101- تلك القرى التي بعد عهدها ، وطال الأمد على تاريخها ، نقُص عليك الآن بعض أخبارها مما فيه عبرة . ولقد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم ، فلم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجيء البينات ، لتمرسهم بالتكذيب للصادقين ، فكذَّبوا رسلهم ولم يهتدوا ، وهكذا يجعل الله حجاباً على قلوب الكافرين وعقولهم ، فيخفي عليهم طريق الحق ويَنْأوْن عنه .
قوله تعالى : { تلك القرى } ، أي : هذه القرى التي ذكرت لك أمرها وأمر أهلها ، يعني : قرى قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وشعيب .
قوله تعالى : { نقص عليك من أنبائها } ، أخبارها لما فيها من الاعتبار .
قوله تعالى : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } ، بالآيات والمعجزات والعجائب .
قوله تعالى : { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك العجائب ، نظيره قوله عز وجل : { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } [ الأنعام : 28 ] . قال ابن عباس ، والسدي : يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم ، حين أخرجهم من ظهر آدم ، فأقروا باللسان ، وأضمروا التكذيب ، وقال مجاهد : معناه فما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم ، لقوله عز وجل : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] . قال يمان ابن رباب : هذا على معنى أن كل نبي أنذر قومه بالعذاب فكذبوه ، يقول : ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية ، بل كذبوا بما كذب أوائلهم ، نظيره قوله عز وجل : { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } [ الذاريات :52 ] .
قوله تعالى : { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } . أي : كما طبع الله على قلوب الأمم الخالية التي أهلكها ، كذلك يطبع الله على قلوب الكفار الذين كتب أن لا يؤمنوا من قومك .
{ تِلْكَ الْقُرَى ْ } الذين تقدم ذكرهم { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا ْ } ما يحصل به عبرة للمعتبرين ، وازدجار للظالمين ، وموعظة للمتقين .
{ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ْ } أي : ولقد جاءت هؤلاء المكذبين رسلهم تدعوهم إلى ما فيه سعادتهم ، وأيدهم اللّه بالمعجزات الظاهرة ، والبينات المبينات للحق بيانا كاملا ، ولكنهم لم يفدهم هذا ، ولا أغنى عنهم شيئا ، { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ْ } أي : بسبب تكذيبهم وردهم الحق أول مرة ، ما كان ليهديهم للإيمان ، جزاء لهم على ردهم الحق ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ْ } { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ْ } عقوبة منه . وما ظلمهم اللّه ولكنهم ظلموا أنفسهم .
والآن - وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية ، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية - يتجه بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى ، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان ، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام :
( تلك القرى نقص عليك من أنبائها ، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل . كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين . وما وجدنا لأكثرهم من عهد ، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) . .
فهو قصص من عند الله ، ما كان للرسول [ ص ] به من علم ، إنما هو وحي الله وتعليمه .
( ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات ) . .
فلم تنفعهم البينات . وظلوا يكذبون بعدها ، كما كذبوا قبلها . ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه . فالبينات لا تؤدي بالمكذبين الى الإيمان . وليس البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا . إنما كان ينقصهم القلب المفتوح ، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى . كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب . فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها ، فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب :
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ الْقُرَىَ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : هذه القرى التي ذكرت لك يا محمد أمرها وأمر أهلها ، يعني : قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أنْبَائِها فنخبرك عنها وعن أخبار أهلها ، وما كان من أمرهم ، وأمر رسل الله التي أرسلت إليهم ، لتعلم أنا ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهل الكفر بنا ، ويعلم مكذّبوك من قومك ما عاقبة أمر من كذّب رسل الله ، فيرتدعوا عن تكذيبك ، وينيبوا إلى توحيد الله وطاعته . وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهم بالبيّناتِ يقول : ولقد جاءت أهل القرى التي قصصت عليك نبأها رسلهم بالبينات يعني بالحجج : البينات . فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبُوا مِنْ قَبْلُ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذّبوا من قبل ذلك ، وذلك يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبُوا مِنْ قَبْلُ قال : ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كُرْها .
