المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

افتتحت هذه السورة باستحقاق الله وحده الثناء والمدح على ما أنعم به على عباده فكل ما في السماوات والأرض له سبحانه خلقا وملكا ، وتحكي السورة قالة الكافرين في الساعة ، واستبعادهم للبعث ، ورميهم الرسول بالكذب وبالجنون ، ويردهم سبحانه إلى دلائل قدرته ، ويخوفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأشباههم فيخسف بهم الأرض ، أو يسقط عليهم قطعا من السماء ، ويذكرهم بفعله مع أوليائه . فقد ألان الحديد لداود ، ومكن سليمان وسخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ، وداود وسليمان قد شكرا النعمة ، وقليل من عباد الله الشكور ، وأتبع ذلك بما أنعم الله على سبأ من نعم لم يشكروها ، فكان لهم جنتان عن يمين وشمال ، فكانت قراهم متقاربة يسيرون إليها آمنين ، فأبطرتهم النعمة وطلبوا بعد الأسفار ، فجازاهم الله بما يجازي به الجاحدين لنعمه ، وهم قد حققوا ظن إبليس واتبعوه ، وما كان له عليهم من سلطان ، وإنما هو فتنة تميز المؤمن بالآخرة ممن هو في شك منها . ثم أخذت السورة نصف من جعلوهم آلهة بالعجز ، وتذكر أن كل نفس مسئولة عن جرمها ، وتثبت عموم رسالة الرسول ، وتنقل استبطاء المشركين ليوم الوعيد ، وله وقت معلوم .

وتحكي السورة قول الكافرين في القرآن ومحاورة المستكبرين والضعفاء ، وتضع حدا للتفاخر بالأموال والأولاد ، وأنها لا تقرب إلى الله إلا بقدر ما توجه إليه من نفع عام ، فهي ملكه ، وهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وتعرض صورا للمشركين ، فقد قالوا في رسولهم : إنه يريد أن يصدهم عما يعبد آباؤهم ، وقالوا فيما نزل عليه من آيات : إفك مفترى وسحر مبين ، وما أتوا كتبا من قبل ؟ ، وما أرسا إليهم قبلك من رسول ، وقد أرسلنا إلى من قبلهم ممن علموا قوتهم وعزتهم وأخبارهم ، فلما لم يستجيبوا أخذناهم بالعذاب . ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوضح مهمته معهم ، وأنها التذكير دون الإلجاء ، ويؤمرون بالنظر في صاحبهم ، فما به جنون ، ولا هو طالب لمال ، ودعوته للناس إلى الحق بوحي من الله تعالى ليتحقق لهم الأمن ، فإذا جاءت الساعة وفزعوا ولا مهرب أخذوا من مكان قريب ، وقالوا عند ذلك : آمنا . وأنى لهم الإيمان وقد كفروا من قبل ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأمثالهم ، إنهم جميعا كانوا في شك من أمر الدين موقع في الريبة .

1- الثناء كله حق لله - وحده - الذي له ما في السماوات وما في الأرض خلقا ومُلْكا وتدبيرا ، وله - وحده - الثناء في الآخرة لملكه الشامل ، وهو الحكيم الذي لا يخطئ ، الخبير الذي لا يغيب عنه سر .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة سبإ مكية وآياتها أربع وخمسون .

قوله : { الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض } ملكاً وخلقاً ، { وله الحمد في الآخرة } كما هو له في الدنيا ، لأن النعم في الدارين كلها منه . وقيل : الحمد لله في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال الله تعالى : { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } { الحمد لله الذي صدقنا وعده } . { وهو الحكيم الخبير* }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة سبأ وهي مكية

{ 1 - 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ }

الحمد : الثناء بالصفات الحميدة ، والأفعال الحسنة ، فللّه تعالى الحمد ، لأن جميع صفاته ، يحمد عليها ، لكونها صفات كمال ، وأفعاله ، يحمد عليها ، لأنها دائرة بين الفضل الذي يحمد عليه ويشكر ، والعدل الذي يحمد عليه ويعترف بحكمته فيه .

وحمد نفسه هنا ، على أن { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } ملكا وعبيدا ، يتصرف فيهم بحمده . { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ } لأن في الآخرة ، يظهر من حمده ، والثناء عليه ، ما لا يكون في الدنيا ، فإذا قضى اللّه تعالى بين الخلائق كلهم ، ورأى الناس والخلق كلهم ، ما حكم به ، وكمال عدله وقسطه ، وحكمته فيه ، حمدوه كلهم على ذلك ، حتى أهل العقاب ما دخلوا النار ، إلا وقلوبهم ممتلئة من حمده ، وأن هذا من جراء أعمالهم ، وأنه عادل في حكمه بعقابهم .

