66- وإن لكم - أيها الناس - في الإبل والبقر والغنم لموعظة تعتبرون بها ، وتنتقلون بتدبر عطائها إلى العلم بالصانع المبدع الحكيم ، ونسقيكم من بعض ما في بطونها من بين فضلات الطعام والدم لبناً صافياً سهل التناول للشاربين{[113]} .
قوله تعالى : { وإن لكم في الأنعام لعبرةً } ، لعظة ، { نسقيكم } ، بفتح النون هاهنا وفي المؤمنين ، قرأ ابن نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب والباقون بضمها ، وهما لغتان . { مما في بطونه } ، قال الفراء : رد الكناية إلى النعم ، والأنعام واحد . ولفظ النعم مذكر . قال أبو عبيدة ، والأخفش : النعم يذكر ويؤنث ، فمن أنث : فالمعنى الجمع ، ومن ذكر : فحكم اللفظ . قال الكسائي : رده إلى ما يعني في بطون ما ذكرنا . وقال المؤرخ : الكناية مردودة إلى البعض والجزء ، كأنه قال : نسقيكم مما في بكونه اللبن ، إذ ليس لكلها لبن ، واللبن فيه مضمر . { من بين فرث } ، وهو ما في الكرش من الثقل ، فإذا خرج منه لا يسمى فرثاً . { ودم لبناً خالصاً } ، من الدم والفرث ، ليس عليه لون دم ، ولا رائحة الرفث . { سائغاً للشاربين } ، هنيئاً ، يجري على السهولة في الحلق . وقيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط . قال ابن عباس : إذا أكلت الدابة العلف ، واستقر في كرشها ، وطحنته ، فكان أسفله فرثاً ، وأوسطه اللبن ، وأعلاه الدم ، والكبد مسلطة عليها ، تقسمها بتقدير الله تعالى ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو .
{ 66 - 67 } { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
أي : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ } ، التي سخرها الله لمنافعكم . { لَعِبْرَةً } ، تستدلون بها على كمال قدرة الله وسعة إحسانه ، حيث أسقاكم من بطونها المشتملة على الفرث والدم ، فأخرج من بين ذلك لبنا خالصا من الكدر ، سائغا للشاربين للذته ؛ ولأنه يسقي ويغذي ، فهل هذه إلا قدرة إلهية لا أمور طبيعية .
فأي شيء في الطبيعة يقلب العلف الذي تأكله البهيمة والشراب الذي تشربه من الماء العذب والملح لبنا خالصا سائغا للشاربين ؟
وعبرة أخرى في الأنعام تشير إلى عجيب صنع الخالق ، وتدل على الألوهية بهذا الصنع العجيب :
( وإن لكم في الأنعام لعبرة ، نسقيكم مما في بطونه - من بين فرث ودم - لبنا خالصا سائغا للشاربين ) فهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام مم هو ؟ إنه مستخلص من بين فرث ودم . والفرث ما يتبقى في الكرش بعد الهضم ، وامتصاص الأمعاء للعصارة التي تتحول إلى دم . هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم ، فإذا صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب ، الذي لا يدري أحد كيف يكون .
وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم ، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم ، عملية عجيبة فائقة العجب ، وهي تتم في الجسم في كل ثانية ، كما تتم عمليات الاحتراق . وفي كل لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد . . ولا يملك إنسان سوى الشعور أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة لا تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز الإنساني ، الذي لا يقاس إليه أعقد جهاز من صنع البشر ، ولا إلى خلية واحدة من خلاياه التي لا تحصى .
ووراء الوصف العام لعمليات الامتصاص والتحول والاحتراق تفصيلات تدير العقل ، وعمل الخلية الواحدة في الجسم في هذه العملية عجب لا ينقضي التأمل فيه .
وقد بقى هذا كله سرا إلى عهد قريب . وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر ، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلا على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة . وما يملك إنسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل . ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن . فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة .
والقرآن - يعبر هذه الحقائق العلمية البحتة - يحمل أدلة الوحي من الله في خصائصه الأخرى لمن يدرك هذه الخصائص ويقدرها ؛ ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين المتعنتين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشّارِبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام ، التي نُسْقيكم مما في بطونه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : " نُسْقِيكُمْ " فقرأته عامة أهل مكة والعراق والكوفة والبصرة ، سوى عاصم ، ومن أهل المدينة أبو جعفر : " نُسْقِيكُمْ " بضم النون . بمعنى : أنه أسقاهم شرابا دائما . وكان الكسائي يقول : العرب تقول : أسقيناهم نَهْرا ، وأسقيناهم لبنا : إذا جعلته شِرْبا دائما ، فإذا أرادوا أنهم أعطوه شربة ، قالوا : سقيناهم ، فنحن نَسْقِيهم ، بغير ألف . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر ، ومن أهل العراق عاصم : «نَسْقِيكم » ، بفتح النون ، من سقَاه الله ، فهو يَسْقيه . والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السقي غير دائم ، وتنزعها فيما كان دائما ، وإن كان أشهر الكلامين عندها ، ما قال الكسائي ، يدلّ على ما قلنا من ذلك ، قول لَبيد في صفة سحاب :
سَقَى قَوْمي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى *** نُمَيْرا والقَبائِلَ مِنْ هِلالِ
فجمع اللغتين كلتيهما في معنى واحد . فإذا كان ذلك كذلك ، فبأية القراءتين قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أعجب القراءتين إليّ قراءة ضمّ النون ؛ لما ذكرت من أن الكلامين عند العرب فيما كان دائما من السقي أسقى بالألف ، فهو يُسْقِي . وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم له ، غير منقطع عنهم . وأما قوله : { ممّا فِي بُطُونِهِ } وقد ذكر الأنعام قبل ذلك ، وهي جمع ، والهاء في البطون موحدة ، فإن لأهل العربية في ذلك أقوالاً ، فكان بعض نحويي الكوفة يقول : النّعم والأنعام شيء واحد ؛ لأنهما جميعا جمعان ، فردّ الكلام في قوله : { مِمّا فِي بُطُونِهِ } ، إلى التذكير ، مرادا به معنى النّعم ، إذ كان يؤدي عن الأنعام ويستشهد لقوله ذلك ، برجز بعض الأعراب :
إذا رأيْتَ أنْجُما منَ الأسَدْ *** جَبْهَتهُ أوِ الخَرَاةِ والكَتَدْ
بال سُهَيْلٌ في الفَضِيخِ فَفَسَدْ *** وطابَ ألْبانُ اللّقاحِ فَبَردْ
ويقول : رجع بقوله : «فبرد » إلى معنى اللبن ؛ لأن اللبن والألبان تكون في معنى واحد . وفي تذكير النعم قول آخر :
أكُلّ عامٍ نَعَمٌ تَحُوونَهْ *** يُلْقحُهُ قَوْمٌ وتَنْتِجُونَهْ
فذكرّ النعم . وكان غيره منهم يقول : إنما قال : مِمّا فِي بُطُونِهِ ؛ لأنه أراد : مما في بطون ما ذكرنا ، وينشد في ذلك رَجزا لبعضهم :
*** مِثْلُ الفِراخِ نُتّفَتْ حَوَاصِلُهْ ***
إنّ المَنِيّةَ والحُتُوفَ كلاهُما *** يُوفي المخَارِمَ يَرْقُبانِ سَوَادِي
فقال : «كلاهما » ، ولم يقل : «كلتاهما » وقول الصّلتان العَبْديّ :
إنّ السّماحَةَ والمُرُوءَة ضُمّنا *** قَبْرا بمَرْوَ على الطّرِيقِ الوَاضِحِ
وعَفْرَاءُ أدْنَى النّاس مِنّي مَوَدّةً *** وعَفْرَاءُ عَنّي المُعْرِضُ المُتَوَانِي
ولم يقل : المعرضة المتوانية وقول الاَخرة :
إذا النّاسُ ناسٌ والبِلادُ بِغبْطَةٍ *** وَإذْ أُمّ عَمّارٍ صَديقٌ مُساعِفُ
ويقول : كل ذلك على معنى هذا الشيء ، وهذا الشخص والسواد ، وما أشبه ذلك . ويقول : من ذلك قول الله تعالى ذكره : { فَلَمّا رأى الشّمْسَ بازِغَةً قالَ هذَا رَبّي } ، بمعنى : هذا الشيء الطالع ، وقوله : { إنّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ } ، ولم يقل ذكرها ؛ لأن معناه : فمن شاء ذكر هذا الشيء ، وقوله : { وَإنّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ فَلَمّا جاءَ سُلْيمانَ } ، ولم يقل «جاءت » .