وقال آخرون : معنى ذلك : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم الله أنهم يكذّبون به يوم أخرجهم من صلب آدم عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب : فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبُوا مِنْ قَبْلُ قال : كان في علمه يوم أقرّوا له بالميثاق .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : يحقّ على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم والأنبياء ويدَعوا علم ما أخفى الله عليهم ، فإن علمه نافذ فيما كان وفيما يكون ، وفي ذلك قال : وَلَقَدْ جاءتْهُمْ رُسُلُهمْ بالبَيّناتِ فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبوُا مِنْ قَبْلُ كذلكَ يَطْبَعُ اللّهُ على قُلُوبِ الكافِرِينَ قال : نفذ علمه فيهم أيهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في زمان آدم ، وتصديق ذلك حيث قال لنوح اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعلى أُمَمٍ مِمّنْ مَعَكَ وأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمّ يَمَسّهُمْ مِنّا عَذابٌ ألِيمٌ ، وقال في ذلك : وَلَوْ رُدّوا لَعادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنّهُمْ لَكاذِبُونَ ، وفي ذلك قال وَما كُنّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وفي ذلك قال : لِئَلاّ يَكُونَ للنّاسِ على اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُل ، ولا حجة لأحد على الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ومعاينتهم ما عاينوا من عذاب الله ليؤمنوا بما كذّبوا من قبل هلاكهم ، كما قال جلّ ثناؤه : وَلَوْ رُدّوا لَعادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : بِمَا كَذّبوا مِنْ قَبْلُ قال : كقوله : وَلَوْ رُدّوا لَعادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ .
قال أبو جعفر : وأشبه هذه الأقوال بتأويل الاَية وأولاها بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب والربيع ، وذلك أن من سبق في علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به ، فلن يؤمن أبدا ، وقد كان سبق في علم الله تعالى لمن هلك من الأمم التي قصّ نبأهم في هذه السورة أنه لا يؤمن أبدا ، فأخبر جلّ ثناؤه عنهم ، أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذّبون في سابق علمه قبل مجيء الرسل وعند مجيئهم إليهم . ولو قيل تأويله : فما كان هؤلاء الذين ورثوا الأرض يا محمد من مشركي قومك من بعد أهلها الذين كانوا بها من عاد وثمود ، ليؤمنوا بما كذّب به الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده ، كان وجها ومذهبا ، غير أن لا أعلم قائلاً قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن . وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه : لو ردّوا ما كانوا ليؤمنوا ، فتأويل لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا من خبر عن الرسول صحيح . وإذا كان ذلك كذلك ، فأولى منه بالصواب ما كان عليه من ظاهر التنزيل دليل .
وأما قوله : كذلكَ يَطْبَعُ اللّهُ على قُلُوبِ الكافِرِينَ فإنه يقول تعالى ذكره : كما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك نبأهم يا محمد في هذه السورة حتى جاءهم بأس الله فهلكوا به ، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كُتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا من قومك .
{ تلك القرى } يعني قرى الأمم المار ذكرهم . { نقص عليك من أنبائها } حال إن جعل { القرى } خبرا وتكون إفادته بالتقييد بها ، وخبر إن جعلت صفة ويجوز أن يكونا خبرين و{ من } للتبعيض أي نقص بعض أنبائها ، ولها أنباء غيرها لا نقصها . { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } بالمعجزات . { فما كانوا ليؤمنوا } عند مجيئهم بها . { بما كذّبوا من قبل } بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب ، أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولا حين جاءتهم الرسل ، ولم تؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة ، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم . { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر .
{ تلك } ابتداء ، و { القرى } قال قوم هو نعت والخبر { نقصّ } ويؤيد هذا أن القصد إنما الإخبار بالقصص .
قال القاضي أبو محمد : والظاهر عندي أن { القرى } هي خبر الابتداء ، وفي ذلك معنى التعظيم لها ولمهلكها ، وهذا كما قيل في { ذلك الكتاب } إنه ابتداء وخبر ، وكما قال صلى الله عليه وسلم «أولئك الملأ » ، وكقول أبي الصلت : تلك المكارم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا كثير ، وكأن في اللفظ معنى التحسر على القرى المذكورة ، والمعنى : نقص عليك من أنباء الماضين لتتبين العبر وتعلم المثلات التي أوقعها الله بالماضين ثم ابتدأ الخبر عن جميعهم بقوله { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام يحتمل أربعة وجوه من التأويل ، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما تبين به تكذيبهم من قبل ، وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصرامة عليه ويؤيد هذا قوله { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليؤمنوا أي ما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد ، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر ، بل كفر كلهم ومشى بعضهم عن سنن بعض في الكفر .
