129- وإن العدل مع النساء بالمحبة الدائمة التي لا تشوبها شائبة ، والمساواة بين محبتها بحيث يبادلها ما تبادله ، أمر غير ممكن دائماً ، وغير ممكنة كذلك المساواة في المحبة بين الزوجات إذا كان عنده أكثر من واحدة ، ولكن إذا حرصتم فلا تجوروا عليها وتميلوا كل الميل إلى غيرها وتتركوها لا هي ذات زوج ولا هي مطلقة ، ويجب أن تصلحوا أنفسكم وتقيموا الأسرة على الصلاح من غير إفساد . وتتقوا الله فإن الله يغفر لكم ويرحمكم إذ من شأنه المغفرة والرحمة .
قوله تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } ، أي : لن تقدروا أن تسووا بين النساء في الحب ، وميل القلب .
قوله تعالى : { ولو حرصتم } على العدل . { فلا تميلوا } ، أي : إلي التي تحبونها .
قوله تعالى : { كل الميل } في القسم والنفقة ، أي : لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم .
قوله تعالى : { فتذروها كالمعلقة } ، أي فتدعو الأخرى كالمعلقة ، لا أيما ولا ذات بعل . وقال قتادة : كالمحبوسة ، وفي قراءة أبي بن كعب : كأنها مسجونة ، وروي عن أبي قلابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه ، فيعدل ويقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) ، ورواه بعضهم عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة رضي الله عنها متصلاً .
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) .
{ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ْ }
يخبر تعالى : أن الأزواج لا يستطيعون وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء ، وذلك لأن العدل يستلزم وجود المحبة على السواء ، والداعي على السواء ، والميل في القلب إليهن على السواء ، ثم العمل بمقتضى ذلك . وهذا متعذر غير ممكن ، فلذلك عفا الله عما لا يستطاع ، ونهى عما هو ممكن بقوله : { فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ْ } أي : لا تميلوا ميلا كثيرا بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة ، بل افعلوا ما هو باستطاعتكم من العدل .
فالنفقة والكسوة والقسم ونحوها عليكم أن تعدلوا بينهن فيها ، بخلاف الحب والوطء ونحو ذلك ، فإن الزوجة إذا ترك زوجها ما يجب لها ، صارت كالمعلقة التي لا زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج ، ولا ذات زوج يقوم بحقوقها .
{ وَإِنْ تُصْلِحُوا ْ } ما بينكم وبين زوجاتكم ، بإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس ، احتسابا وقياما بحق الزوجة ، وتصلحوا أيضا فيما بينكم وبين الناس ، وتصلحوا أيضا بين الناس فيما تنازعوا فيه ، وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم .
{ وَتَتَّقُوا ْ } الله بفعل المأمور وترك المحظور ، والصبر على المقدور . { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ْ } يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير في الحق الواجب ، ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن .
ومرة أخرى نجدنا أمام المنهج الفريد ، وهو يواجه واقع النفس البشرية وملابسات الحياة البشرية ، بالواقعية المثالية ، أو المثالية الواقعية ، ويعترف بما هو كامن في تركيبها من ازدواج عجيب فريد :
( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة . وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما . وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيمًا ) .
إن الله الذي فطر النفس البشرية ، يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها . ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاما . خطاما لينظم حركتها فقط ، لا ليعدمها ويقتلها !
من هذه الميول أن يميل القلب البشري إلى إحدى الزوجات ويؤثرها على الأخريات . فيكون ميله إليها أكثر من الأخرى أو الأخريات . وهذا ميل لا حيلة له فيه ؛ ولا يملك محوه أو قتله . . فماذا ؟ إن الإسلام لا يحاسبه على أمر لا يملكه ؛ ولا يجعل هذا إثما يعاقبه عليه ؛ فيدعه موزعا بين ميل لا يملكه وأمر لا يطيقه ! بل إنه يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء - ولو حرصوا - لأن الأمر خارج عن إرادتهم . . ولكن هنالك ما هو داخل في إرادتهم . هناك العدل في المعاملة . العدل في القسمة . العدل في النفقة . العدل في الحقوق الزوجية كلها ، حتى الابتسامة في الوجه ، والكلمة الطيبة باللسان . . وهذا ما هم مطالبون به . هذا هو الخطام الذي يقود ذلك الميل . لينظمه لا ليقتله !
( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) . .