وكان بعض البصريين يقول : قيل : مِمّا فِي بُطُونِه ؛ ِ لأن المعنى : نسقيكم من أيّ الأنعام كان في بطونه . ويقول : فيه اللبن مضمر ، يعني : أنه يسقي من أيها كان ذا لبن ، وذلك أنه ليس لكلها لبن ، وإنما يُسقى من ذوات اللبن . والقولان الأوّلان أصحّ مخرجا على كلام العرب من هذا القول الثالث .
وقوله : { مِنْ بينِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنا خالِصا } ، يقول : نسقيكم لبنا ، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصا يقول : خلص من مخالطة الدم والفرث فلم يختلطا به . { سائِغا للشّارِبِينَ } ، يقول : يسوغ لمن شربه ، فلا يَغَصّ به ، كما يَغَصّ الغاصّ ببعض ما يأكله من الأطعمة . وقيل : إنه لم يَغَصّ أحد باللبن قَطّ .
{ وإن لكم في الأنعام لعبرة } ، دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم . { نسقيكم مما في بطونه } ، استئناف لبيان العبرة ، وإنما ذكر الضمير ووحده ها هنا ؛ للفظ . وأنثه في سورة " المؤمنين " ؛ للمعنى ، فإن الأنعام اسم جمع ، ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال ، كأخلاق وأكياس ، ومن قال إنه جمع " نعم " ، جعل الضمير للبعض ، فإن اللبن لبعضها دون جميعها ، أو لواحدة ، أو له على المعنى ، فإن المراد به الجنس . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر ، ويعقوب : { نسقيكم } ، بالفتح هنا ، وفي " المؤمنين " . { من بين فرث ودم لبناً } ، فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث ، وهو : الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن البهيمة إذا اعتلفت ، وانطبخ العلف في كرشها ، كان أسفله فرثا ، وأوسطه لبنا ، وأعلاه دما ، ولعله إن صح ، فالمراد : أن أوسطه يكون مادة اللبن ، وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن ؛ لأنهما لا يتكونان في الكرش ، بل الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش ، ويبقي ثقله ، وهو : الفرث ، ثم يمسكها ريثما يهضمها هضما ثانيا ، فيحدث أخلاطا أربعة ، معه مائية ، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين ، وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ، ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها ، فيجري إلى كل حقه ، على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم ، ثم إن كان الحيوان أنثى : زاد أخلاطها على قدر غذائها ؛ لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها ، فيندفع الزائد أولا إلى الرحم ؛ لأجل الجنين ، فإذا انفصل ، انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع ، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض ، فيصير لبناً ، ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الخلاط والألبان ، وإعداد مقارها ومجاريها ، والأسباب المولدة لها ؟ ، والقوى المتصرفة فيها ، كل وقت على ما يليق به ، اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته ، و{ من } ، الأولى : تبعيضية ، لأن اللبن بعض ما في بطونها ، والثانية : ابتدائية ، كقولك : سقيت من الحوض ؛ لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء ، وهي متعلقة ب { سقيكم } ، أو حال من : { لبناً } ، قدم عليه لتنكيره ، وللتنبيه على أنه موضع العبرة . { خالصا } ، صافيا ، لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث ، أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه . { سائغا للشاربين } ، سهل المرور في حلقهم ، وقرئ " سيِّغاً " بالتشديد والتخفيف .