قال القاضي أبو محمد : أشار إلى هذا القول النقاش ، فكأن الضمير في قوله { كانوا } يختص بالآخرين ، والضمير في قوله { كذبوا } يختص بالقدماء منهم ، والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد : فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم — لو ردوا ?لى الدنيا ومكنوا من العودة — ليؤمنوا بما كذبوا في حال حياتهم ودعاء الرسول لهم ، قاله مجاهد وقرنه بقوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وهذه أيضاً صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر ، بل هي غاية في ذلك ، والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى أنهم مكذبون به ، فجعل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرسل ، وذكر هذا التأويل المفسرون وقرنوه بأن الله عز وجل حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق ، وهو قول أبي بن كعب .
لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل الله بالتعيين وبالتعميم ، صارت للسامعين كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها ، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى ، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق .
وجملة : { تلك القرى } مستأنفة استئناف الفذلكة لما قبلها من القصص من قوله : { لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ الأعراف : 59 ] ثم قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء } [ الأعراف : 94 ] الآية .
و { القرى } يجوز أن يكون خبراً عن اسم الإشارة لأن استحضار القرى في الذهن بحيث صارت كالمشاهد للسامع ، فكانت الإشارة إليها إشارة عبرة بحالها ، وذلك مفيد للمقصود من الإخبار عنها باسمها لمن لا يجهل الخبر كقوله تعالى : { هذا ما كنزتم لأنفسكم } [ التوبة : 35 ] أي هذا الذي تشاهدونه تُكْوَون به هو كنزكم ، وهم قد علموا أنه كنزهم ، وإنما أريد من الإخبار بأنه كنزهم إظهارُ خطإ فعلهم ، ويجوز أن يكون القرى بياناً لاسم الإشارة .
وجملة : { نقص عليك من أنبائها } إما حال من { القرى } على الوجه الأول .
وفائدة هذه الحال الامتنان بذكر قَصصها ، والاستدلال على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ علمه الله من علم الأولين ما لم يسبق له علمه ، والوعدُ بالزيادة من ذلك ، لما دل عليه قوله : { نقص } من التجدد والاستمرار ، والتعريضُ بالمعرضين عن الإتعاظ بأخبارها .
وإمّا خبر عن اسم الإشارة على الوجه الثاني في محمل قوله : { القرى } .
و ( منْ ) تبعيضية لأن لها أنباء غير ما ذكر هنا مما ذكر بعضه في آيات أخرى وطوى ذكر بعضه لعدم الحاجة إليه في التبليغ .
والأنباء : الأخبار ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } في سورة الأنعام ( 34 ) .
والمراد بالقرى وضمير أنبائها : أهلها ، كما دل عليه الضمير في قوله : رسلهم .
وجملة : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } عطف على جملة : { تلك القرى } لمناسبة ما في كلتا الجملتين من قصد التنظير بحال المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وجمع « البينات » يشير إلى تكرر البينات مع كل رسول ، والبينات : الدلائل الدالة على الصدق وقد تقدمت عند قوله تعالى : { قد جاءتكم بينة من ربكم } في قصة ثمود في هذه السورة ( 73 ) .
( والفاء ) في قوله : { فما كانوا ليؤمنوا } لترتيب الإخبار بانتفاء إيمانهم عن الإخبار بمجيء الرسل إليهم بما من شأنه أن يحملهم على الإيمان .
وصيغة { ما كانوا ليؤمنوا } تفيد مبالغة النفي بلام الجحود الدالة على أن حصول الإيمان كان منافياً لحالهم من التصلب في الكفر . وقد تقدم وجه دلالة لام الجحود على مبالغة النفي عند قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية في سورة آل عمران ( 79 ) . والمعنى : فاستمر عدم إيمانهم وتمكّن منهم الكفر في حين كان الشأن أن يقلعوا عنه .
{ وما كذبوا } موصول وصلته وحُذف العائد المجرور على طريقة حذف أمثاله إذا جر الموصول بمثل الحرف المحذوف ، ولا يشترط اتحاد متعلقي الحرفين على ما ذهب إليه المحققون منهم الرضي كما في هذه الآية .
