ممن قال الشعائر البدن في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ والهاء في قوله : لَكُمْ فِيها من ذكر الشعائر ، ومعنى قوله : لَكُمْ فِيها مَنافعُ لكم في الشعائر إلى تعظمونها لله منافع بعد اتخاذكموها لله بدنا أو هدايا ، بأن تركبوا ظهورها إذا احتجتم إلى ذلك ، وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها . قالوا : والأجل المسمى الذي قال جلّ ثناؤه : إلى أجَل مُسَمّى إلى أن تنحر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : هو ركوب البدن ، وشرب لبنها إن احتاج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء بن أبي رباح في قوله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : إلى أن تنحر ، قال : له أن يحملها عليها المُعِيْي والمنقطع به من الضرورة ، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركب عند منهوكه . قلت لعطاء : ما ؟ قال : الرجل الراجل ، والمنقطع به ، والمتبع وإن نتجت ، أن يحمل عليها ولدها ، ولا يشرب من لبنها إلا فضلاً عن ولدها ، فإن كان في لبنها فضل فليشرب من أهداها ومن لم يهدها .
وأما الذين قالوا : معنى الشعائر في قوله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله : شعائر الحجّ ، وهي الأماكن التي يُنْسك عندها لله ، فإنهم اختلفوا أيضا في معنى المنافع التي قال الله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ فقال بعضهم : معنى ذلك : لكم في هذه الشعائر التي تعظمونها منافع بتجارتكم عندها وبيعكم وشرائكم بحضرتها وتسوّقكم . والأجل المسمى : الخروج من الشعائر إلى غيرها ومن المواضع التي ينسك عندها إلى ما سواها في قول بعضهم .
حدثني الحسن بن عليّ الصّدائَي ، قال : حدثنا أبو أسامة عن سليمان الضبي ، عن عاصم بن أبي النّجود ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ، في قوله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ قال : أسواقهم ، فإنه لم يذكر منافع إلا للدنيا .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى ، قوله : لَكُمْ فِيها مَنافعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : والأجل المسمى : الخروج منه إلى غيره .
وقال آخرون منهم : المنافع التي ذكرها الله في هذا الموضع : العمل لله بما أمر من مناسك الحجّ . قالوا : والأجل المسمّى : هو انقضاء أيام الحجّ التي يُنْسَك لله فيهنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى ثُمّ مَحِلّها إلى الَبْيتَ العَتِيق فقرأ قول الله : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى القُلُوب لكم في تلك الشعائر منافع إلى أجل مسمى ، إذا ذهبت تلك الأيام لم تر أحدا يأتي عرفة يقف فيها يبتغي الأجر ، ولا المزدلفة ، ولا رمي الجمار ، وقد ضربوا من البلدان لهذه الأيام التي فيها المنافع ، وإنما منافعها إلى تلك الأيام ، وهي الأجل المسمى ، ثم محلّها حين تنقضي تلك الأيام إلى البيت العتيق .
قال أبو جعفر : وقد دللنا قبل على أن قول الله تعالى ذكره : وَمَنْ يُعَظّمْ شَعائِرَ اللّهِ معنيّ به : كلّ ما كان من عمل أو مكان جعله الله علما لمناسك حجّ خلقه ، إذ لمن يخصص من ذلك جلّ ثناؤه شيئا في خبر ولا عقل . وإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن معنى قوله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى في هذه الشعائر منافع إلى أجل مسمى ، فما كان من هذه الشعائر بدنا وهديا ، فمنافعها لكم من حين تملكون إلى أن أوجبتموها هدايا وبدنا ، وما كان منها أماكن ينسك لله عندها ، فمنافعها التجارة لله عندها والعمل بما أمر به إلى الشخوص عنها ، وما كان منها أوقاتا بأن يُطاع الله فيها بعمل أعمال الحجّ وبطلب المعاش فيها بالتجارة ، إلى أن يطاف بالبيت في بعض ، أو يوافى الحرم في بعض ويخرج عن الحرم في بعض .
وقال اختلف الذين ذكرنا اختلافهم في تأويل قوله : لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمّى في تأويل قوله : ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ فقال الذين قالوا عني بالشعائر في هذا الموضع البُدْن : معنى ذلك ثم محل البدن إلى أن تبلغ مكة ، وهي التي بها البيت العتيق . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : أخبرنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء : ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ إلى مكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ يعني محل البدن حين تسمى إلى البيت العتيق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جرَيج ، عن مجاهد ، قال : ثُمّ مَحِلّها حين تسمى هديا إلى البيت العتيق ، قال : الكعبة أعتقها من الجبابرة .
فوجه هؤلاء تأويل ذلك إلى ثَمّ منحر البدن والهدايا التي أوجبتموها إلى أرض الحرم . وقالوا : عني بالبيت العتيق أرض الحرم كلها . وقالوا : وذلك نظير قوله : فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ والمراد : الحرم كله .
وقال آخرون : معنى ذلك : ثم محلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلى البيت العتيق أن تطوفوا به يوم النحر بعد قضائكم ما أوجبه الله عليكم في حجكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى : ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ قال : محلّ هذه الشعائر كلها الطواف بالبيت .