و { الأنعام } ، هي الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز ، و { العبرة } ، الحال المعتبر فيها ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، في رواية أبي بكر وابن مسعود بخلاف ، والحسن وأهل المدينة : «نَسقيكم » ، بفتح النون ، من سقى يسقي ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم : «نُسقيكم » ، بضم النون ، من أسقى يُسقي ، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة ، قال بعض أهل اللغة : هما لغتان بمعنى واحد ، وقالت فرقة : تقول لمن تسقيه بالشفة ، أو في مرة واحدة : سقيته . وتقول لمن تُعِدُّ سقيه أو تمنحه شرباً : أسقيته . وهذا قول من قرأ : «نسقيكم » ؛ لأن ألبان الأنعام من المستمر للبشر ، وأنشد من قال إنهما لغتان بمعنى ، قول لبيد : [ الوافر ]
سقى قومي بني بدر وأسقى . . . نميراً والقبائل من هلال{[7355]}
وذلك لازم ؛ لأنه لا يدعو لقومه بالقليل ، وقرأ أبو رجاء : «يسقيكم » بالياء ، أي : يسقيكم الله ، وقرأت فرقة : «تسقيكم » ، بالتاء ، وهي ضعيفة . وكذلك اختلف القراء في سورة المؤمنين{[7356]} ، وقوله : { مما في بطونه } ، الضمير عائد على الجنس وعلى المذكور ، كما قال الشاعر : مثل الفراخ نتفت حواصله{[7357]} ، وهذا كثير لقوله تعالى : { إن هذه تذكرة } [ الإنسان : 29 ] ، { فمن شاء ذكره }{[7358]} [ المدثر : 55 ] وقيل : إنما قال : { مما في بطونه } ؛ لأن الأنعام والنعم واحد ، فرد الضمير على معنى النعم . وقالت فرقة : الضمير عائد على البعض ، إذ الذكور لا ألبان لها ، فكأن العبرة إنما هي في الأنعام ، و «الفرث » : ما ينزل إلى الأمعاء ، و «السائغ » : السهل في الشرب اللذيذ ، وقرأت فرقة : «سيّغاً » ، بشد الياء ، وقرأ عيسى الثقفي : «سيْغاً » ، بسكون الياء ، وهي تخفيف من سيغ ، كميت وهين ، وليس وزنهما فعلاً ؛ لأن اللفظة واوية ، ففعل منها سوغ ، وروي أن اللبن لم يشرق به أحد قط ، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم{[7359]} .
هذه حُجّة أخرى ومنّة من المنن الناشئة عن منافع خلق الأنعام ، أدمج في منّتها العبرة بما في دلالتها على بديع صنع الله تبعاً لقوله تعالى : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء } إلى قوله : { لرؤوف رحيم } [ سورة النحل : 5 7 ] .
ومناسبة ذكر هذه النّعمة هنا أن بألبان الأنعام حياة الإنسان كما تحيا الأرض بماءِ السماء ، وأن لآثار ماء السماء أثراً في تكوين ألبان الحيوان بالمرعى .
واختصّت هذه العبرة بما تنبّه إليه من بديع الصّنع والحكمة في خلق الألبان بقوله : { مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً } ، ثم بالتذّكير بما في ذلك من النّعمة على الناس إدماجاً للعبرة بالمنّة .
فجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } معطوفة على جملة { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } [ سورة النحل : 65 ] ، أي كما كان القوم يسمعون عِبرة في إنزال الماء من السماء لكم في الأنعام عبرة أيضاً ، إذ قد كان المخاطبون وهم المؤمنون القومَ الذين يسمعون .
وضمير الخطاب التفات من الغيبة . وتوكيدها ب { إن } ولام الابتداء كتأكيد الجملة قبلها .
و { الأنعام } : اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز .
والعبرة : ما يُتّعظ به ويُعتبر . وقد تقدم في نهاية سورة يوسف .
وجملة { نسقيكم مما في بطونه } واقعة موقع البيان لجملة { وإن لكم في الأنعام لعبرة } .
والبطون : جمع بطن ، وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كله من معدة وكبد وأمْعاء .
و ( من ) في قوله تعالى : { مما في بطونه } ابتدائية ، لأن اللبن يفرز عن العلف الذي في البطون . وما صْدَقُ « ما في بطونه » العلف . ويجوز جعلها تبْعيضية ويكون ما صدق « ما في بطونه » هو اللبن اعتداداً بحالة مُروره في داخل الأجهزة الهضمية قبل انحداره في الضرع .
و { من } في قوله تعالى : { من بين فرث } زائدة لتوكيد التوسّط ، أي يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم .
ووقع البيان ب { نسقيكم } دون أن يقال : تشربون أو نحوه ، إدماجاً للمنّة مع العبرة .
ووجه العبرة في ذلك أن ما تحتويه بطون الأنعام من العلف والمرعى ينقلب بالهضم في المعدة ، ثم الكَبِد ، ثم غدد الضرع ، مائعاً يسقى وهو مفرز من بين أفراز فرث ودم .