وما صْدَقُ ( ما ) الموصولة : ما يدل عليه { كذبوا } ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بشيء كذبوا به من قبل مما دُعوا إلى الإيمان به من التوحيد والبعث . وشأن ( ما ) الموصولة أن يراد بها غير العاقل ، فلا يكون ما صْدقُ ( ما ) هنا الرسل ، بل ما جاءت به الرسل ، فلذلك كان فعل { كذبوا } هنا مقدراً متعلّقهُ لفظُ ( به ) كما هو الفرق بين كذّبه وكذّب به ، قال تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه } [ الأعراف : 64 ] وقال : { وكذّب به قومُك وهو الحق } [ الأنعام : 66 ] وحُذف المتعلق هنا إيجازاً ، لأنه قد سبق ذكر تكذيب أهل القرى ، ابتداء من قوله تعالى : { وما أرسلنا في قرية من نبيء إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون } [ الأعراف : 94 ] وقد سبق في ذلك قوله : { ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } [ الأعراف : 96 ] ولهذا لم يحذف متعلق فعل { كذبوا } في نظير هذه الآية من سورة يونس .
والمعنى : ما أفادتهم البينات أن يؤمنوا بشيء كان بَدَرَ منهم التكذيب به في ابتداء الدعوة ، فالمضاف المحذوف الذي دل عليه بناء { قبلُ } على الضم تقديره : من قبلِ مجيء البينات .
وأسند نفي الإيمان إلى ضمير جميع أهل القرى باعتبار الغالب ، وهو استعمال كثير ، وسيُخرج المؤمنون منهم بقوله : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } .
ومعنى قولهن : { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } مثلَ ذلك الطبع العجيب المستفاد من حكاية استمرارهم على الكفر ، والمؤذن به فعل { يطبع } ، وقد تقدم نظائره غير مرة ، منها عند قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
وتقدم معنى الطبع عند قوله تعالى : { بل طبع الله عليها بكفرهم } في سورة النساء ( 155 ) .
وإظهار المسند إليه في جملة { يطبع الله } دون الإضمار : لما في إسناد الطبع إلى الاسم العلم من صراحة التنبيه على أنه طبع رهيب لا يغادر للهدى منفذاً إلى قلوبهم كقوله تعالى : { هذا خلق الله } [ لقمان : 11 ] دون أن يقول : هذا خلقي ، ولهذا اختير له الفعل المضارع الدال على استمرار الختم وتجدده .
والقلوب : العقول ، والقلب ، في لسان العرب : من أسماء العقل ، وتقدم عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } في سورة البقرة ( 7 ) .
والتعريف في { الكافرين } تعريف الجنس ، مفيد للاستغراق ، أي : جميع الكافرين ممن ذكر وغيرهم .
وفي قوله : { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } إلى آخر الآية ، تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن ما لقيه من قومه هو سنّة الرسل السابقين ، وأن ذلك ليس لتقصير منه ، ولا لضعف آياته ، ولكنه للختم على قلوب كثير من قومه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هذه القرى التي ذكرت لك يا محمد أمرها وأمر أهلها، يعني: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب "نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أنْبَائِها "فنخبرك عنها وعن أخبار أهلها، وما كان من أمرهم، وأمر رسل الله التي أرسلت إليهم، لتعلم أنا ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهل الكفر بنا، ويعلم مكذّبوك من قومك ما عاقبة أمر من كذّب رسل الله، فيرتدعوا عن تكذيبك، وينيبوا إلى توحيد الله وطاعته. "وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهم بالبيّناتِ" يقول: ولقد جاءت أهل القرى التي قصصت عليك نبأها رسلهم بالبينات يعني بالحجج: البينات. "فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبُوا مِنْ قَبْلُ" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذّبوا من قبل ذلك، وذلك يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام...
وقال آخرون: معنى ذلك: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم الله أنهم يكذّبون به يوم أخرجهم من صلب آدم عليه السلام. عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب: فَمَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذّبُوا مِنْ قَبْلُ قال: كان في علمه يوم أقرّوا له بالميثاق...