فهذا هو المنهي عنه . الميل في المعاملة الظاهرة ، والميل الذي يحرم الأخرى حقوقها فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة . . ومعه الهتاف المؤثر العميق في النفوس المؤمنة ؛ والتجاوز عما ليس في طاقة الإنسان .
وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيمًا .
ولأن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بجملة ما فيها من مزاج فريد مؤلف من القبضة من الطين والنفخة من روح الله . وبجملة ما فيها من استعدادات وطاقات . وبواقعيتها المثالية ، أو مثاليتها الواقعية ، التي تضع قدميها على الأرض ، وترف بروحها إلى السماء ، دون تناقض ودون انفصام .
لأن الإسلام كذلك . . كان نبي الإسلام [ ص ] هو الصورة الكاملة للإنسانية حين تبلغ أوجها من الكمال ؛ فتنمو فيها جميع الخصائص والطاقات نموا متوازنا متكاملا في حدود فطرة الإنسان .
وكان هذا الرسول [ ص ] وهو يقسم بين نسائه فيما يملك ، ويعدل في هذه القسمة ، لا ينكر أنه يؤثر بعضهن على بعض . وأن هذا خارج عما يملك . فكان يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك . فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب " [ أخرجه أبو داود ] . .
{ وَلَن تَسْتَطِيعُوَاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ } : لن تطيقوا أيها الرجال أن تسوّوا بين نسائكم وأزواجكم في حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن في ذلك ، مما لا تملكونه . وليس إليكم . { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } يقول : ولو حرصتم في تسويتكم بينهنّ في ذلك . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوح حَرَصْتُمْ } قال : واجب أن لا تستطيعوا العدل بينهن .
{ فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ } يقول : فلا تميلوا بأهوائكم إلى من لم تملكوا محبته منهنّ كلّ الميل ، حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهنّ عليكم من حقّ في القسم لهنّ ، والنفقة عليهنْ ، والعشرة بالمعروف . { فَتَذَرُها كالمُعَلّقَةِ } يقول : فتذروا التي هي سوى التي ملتم بأهوائكم إليها كالمعلقة ، يعني : كالتي لا هي ذات زوج ، ولا هي أيم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ما قلنا في قوله : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوح حَرَصْتُمْ } :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءه وَلَوْ حَرَصْتُمْ } قال : بنفسه في الحبّ والجماع .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن يونس ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } قال بنفسه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن أشعث ، وهشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألته عن قوله : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } فقال : في الجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : في الحبّ والجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سهل ، عن عمرو ، عن الحسن : في الحبّ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : في الحبّ والجماع .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : قال أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن قوله : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أن تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } قال : في المودة ، كأنه يعني الحبّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } يقول : لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهنّ ولو حرصت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : اللهمّ أما قلبي فلا أملك ، وأما سوى ذلك فأرجو أن أعدل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } يعني : في الحبّ والجماع .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قالا جميعا : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : «اللّهُمّ هَذَا قَسْمِي فِيما أمْلِكُ ، فَلا تَلُمْنِي فِيما تَمْلِكُ وَلا أمْلِكُ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين بن عليّ ، عن زائدة ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن ابن أبي مليكة قال : نزلت هذه الاَية في عائشة : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : في الشهوة والجماع .
حدثنا ابن وكيع ، حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : في الجماع .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، قال : قال سفيان في قوله : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } قال : في الحبّ والجماع .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } قال : ما يكون من بدنه وقلبه ، فذلك شيء لا يستطيع يملكه .
ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله : { فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْل } :
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن عون ، عن محمد ، قال : قلت لعبيدة : { فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ } قال : بنفسه .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن محمد ، عن عبيدة ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة : { فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ } قال هشام : أظنه قال : في الحبّ والجماع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حبان بن موسى ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله : { كُلّ المَيْلِ } قال : بنفسه .