وأما ظهور حمده في دار النعيم والثواب ، فذلك شيء قد تواردت به الأخبار ، وتوافق عليه الدليل السمعي والعقلي ، فإنهم في الجنة ، يرون من توالي نعم اللّه ، وإدرار خيره ، وكثرة بركاته ، وسعة عطاياه ، التي لم يبق في قلوب أهل الجنة أمنية ، ولا إرادة ، إلا وقد أعطي فوق ما تمنى وأراد ، بل يعطون من الخير ما لم تتعلق به أمانيهم ، ولم يخطر بقلوبهم .

فما ظنك بحمدهم لربهم في هذه الحال ، مع أن في الجنة تضمحل العوارض والقواطع ، التي تقطع عن معرفة اللّه ومحبته والثناء عليه ، ويكون ذلك أحب إلى أهلها من كل نعيم ، وألذ عليهم من كل لذة ، ولهذا إذا رأوا اللّه تعالى ، وسمعوا كلامه عند خطابه لهم ، أذهلهم ذلك عن كل نعيم ، ويكون الذكر لهم في الجنة ، كالنَّفس ، متواصلا في جميع الأوقات ، هذا إذا أضفت ذلك إلى أنه يظهر لأهل الجنة في الجنة كل وقت من عظمة ربهم ، وجلاله ، وجماله ، وسعة كماله ، ما يوجب لهم كمال الحمد ، والثناء عليه .

{ وَهُوَ الْحَكِيمُ } في ملكه وتدبيره ، الحكيم في أمره ونهيه . { الْخَبِيرُ } المطلع على سرائر الأمور وخفاياها ولهذا فصل علمه بقوله : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة سبأ مكية وآياتها أربع وخمسون

موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية : توحيد الله ، والإيمان بالوحي ، والاعتقاد بالبعث . وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية . وبيان أن الإيمان والعمل الصالح - لا الأموال ولا الأولاد - هما قوام الحكم والجزاء عند الله . وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله وما من شفاعة عنده إلا بإذنه .

والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء ؛ وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه . وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة ، وأساليب شتى ؛ وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية .

فعن قضية البعث يقول : ( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة . قل : بلى وربي لتأتينكم ) . .

وعن قضية الجزاء يقول : ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) . .

وفي موضع آخر قريب في سياق السورة : ( وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ? أفترى على الله كذبا أم به جنة ? بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ) .

ويورد عدة مشاهد للقيامة ، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها ، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به ، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد : ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول . يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ? بل كنتم مجرمين . وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً . وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ? ) . .

وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب . وقالوا : آمنا به . وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ? وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل . إنهم كانوا في شك مريب .

وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . .

ويرد تعقيباً على التكذيب بمجيء الساعة : ( قل : بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .

ويرد قرب ختام السورة : ( قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ) . .

وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله ( الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ) . .

ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون الله : ( قل : ادعوا الذين زعمتم من دون الله ، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، وما لهم فيهما من شرك ، وما له منهم من ظهير ) . .

وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة : ( ويوم يحشرهم جميعاًثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ? قالوا : سبحانك ! أنت ولينا من دونهم . بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) .

وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ، حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق وهو العلي الكبير ) . .

وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له ، وعجزهم عن معرفة موته : ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته . فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .

وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله : ( وقال الذين كفروا : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) . . وقوله : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا : ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . وقالوا : ما هذا إلا إفك مفترى ، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم : إن هذا إلا سحر مبين ) . .

ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة : ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ) . . ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها : إنا بما أرسلتم به كافرون . وقالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين . قل : إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً ، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون . والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون ) . .

ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض : قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله . وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون . وما وقع لهؤلاء وهؤلاء . وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد .

هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى ، تعرض في كل سورة في مجال كوني ، مصحوبة بمؤثرات منوعة ، جديدة على القلب في كل مرة . ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال ، ممثلاً في رقعة السماوات والأرض الفسيحة ، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب . وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة . وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة . وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة ، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة . وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري ، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود .

فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل ؛ وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله ، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . . ( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة . قل : بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .

والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة : ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ? إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . .

والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جناً يقفهم وجهاً لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى : ( ولاتنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق . وهو العلي الكبير ) . .

أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) . . . الخ .

والمكذبون لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم ، وأمام منطق قلوبهم بعيداً عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة : ( قل : إنما أعظكم بواحدة . أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة . إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .

وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة ، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة . حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسلفنا . .

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة ؛ يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط لتيسير عرضها وشرحها . وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديداً دقيقاً . . وهذا هو طابع السورة الذي يميزها . .

تبدأ السورة بالحمد لله ، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير . وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها ، وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين ، عن علم دقيق . وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق . وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث ، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد ؛ وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفاً عليهم . .

وبذلك ينتهي الشوط الأول .

فأما الشوط الثاني فيتناول طرفاً من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته ، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله . غير متبطرين ولا مستكبرين ، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين ، ويستفتونهم في أمر الغيب . وهم لا يعلمون الغيب . وقد ظلوا يعملون لسليمان عملاً شاقاً مهيناً بعد موته وهم لا يعلمون . . . وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر . قصة سبأ . وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه : ( فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ) . . وذلك أنهم اتبعوا الشيطان ، وما كان له عليهم من سلطان ، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين !

ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله . وهم ( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ) . . وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله - ولو كانوا من الملائكة - فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف ؛ ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق . . ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض . والله مالك السماوات والأرض ، وهو الذي يرزقهم بلا شريك . . ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله ، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون . . ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه ، أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء . ( كلا بل هو الله العزيز الحكيم ) . .

والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معاً قضية الوحي والرسالة ، وموقفهم منها ، وموقف المترفين من كل دعوة ، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم ؛ ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء ، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد . ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة ، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين . كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين . . ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل . وهو لا يطلب إليهم أجراً على الهدى ، وليس بكاذب ولا مجنون . . ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة . وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية : قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب . قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد . قل : إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب . . وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف .

والآن نأخذ بعد هذا العرض الإجمالي في التفصيل . .

( الحمد لله ، الذي له ما في السماوات ، وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير . يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، وهو الرحيم الغفور . . )

ابتداء السورة التي تستعرض إشراك المشركين بالله ، وتكذيبهم لرسوله ، وشكهم في الآخرة ، واستبعادهم للبعث والنشور . ابتداء بالحمد لله . والله محمود لذاته - ولو لم يقم بحمده أحد من هؤلاء البشر - وهو محمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده ومحمود من شتى الخلائق ولو شذ البشر عن سائر خلائق الله .

ومع الحمد صفة الملك لما في السماوات وما في الأرض ؛ فليس لأحد معه شيء ، وما لأحد في السماوات والأرض من شرك ، فله - سبحانه - كل شيء فيهما . . وهذه هي القضية الأولى في العقيدة . قضية التوحيد . والمالك لكل شيء هو الله الذي لا مالك لشيء سواه في هذا الكون العريض .

( وله الحمد في الآخرة ) . . الحمد الذاتي . والحمد المرتفع من عباده . حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا ، أو يشركون معه غيره عن ضلالة ، تتكشف في الآخرة ، فيتمحض له الحمد والثناء .

( وهو الحكيم الخبير ) . . الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحكمة ؛ ويصرف الدنيا والآخرة بحكمة ؛ ويدبر أمر الوجود كله بحكمة . . الخبير الذي يعلم بكل شيء ، وبكل أمر ، وبكل تدبير علماً كاملاً شاملاً عميقاً يحيط بالأمور .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سُورة سَبأ

وهي مكية .

بسم الله الرحمن الرحيم

يخبر تعالى عن نفسه الكريمة : أن له الحمدَ المطلق في الدنيا والآخرة ؛ لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة ، المالك لجميع ذلك ، الحاكم في جميع ذلك ، كما قال : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 70 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : الجميع ملكه وعبيده وتحت قهره وتصرفه ، كما قال : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأولَى } [ الليل : 13 ] .

ثم قال : { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ } ، فهو المعبود{[24144]} أبدا ، المحمود على طول المدى . وقال : { وَهُوَ الْحَكِيمُ } أي : في أقواله وأفعاله وشرعه وقَدَره ، { الْخَبِيرُ } الذي لا تخفى عليه خافية ، ولا يغيب عنه شيء .

وقال مالك عن الزهري : خبير بخلقه ، حكيم بأمره ؛ ولهذا قال : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا }


[24144]:- زيادة من أ.