وقال آخرون: معنى ذلك: فما كانوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ومعاينتهم ما عاينوا من عذاب الله ليؤمنوا بما كذّبوا من قبل هلاكهم، كما قال جلّ ثناؤه: "وَلَوْ رُدّوا لَعادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ"...
وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها بالصواب، القول الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب والربيع، وذلك أن من سبق في علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به، فلن يؤمن أبدا، وقد كان سبق في علم الله تعالى لمن هلك من الأمم التي قصّ نبأهم في هذه السورة أنه لا يؤمن أبدا، فأخبر جلّ ثناؤه عنهم، أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذّبون في سابق علمه قبل مجيء الرسل وعند مجيئهم إليهم. ولو قيل تأويله: فما كان هؤلاء الذين ورثوا الأرض يا محمد من مشركي قومك من بعد أهلها الذين كانوا بها من عاد وثمود، ليؤمنوا بما كذّب به الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده، كان وجها ومذهبا، غير أن لا أعلم قائلاً قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن. وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه: لو ردّوا ما كانوا ليؤمنوا، فتأويل لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا من خبر عن الرسول صحيح. وإذا كان ذلك كذلك، فأولى منه بالصواب ما كان عليه من ظاهر التنزيل دليل.
وأما قوله: "كذلكَ يَطْبَعُ اللّهُ على قُلُوبِ الكافِرِينَ" فإنه يقول تعالى ذكره: كما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك نبأهم يا محمد في هذه السورة حتى جاءهم بأس الله فهلكوا به، كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كُتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا من قومك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
...فإن قلت: ما معنى الإخبار عن القرى بنقص عليك من أنبائها؟ قلت: معناه: أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله من قبل مجيء الرسل أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أوّلاً حين جاءتهم الرسل، أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرين، لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرار المواعظ عليهم وتتابع الآيات. ومعنى اللام تأكيد النفي وأنّ الإيمان كان منافياً لحالهم في التصميم على الكفر. وعن مجاهد: هو كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28]. {كَذَلِكَ} مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{تلك} ابتداء، و {القرى} قال قوم هو نعت والخبر {نقصّ} ويؤيد هذا أن القصد إنما الإخبار بالقصص.
والظاهر عندي أن {القرى} هي خبر الابتداء، وفي ذلك معنى التعظيم لها ولمهلكها، وهذا كما قيل في {ذلك الكتاب} إنه ابتداء وخبر، وكما قال صلى الله عليه وسلم «أولئك الملأ»... وكأن في اللفظ معنى التحسر على القرى المذكورة، والمعنى: نقص عليك من أنباء الماضين لتتبين العبر وتعلم المثلات التي أوقعها الله بالماضين ثم ابتدأ الخبر عن جميعهم بقوله {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل}.
وهذا الكلام يحتمل أربعة وجوه من التأويل، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما تبين به تكذيبهم من قبل، وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصرامة عليه ويؤيد هذا قوله {كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين}، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليؤمنوا أي ما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد. والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر، بل كفر كلهم ومشى بعضهم عن سنن بعض في الكفر.
أشار إلى هذا القول النقاش، فكأن الضمير في قوله {كانوا} يختص بالآخرين، والضمير في قوله {كذبوا} يختص بالقدماء منهم. والثالث من الوجوه يحتمل أن يريد: فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم — لو ردوا إلى الدنيا ومكنوا من العودة — ليؤمنوا بما كذبوا في حال حياتهم ودعاء الرسول لهم، قاله مجاهد وقرنه بقوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} وهذه أيضاً صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر، بل هي غاية في ذلك. والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى أنهم مكذبون به، فجعل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لا سيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرسل، وذكر هذا التأويل المفسرون وقرنوه بأن الله عز وجل حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق، وهو قول أبي بن كعب.
وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق، فذكرها الله تعالى تنبيها لقوم محمد عليه الصلاة والسلام عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انقضى ذلك على هذا الوجه الأعظم والنظم الأبلغ الأحكم، وكانت هذه القرى بحيث تعرفها العرب ويرونها، أشار إليهم حثّاً على الاعتبار بهم، ولما كان أهلها جديرين بالبعد عنهم والهرب منهم، عبر عنهم بأداة البعد فقال: {تلك القرى} أي محالّ القبائل الخمس، ويجوز أن يكون البعد لعظمة ما حصل لأهلها من العذاب، ويؤيده قوله مبيناً لحالها: {نقص عليك}. ولما كان العاقل من يكفيه أدنى شيء، هوّل الأمر بأن أخبارها تفوت الحصر، وأن ما قص منها يكفي المعتبر، فقال: {من أنبائها} أي أخبارها العظيمة الهائلة المطابقة للواقع شيئاً بعد شيء كما يفعل من يتتبع الأثر، وأنث الضمير لأن لرؤية القرى أنفسها مدخلاً في معرفة أخبار أهلها. ولما كان المقام مقام العجب من التكذيب بعد ذلك البيان، كان ربما تخيل متخيل أنهم لم يؤتوا بالبيان الشافي، فشهد الله تعالى للرسل عليهم السلام تصديقاً لمن قال منهم: قد جاءتكم بينة، بقوله: {ولقد} أي والحال أنه قد {جاءتهم} أي أهل القرى لأنهم المقصودون بالذات {رسلهم} أي الذين أرسلناهم إليهم {بالبينات فما} أي فلم يتسبب عن ذلك بسبب طبعنا على قلوبهم إلا أنهم ما {كانوا} موفقين {ليؤمنوا} أي عند مجيئها، وقد أكد منافاة حالهم الإيمان باللام والكون أتم تأكيد {بما} أي بالذي {كذبوا} أي به، وحذفها أدل على الزجر من مطلق التكذيب وأوفق لمقصود السورة. ولما كان تكذبيهم غير مستغرق للزمان الماضي، أدخل الجارّ فقال: {من قبل} أي قبل مجيء الرسل إليهم أو بتكذيبهم الواقع منهم للرسل فيما أتوا به عن الله من قبل الأخذ بغتة، أو من قبل مجيء الرسل بالآيات، فإنهم أول ما جاؤوهم فاجأوهم بالتكذيب، فجوزوا على تكذيب الحق من غير نظر في دليل بالطبع على قلوبهم فأتوهم. بالمعجزات فأصروا على ذلك التكذيب ووقفوا لذلك الطبع مع حظوظهم، ومنعتهم شماختهم وشدة شكائمهم عن الإيمان لئلا يقال: إنهم خافوا أولا فيما وقع منهم من التكذيب فكانوا فيه على غير بصيرة، أو إنهم خافوا ثانياً ما قرعتهم به الرسل من الوعيد، فدخلوا جبناً فيما يعلمون بطلانه، فكان تزيين هذا لهم طبعاً على قلوبهم، فكأنه قيل: إن هذا العجب هل يقع في مثل ذلك أحد؟ فقيل:نعم، مثل ما طبعنا على قلوبهم حتى صارت مع الفهم لا تنتفع، فكأنها لا تفهم فكأنها لا تسمع {كذلك يطبع الله} أي الجامع لصفات الكبر ونعوت الجلال بما يجعل من الرين بما له من العظمة {على قلوب الكافرين} أي كل من يغطي ما أعطاه الله من نور العقل بما تدعوه إليه نفسه من الهوى عريقاً في الاتصاف بذلك فيترك آيات الله.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وجه الخطاب في هاتين الآيتين إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تسليته وتثبيت فؤاده بما في قصص أولئك الرسل مع أقوامهم من العبر والسنن التي بين فقهها وما فيها من الحكم في الآيات السبع التي قبلهما.
قال تعالى: {تلك القرى نقصّ عليك من أنبائها} كلام مستأنف قفى به على جملة قصص الرسل عليهم السلام التي تقدمت وما عطف عليها من بيان حكمها وفقهها فكانت كالفذلكة لها، فالقرى هنا هي المعهودة في هذه القصص، وحكمة تخصيصها بالذكر أنها كانت في بلاد العرب وما جاورها وكان من بعد قوم نوح من العرب، وكان أهل مكة وغيرهم من العرب الذين هم أول من وجهت إليهم دعوة الإسلام يتناقلون بعض أخبارها مبهمة مجملة، وكانت على هذا كله قد طبعت على غرار واحد في تكذيب الرسل، والتماري فيم جاءوا به من النذر، إلى أن حل بهم النكال، وأخذوا بعذاب الاستئصال، فالعبرة فيها كلها واحدة.