والفرث : الفضلات التي تركها الهضم المَعِدي فتنحدر إلى الأمعاء فتصير فَرثا . والدمّ : إفراز تفرزه الكبد من الغذاء المنحدر إليها ويصعد إلى القلب فتدفعه حركة القلب الميكانيئية إلى الشرايين والعروق ويبقى يَدور كذلك بواسطة القلب . وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى : { حرّمت عليكم الميتة والدم } في سورة العقود ( 3 ) .
ومعنى كون اللّبن من بين الفرث والدم أنه إفراز حاصل في حين إفراز الدّم وإفراز الفرث . وعلاقته بالفرث أن الدم الذي ينحدر في عروق الضرع يمرّ بجوار الفضلات البوليّة والثفلية ، فتفرزه غدد الضرع لبَناً كما تفرزه غدد الكليتين بَولاً بدون معالجة زائدة ، وكما تفرز تكاميش الأمعاء ثَفلاً بدون معالجة بخلاف إفراز غدد المثانة للمَنِيّ لتوقّفه على معالجة ينحدر بها الدم إليها .
وليس المراد أن اللّبن يتميّع من بين طبقتيّ فرث ودم ، وإنما الذي أوهم ذلك مَن تَوهمه حمْله { بينَ } على حقيقتها من ظرف المكان ، وإنما هي تستعمل كثيراً في المكان المجازي فيراد بها الوسط بين مرتبتين كقولهم : الشجاعة صفة بين التهوّر والجبن . فمن بلاغة القرآن هذا التعبيرُ القريب للأفهام لكل طبقة من الناس بحسب مبالغ علمهم ، مع كونه موافقاً للحقيقة .
والمعنى : إفراز ليس هو بدم لأنه أليَنُ من الدم ، ولأنه غير باققٍ في عروق الضرع كبقاء الدّم في العروق ، فهو شبيه بالفضلات في لزوم إفرازه ، وليس هو بالفضلة لأنه إفراز طاهر نافع مغذّ ، وليس قذراً ضاراً غير صالح للتغذية كالبول والثفل .
وموقع { من بين فرث ودم } موقع الصفة ل { لبناً } ، قدمت عليه للاهتمام بها لأنها موضع العبرة ، فكان لها مزيد اهتمام ، وقد صارت بالتقديم حالاً .
ولما كان اللبن يحصل في الضرع لا في البطن جعل مفعولاً ل { نَسقيكم } ، وجعل { مما في بطونه } تبييناً لمصدره لا لمَورده ، فليس اللبن مما في البطون ؛ ولذلك كان { مما في بطونه } متقدماً في الذكر ليظهر أنه متعلق بفعل { نسقيكم } وليس وصفاً لِْلّبن .
وقد أحاط بالأوصاف التي ذكرناها لِلْلّبن قوله تعالى : { خالصاً سائغاً للشاربين } . فخلوصه نزاهته مما اشتمل عليه البول والثفل ، وسوغه للشاربين سلامته مما يشتمل عليه الدم من المضار لمن شَربه ، فلذلك لا يسيغه الشارب ويتجهّمه .
وهذا الوصف العجيب من معجزات القرآن العلمية ، إذ هو وصف لم يكن لأحد من العرب يومئذٍ أن يعرف دقائق تكوينه ، ولا أن يأتي على وصفه بما لو وَصف به العالم الطبيعي لم يصفه بأوجز من هذا وأجمعَ .
وإفراد ضمير الأنعام في قوله تعالى : { مما في بطونه } مراعاة لكون اللفظ مفرداً لأن اسم الجمع لفظ مفرد ، إذ ليس من صيغ الجموع ، فقد يراعى اللفظ فيأتي ضميره مفرداً ، وقد يراعى معناه فيعامل معاملة الجموع ، كما في آية سورة المؤمنين ( 21 ) { نسقيكم مما في بطونها } والخالص : المجرّد مما يكدّر صفاءه ، فهو الصافي . والسائغ : السهل المرور في الحلق .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب { نسقيكم } بفتح النون مضارع سَقى . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف بضم النون على أنه مضارع أسْقى ، وهما لغتان ، وقرأه أبو جعفر بمثناة فوقية مفتوحة عوضاً عن النون على أن الضمير للأنعام .