حدثنا بحر بن نصر الخولاني ، قال : حدثنا بشر بن بكر ، قال : أخبرنا الأوزاعي ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن قول الله : { فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ } قال : بنفسه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : { فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ } قال : في الغشيان والقسم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ } : لا تَعَمّدوا الإساءة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني عن مجاهد : { فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ } قال : يتعمد أن يسيء ويظلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْل } قال : هذا في العمل في مبيته عندها ، وفيما تصيب من خيره .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْل } يقول : يميل عليها فلا ينفق عليها ، ولا يقسم لها يوما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد : { فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْل } قال : يتعمد الإساءة ، يقول : لا تميلوا كل الميل ، قال : بلغني أنه الجماع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ، فيعدل ويقول : «اللّهُمّ هَذهِ قِسْمَتِي فِيما أمْلِكُ ، فَلا تَلُمْنِي فِيما تَمْلِكُ وَلا أمْلِكُ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بمثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «مَنْ كانَتْ لَهُ امْرأتانِ يَمِيلُ مَعَ إحْدَاهُمَا على الأُخْرَى جاءَ يَوْمَ القِيامَةِ أحَدُ شِقّيْهِ ساقِطٌ » .
ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله : { فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } قال : تذروها لا هي أيّم ، ولا ذات زوج .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : { فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } قال : لا أيما ولا ذات بعل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن مبارك ، عن الحسن¹ { فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } قال : لا مطلقة ، ولا ذات بعل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } : أي كالمحبوسة أو كالمسجونة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } قال : كالمسجونة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن أبي جعفر ، عن الربيع في قوله : { فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } يقول : لا مطلقة ، ولا ذات بعل .
حدثني المثنى ، قال : ثني إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله : { فَلا تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } لا مطلقة ، ولا ذات بعل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، عن ابن جريج ، قال : بلغني عن مجاهد : { فَتَذَرُها كالمُعَلّقَةِ } قال : لا أيما ، ولا ذات بعل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح : { فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } ليس بأيم ، ولا ذات زوج .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي وأبو خالد وأبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : لا تدعها ، كأنها ليس لها زوج .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَتَذَرُوها كالمُعَلّقةِ } قال : لا أيّما ، ولا ذات بعل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } قال : المعلقة : التي ليست بمخلاّة ونفسها فتبتغي لها ، وليست متهيئة كهيئة المرأة من زوجها ، لا هي عند زوجها ولا مفارقة فتبتغي لنفسها ، فتلك المعلقة .
قال أبو جعفر : وإنما أمر الله جلّ ثناؤه بقوله : { فَلا تَميلُوا كُلّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ } الرجال بالعدل بين أزواجهن فيما استطاعوا فيه العدل بينهنّ من القسمة بينهنّ والنفقة ، وترك الجور في ذلك بإيثار أحداهنّ على الأخرى فيما فرض عليهم العدل بينهن فيه ، إذ كان قد صفح لهم عما لا يطيقون العدل فيه بينهن ، مما في القلوب من المحبة والهوى .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ تُصْلِحُوا وَتَتّقُوا فإنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن تصلحوا أعمالكم أيها الناس ، فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم وما فرض الله لهنّ عليكم من النفقة والعشرة بالمعروف ، فلا تجوروا في ذلك . { وتَتّقُوا } يقول : وتتقوا الله في الميل الذي نهاكم عنه ، بأن تميلوا لإحداهنّ على الأخرى ، فتظلموها حقها مما أوجبها الله له عليكم . { فإنّ اللّهَ كانَ غَفُورا } يقول : فإن الله يستر عليكم ما سلف منكم من ميلكم وجوركم عليهنّ قبل ذلك بتركه عقوبتكم عليه ، ويغطي ذلك عليكم بعفوه عنكم ما مضى منكم في ذلك قبل . { رَحِيما } يقول : وكان رحيما بكم إذا تاب عليكم ، فقبل توبتكم من الذي سلف منكم من جورتكم في ذلك عليهنّ ، وفي ترخيصه لكم الصلح بينكم وبينهن ، بصفحهن عن حقوقهنّ لكم من القسم على أن يطلقن .
{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } لأن العدل أن لا يقع ميل البتة وهو متعذر فلذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : " هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " . { ولو حرصتم } أي على تحري ذلك وبالغتم فيه . { فلا تميلوا كل الميل } بترك المستطاع والجور على المرغوب عنها ، فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله . { فتذروها كالمعلقة } التي ليست ذات بعل ولا مطلقة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل " . { وإن تصلحوا } ما كنتم تفسدون من أمورهن . { وتتقوا } فيم يستقبل من الزمان . { فإن الله كان غفورا رحيما } يغفر لكم ما مضى من ميلكم .