وليس كذلك قوم موسى فإنهم آمنوا. وإنما كذب فرعون وملؤه فعذبوا، ولذلك أخر قصته. والمعنى: تلك القرى التي بعد عهدها، وطال الأمد على تاريخها، وجهل قومك أيها الرسول حقيقة حالها، نقص عليك الآن بعض أنبائها، وهو ما فيه العبرة منها، وإنما قال نقص لا قصصنا لأن هذه الآية نزلت مع تلك القصص لا بعدها.
{ولقد جاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا من قبل كذلك} أي ولقد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم، وبالآيات التي اقترحوها عليهم لإقامة حجتهم، بأن جاء كل رسول قومه بما أعذر به إليهم، فلم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجيء البينات بما كانوا كذبوا به من قبل مجيئها عند بدء الدعوة إلى توحيد الله تعالى وعبادته وحده بما شرعه وترك الشرك والمعاصي. وقيل إن الباء للسببية والمعنى فما كانوا ليؤمنوا بعد بعثته بسبب تعودهم تكذيب الحق قبلها، وهو تأويل واه جدا، فإن قوله فما كانوا نفي للشأن، وليس من شأن كل من كذب بشيء أن يصر عليه بعد ظهور البينات على خطئه فيه، ولكن شأن بعض المكذبين عنادا أو تقليدا أن يصروا عليه بعد إقامة البينة لأنها لا قيمة لها عندهم، فهم إما جاحد معاند ضل على علم، وإما مقلد يأبى النظر والعلم. على أن ما قالوه لا يفهم من الآية إلا بتكلف يخالفه المتبادر من اللفظ، فالعجب ممن اقتصر عليه ولم يفهم غيره. وسيأتي في سورة يونس بعد ذكر خلاصة نوح عليه السلام {ثمّ بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبيّنات فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين} [يونس: 74] فالمراد بهؤلاء الرسل الذين بعثوا بعد نوح: مَن ذكروا في سورة الأعراف، ولذلك قال هنا وهناك {ثم بعثنا من بعدهم موسى} وحينئذ يحتمل أن يقال في آية الأعراف إن أهل تلك القرى في جملتهم ومجموعهم لم يكن من شأنهم أن يؤمن المتأخر منهم بما كذب به المتقدم وهم قوم نوح بالنسبة إلى الجميع ثم قوم هود بالنسبة إلى قوم صالح الخ والراجح المختار هو الأول – ويليه هذا- والثاني باطل البتة.
{كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} أي مثل هذا الذي وصف من عناد هؤلاء وإصرارهم على ضلالهم، وعدم تأثير الدلائل والبينات في عقولهم، يكون الطبع على قلوب الذين صار الكفر صفة لازمة لهم، بحسب سنة الله تعالى في أخلاق البشر وشؤونهم، وذلك بأن يأنسوا بالكفر وأعماله حتى تستحوذ أوهامه على أفكارهم، ويملأ حب شهواته جوانب قلوبهم، ويصير وجدانا تقليديا لهم، لا يقبلون فيه بحثا، ولا يسمعون فيه نقدا، فيكون كالسكة التي طبعت في أثناء لين معدنها بصهره وإذابته ثم جمدت فلا تقبل نقشا ولا شكلا آخر.
