فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (129)

{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ( 129 ) }

{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء{[549]} } أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا يميل فيه البتة لما جلبت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه في المحبة ونقصان هذه ، وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية ، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم اللهم : هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك{[550]} ، رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن المنذر عن عائشة وإسناده صحيح .

قال ابن مسعود : العدل بين النساء الجماع ، وقال الحسن : الحب وكذا المحادثة والمجالسة والنظر إليهن والتمتع { ولو حرصتم } يعني على العدل والتسوية بينهن في الحب وميل القلب .

{ فلا تميلوا كل الميل } إلى التي تحبونها في القسم والنفقة ، ولما كانوا لا يستطيعون ذلك ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه نهاهم عز وجل عن أن يميلوا كل الميل ، لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم وداخل تحت طائفتهم ، فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهن إلى الأخرى كل الميل .

{ فتذروها } أي الأخرى الممال عنها { كالمعلقة } التي ليست ذات زوج ولا مطلقة تشبيها بالشيء هو معلق غير مستقر على شيء لا في السماء ولا في الأرض ، أي لا أيما ولا ذات زوج ، وقرأ أبي بن كعب فتذروها كالمسجونة لا هي مخلصة فتتزوج ، ولا هي ذات بعل فيحسن إليها .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأهل السنن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كانت له امرأتان فمال على إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط{[551]} .

{ وإن تصلحوا } ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء والعدل بينهن في القسم والحب { وتتقوا } الجور في القسم وكل الميل الذي نهيتم عنه { فإن الله كان غفورا رحيما } بكم لا يؤاخذكم بما فرط منكم من الميل إلى بعضهن دون بعض .


[549]:يظن بعض الناس أن هذه الآية تمنع تعدد الزوجات وفاته أن آخرها صريح في الإباحة حيث تقول (فلا تميلوا كل الميل) فهذا لا يقال لصاحب الزوجة الواحدة وتضم إلى هذا أن من الثابت أن بعض الصحابة كانوا يتزوجون أكثر من واحدة وقصة حفصة بنت عمر معروفة وهي أنها لما مات زوجها عرضها عمر على عثمان وعمر كان يعلم أن عثمان متزوج.
[550]:وكذلك يأخذ بعضهم على الإسلام أنه يبيح الزوجات ويظن أنه بذلك يدافع عن المرأة وأن التعدد ضار بها وقد قرأنا كلمة للأستاذ العقاد جاء فيها (والأمر الذي يغفل عنه الكثيرون أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام إنما هو في حقيقته رخصة للمرأة التي تريده باختيارها، وليس رخصة للرجل إذا أراد فمهما يكن من إرادة الرجل فهو لا يستطيع البناء بامرأة واحدة لا تختاره فضلا عن الجمع بين امرأتين أو أربع على هواه وإذا كان قبول المرأة شرطا واجبا لصحة كل زوج فالرخصة إذا في مصلحة المرأة التي تختاره وترى من أحوالها في الأسرة أنها الرابحة في هذا الاختيار. ولقد عرفنا نحن كما عرف غيرنا أحوالا غير نادرة كانت المرأة توازن فيها بين جميع الاعتبارات فتخرج من هذه الموازنة بتفضيل تعدد الزوجات على ما عداه).
[551]:صحيح الجامع6391 وسلسلة الأحاديث الصحيحة277. وأبو داود كتاب النكاح38- النسائي كتاب النساء باب2.