وقوله تعالى { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } الآية . معناه : العدل التام على الإطلاق المستوي في الأفعال والأقوال والمحبة والجماع وغير ذلك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول : «اللهم هذا فعلي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك »{[4323]} يعني ميله بقلبه ، وكان عمر ابن الخطاب يقول : اللهم قلبي فلا أملكه ، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل ، وروي أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وميله بقلبه إلى عائشة ، فوصف الله تعالى حالة البشر ، وأنهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض الأزواج دون بعض ، ونشاطهم إليهن وبشرهم معهن ، ثم نهى عن «الميل كل الميل » وهو أن يفعل فعلاً يقصده من التفضيل وهو يقدر أن لا يفعله ، فهذا هو { كل الميل } ، وإن كان في أمر حقير ، فكأن الكلام { فلا تميلوا } النوع الذي هو كل الميل وهو المقصود من قول أو فعل ، وقوله تعالى { فتذروها كالمعلقة } أي لا هي أيم ولا ذات زوج ، وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر ، ولا على ما علق منه انحمل ، وهذا مطرد في قولهم في المثل : [ ارض من المركب بالتعليق ]{[4324]} ، وفي عرف النحويين في تعليق الفعل ، ومنه في حديث أم زرع قول المرأة : [ زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق ]
وقرأ أبيّ بن كعب «فتذروها كالمسجونة » وقرأ عبد الله بن مسعود «فتذروها كأنها معلقة » ثم قال تعالى { وإن تصلحوا وتتقوا } أي وإن تلتزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون { فإن الله كان غفوراً رحيماً } لما لا تملكونه متجاوزاً عنه ، وقال الطبري : معنى الآية ، غفوراً لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : فعلى هذا فهي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم ، واقعوا المحظور في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاء في التي قبل { وإن تحسنوا } وفي هذه { وإن تصلحوا } لأن الأول في مندوب إليه ، وهذه في لازم ، لأن الرجل له هناك أن لا يحسن وأن يشح ويصالح بما يرضيه ، وفي هذه ليس له أن يصلح ، بل يلزمه العدل فيما يملك .
ثم عذر الناس في شأن النساء فقال : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } أي تمامَ العدل . وجاء ب ( لن ) للمبالغة في النفي ، لأنّ أمر النساء يغالب النفس ، لأنّ الله جعل حُسن المرأة وخُلقها مؤثّراً أشدّ التأثير ، فربّ امرأة لبيبة خفيفة الروح ، وأخرى ثقيلة حمقاء ، فتفاوتهنّ في ذلك وخلوّ بعضهنّ منه يؤثّر لا محالة تفاوتاً في محبّة الزوج بعض أزواجه ، ولو كان حريصاً على إظهار العدل بينهنّ ، فلذلك قال { ولو حرصتم } ، وأقام الله ميزان العدل بقوله : { فلا تميلوا كلّ الميل } ، أي لا يُفْرط أحدكم بإظهار الميل إلى أحداهنّ أشدّ الميل حتّى يسوء الأخرى بحيث تصير الأخرى كالمعلّقة . فظهر أنّ متعلّق { تميلوا } مقدّر بإحداهنّ ، وأنّ ضمير { تذروها } المنصوب عائد إلى غير المتعلّق المحذوف بالقرينة ، وهو إيجاز بديع .
والمعلّقة : هي المرأة التي يهجرها زوجها هجراً طويلاً ، فلا هي مطلّقة ولا هي زوجة ، وفي حديث أمّ زرع « زوجي العَشَنَّق إنْ أنطِقْ أطَلَّقْ وإن أسكُتْ أعَلَّقْ » ، وقالت ابنة الحُمَارس :
إنّ هي إلاّ حِظَةٌ أو تَطليق *** أو صلَف أو بينَ ذاك تَعْليق
قد دلّ قوله : { ولن تستطيعوا إلى قوله : فلا تميلوا كلّ الميل } على أنّ المحبّة أمر قهري ، وأنّ للتعلّق بالمرأة أسباباً توجبه قد لا تتوفّر في بعض النساء ، فلا يُكلّف الزوج بما ليس في وسعه من الحبّ والاستحسان ، ولكنّ من الحبّ حظّاً هو اختياري ، وهو أن يَرُوض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته ، وتحمُّل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع ، وحسن المعاشرة لها ، حتّى يحصّل من الألف بها والحنوّ عليها اختياراً بطول التكرّر والتعوّد .
ما يقوم مقام الميل الطبيعي . فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله : { فلا تميلوا كلّ الميل } ، أي إلى إحداهنّ أو عن إحداهنّ .