ومن وجوه تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالآية إعلامه أن من وصلوا بالإصرار على الجحود والعناد أو التقليد إلى هذه الدرجة من فساد الفطرة وإهمال استعمال العقل لا يؤمنون بالبينات وإن وضحت، ولا بالآيات وإن اقترحت، فقد كان كفار مكة يقترحون عليه الآيات وكان يتمنى أن يؤتيه الله ما اقترحوا منها حرصا على إيمانهم، حتى بين الله تعالى له هذه الحقائق من طباع البشر وأخلاقهم، وتقدم هذا البيان في آيات من أوائل سورة الأنعام وأثنائها، ومما يناسب ما هنا منها قوله تعالى: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها قل إنّما الآيات عند اللّه وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 108، 109] فقوله تعالى: {كما لم يؤمنوا به أول مرة} بمعنى قوله هنا {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن -وقد انتهى السياق من بيان السنة الجارية، ولمس بها الوجدان البشري تلك اللمسات الموحية- يتجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلعه على العاقبة الشاملة لابتلاء تلك القرى، وما تكشف عنه من حقائق عن طبيعة الكفر وطبيعة الإيمان، ثم عن طبيعة البشر الغالبة كما تجلت في هذه الأقوام: (تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات، فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل. كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين. وما وجدنا لأكثرهم من عهد، وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين).. فهو قصص من عند الله، ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم به من علم، إنما هو وحي الله وتعليمه. (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات).. فلم تنفعهم البينات. وظلوا يكذبون بعدها، كما كذبوا قبلها. ولم يؤمنوا بما كانوا قد كذبوا به من قبل أن تأتيهم البينة عليه. فالبينات لا تؤدي بالمكذبين الى الإيمان. وليس البينة هي ما كان ينقصهم ليؤمنوا. إنما كان ينقصهم القلب المفتوح، والحس المرهف والتوجه إلى الهدى. كان ينقصهم الفطرة الحية التي تستقبل وتنفعل وتستجيب. فلما لم يوجهوا قلوبهم إلى موحيات الهدى ودلائل الإيمان طبع الله على قلوبهم وأغلقها، فما عادت تتلقى ولا تنفعل ولا تستجيب: (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..لما تكرر ذكر القرى التي كذب أهلها رسل الله بالتعيين وبالتعميم، صارت للسامعين كالحاضرة المشاهدة الصالحة لأن يشار إليها، فجاء اسم الإشارة لزيادة إحضارها في أذهان السامعين من قوم محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبروا حالهم بحال أهل القرى، فيروا أنهم سواء فيفيئوا إلى الحق. وجملة: {نقص عليك من أنبائها} إما حال من {القرى} على الوجه الأول.
وفائدة هذه الحال الامتنان بذكر قَصصها، والاستدلال على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ علمه الله من علم الأولين ما لم يسبق له علمه، والوعدُ بالزيادة من ذلك، لما دل عليه قوله: {نقص} من التجدد والاستمرار، والتعريضُ بالمعرضين عن الاتعاظ بأخبارها.
وجمع « البينات» يشير إلى تكرر البينات مع كل رسول، والبينات: الدلائل الدالة على الصدق وقد تقدمت عند قوله تعالى: {قد جاءتكم بينة من ربكم} في قصة ثمود في هذه السورة (73).
.. والمعنى: ما أفادتهم البينات أن يؤمنوا بشيء كان بَدَرَ منهم التكذيب به في ابتداء الدعوة، فالمضاف المحذوف الذي دل عليه بناء {قبلُ} على الضم تقديره: من قبلِ مجيء البينات.
وأسند نفي الإيمان إلى ضمير جميع أهل القرى باعتبار الغالب، وهو استعمال كثير، وسيُخرج المؤمنون منهم بقوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}...
..هذا هو المراد في سرد القصص بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوضحه الحق في موضع آخر من القرآن فقال: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (من الآية 120 سورة هود): فإذا ما حدث لك من أمتك وقومك شيء من العناد والإصرار والمكابرة فاعلم أنك لست بدعا من الرسل؛ لأن كل رسول قد قابلته هذه الموجة الإلحادية من القوم الذين خاطبهم. وإذا كان كل رسول يأخذ حظه من البلاء بقدر ما في رسالته من العلو فلابد أن تأخذ أنت ابتلاءات تساوي ابتلاءات الرسل جميعا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
..وهكذا يختم الله هذا الفصل الذي حدثنا فيه عن هؤلاء الأقوام الذين قصّ علينا أمرهم، فقد كانوا قوماً ضالّين، يعبدون الأصنام ويشركون بالله غيره، ويكذبون بكل الحقائق الدينية، وأرسل الله إليهم رسله بالبينات، فصمّوا آذانهم عن الاستماع إليهم، وأغلقوا قلوبهم عن التفكير والإيمان، لأنهم لا يريدون أن تتغيّر حياتهم الفكرية والعملية عما درجوا عليه من عقائد آبائهم وأجدادهم وتقاليدهم، وهذا هو السبب في انغلاق القلب عن الحقّ، لأن توجهات الإنسان وتطلعاته هي التي تفتح قلبه وتغلقه، في ما جعله الله من أسبابٍ في خلق الإنسان، وهذا ما أثاره الله في قوله: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} من حقائق الإيمان {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} برسله وآياته...