وقال آخرون : معنى ذلك : ثم محلّ منافع أيام الحجّ إلى البيت العتيق بانقضائها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ مَحِلّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ حين تنقضي تلك الأيام ، أيام الحجّ إلى البيت العتيق .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ثم محلّ الشعائر التي لكم فيها منافع إلى أجل مسمى إلى البيت العتيق ، فما كان من ذلك هديا أو بدنا فبموافاته الحرم في الحرم ، وما كان من نُسُك فالطواف بالبيت .
{ لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق } أي لكم فيها منافع درها ونسلها وصوفها وظهرها إلى أن تنحر ، ثم وقت نحرها منتهية إلى البيت أي ما يليه من الحرم ، و { ثم } تحتمل التراخي في الوقت والتراخي في الرتبة ، أي لكم فيها منافع دنيوية إلى وقت النحر وبعده منافع دينية أعظم منها ، وهو على الأولين إما متصل بحديث { الأنعام } والضمير فيه لها أو المراد على الأول لكم فيها منافع دينية تنتفعون بها إلى اجل مسمى هو الموت ، ثم محلها منتهية إلى البيت العتيق الذي ترفع غليه الأعمال أو يكون فيه ثوابها وهو البيت المعمور أو الجنة ، وعلى الثاني { لكم فيها منافع } التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة .
ثم اختلف المتألون في قوله { لكم فيها منافع } الآية ، فقال مجاهد وقتادة : أراد أن للناس في أنعامهم منافع من الصوف واللبن وغير ذلك ما لم يبعثها ربها هدياً فإذا بعثها فهو «الأجل المسمى » ، وقال عطاء بن أبي رباح : أراد في الهدي المبعوث منافع من الركوب والاحتلاب لمن اضطر ، و «الأجل » نحرها وتكون { ثم } لترتيب الجمل ، لأن المحل قبل الأجل ومعنى الكلام عند هاتين الفرقتين { ثم محلها } إلى موضع النحر فذكر { البيت } لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي وغيره ، وقال ابن زيد وابن عمر والحسن ومالك : «الشعائر » في هذه الآية مواضع الحج كلها ومعالمه بمنى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك ، وفي الآية التي تأتي أن البدن من الشعائر ، و «المنافع » التجارة وطلب الرزق ، ويحتمل أن يريد كسب الأجر والمغفرة ، وبكل احتمال قالت فرقة و «الأجل » الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة وقوله ، { محلها } مأخوذ من إحلال المحرم ومعناه ثم أخر هذا كله إلى طواف الإفاضة ب { البيت العتيق } ، ف { البيت } على هذا التأويل مراد بنفسه ، قاله مالك في الموطأ .
جملة { لكم فيها منافع } حال من الأنعام في قوله : { وأحلت لكم الأنعام } [ الحج : 30 ] وما بينهما اعتراضات أو حال من { شعائر الله } [ الحج : 32 ] على التفسير الثاني للشعائر . والمقصود بالخبر هنا : هو صنف من الأنعام ، وهو صنف الهدايا بقرينة قوله : { ثم محلها إلى البيت العتيق } .
والمنافع : جمع منفعة ، وهي اسم النفع ، وهو حصول ما يلائم ويحفّ . وجعل المنافع فيها يقتضي أنها انتفاع بخصائصها مما يراد من نوعها قبل أن تكون هدياً .
وفي هذا تشريع لإباحة الانتفاع بالهدايا انتفاعاً لا يتلفها ، وهو رد على المشركين إذ كانوا إذا قلّدوا الهدْيَ وأشعَرُوه حظروا الانتفاع به من ركوبه وحمل عليه وشرب لبنه ، وغير ذلك .
وفي « الموطّأ » : " عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال : اركبها ؟ فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ، فقال : إنها بدنة ، فقال : اركبها ، ويلك في الثانية أو الثالثة " . والأجل المسمّى هو وقت نحرها ، وهو يوم من أيام مِنى . وهي الأيام المعدودات .
والمَحِلّ : بفتح الميم وكسر الحاء مصدر ميمي من حلّ يحِلّ إذا بلغ المكان واستقرّ فيه . وهو كناية عن نهاية أمرها ، كما يقال : بلغ الغاية ، ونهاية أمرها النحر أو الذبح .
و { إلى } حرف انتهاء مجازي لأنها لا تنحر في الكعبة ، ولكن التقرب بها بواسطة تعظيم الكعبة لأنّ الهدايا إنما شرعت تكملة لشرع الحجّ ، والحجّ قصد البيت . قال تعالى : { ولله على الناس حج البيت } [ آل عمران : 97 ] ، فالهدايا تابعة للكعبة ، قال تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] وإن كانت الكعبة لا ينحر فيها ، وإنما المناحر : مِنى ، والمروة ، وفجاج مكة أي طرقها بحسب أنواع الهدايا ، وتبيينه في السنة .
وقد جاء في قوله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } رد العجز على الصدر باعتبار مبدأ هذه الآيات وهو قوله تعالى : { وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت } [ الحج : 26 ] .