اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (129)

وفيه قولان :

الأول : لن{[9997]} تَقْدِرُوا في التَّسْوِية بَيْنَهُنَّ في مَيْل الطِّبَاع ، من الحُبِّ ومَيْل القلب ، وإذا لم تَقْدِرُوا{[9998]} عليه ، لَمْ تكُونوا مكَلَّفين به .

قالت المُعْتَزِلَة{[9999]} : هذا يدلُّ على أن تَكْلِيفَ ما لا يُطَاق ، غيْر وَاقِع ولا جائز الوُقُوع ، وقد تَقَدَّم إلزامهم{[10000]} في العِلْمِ والدَّاعِي ، وقد يُجَاب أيْضاً : بأنه - تعالى - إنما نَفَى الاسْتِطَاعة الَّتي هي من جِهَة المكَلَّفِ{[10001]} ، ولَمْ يَنْفِ التَّكْلِيف الَّذِي{[10002]} هو من جهة الشَّارع ، فالآيَة لا تَدُلُّ على نَفْيِ التَّكْلِيفِ ، وإنما تَدُلُّ على نفي اسْتِطَاعة المكَلَّف{[10003]} .

الثاني : لا يستطيعون التَّسْوِيَةَ بينهن في الأقْوَال والأفْعَال ؛ لأن التَّفَاوُت في الحُبِّ ، يوجِبُ التَّفَاوُت في نتائِجِ الحُبِّ ؛ لأن الفِعل بدون الدَّاعِي ، [ و ]{[10004]} مع قيام الصَّارف مُحَالٌ .

ثم قال : " فَلاَ تَمِيلُواْ " أي : إلى التي تُحِبُّونها ، " كُلَّ المَيْل " في القِسْمة ، واللَّفْظ والمَعْنَى : أنكم لَسْتُم تَحْتَرِزُون عن حُصُول التَّفَاوُت في المَيْل القَلْبِي ؛ لأن ذَلِك خَارِجٌ عن وُسْعكُم ، ولكنكم مَنْهِيُّون عن إظْهَار ذلك [ التفاوت ]{[10005]} في القَوْل والفِعْل .

" روي عن رسُول الله صلى الله عليه وسلم : [ أنه ]{[10006]} كان يَقْسِم ، ويقول : " هذا قَسَمِي فيما أمْلِكُ ، وأنْت أعْلَم بما لا أمْلِكُ " " {[10007]} .

قوله : " كُلَّ المَيْلِ " : نصبٌ على المَصْدرية ، وقد تقرر أن " كل " بحسَبِ ما تُضَاف إليه ، إنْ أضيفَت إلى مَصْدرٍ - كانت مَصْدَراً - أو ظرفٍ ، أو غَيْرِه ؛ فكذلك .

قوله : " فَتَذَرُوهَا " فيه وجهان :

أحدهما : أنه مَنْصُوب بإضْمَارِ " أنْ " في جَوابِ النَّهْي .

والثاني : أنه مَجْزُوم عَطْفاً على الفِعْل قبله ، أي : فلا تَذرُوها ، ففي الأوَّل نَهْيٌ عن الجمع بينهما ، وفي الثاني نهيٌ عن كلٍّ على حِدَتِه وهو أبلغُ ، والضَّميرُ في " تَذَرُوها " يعود على المُميلِ عنها ؛ لدلالة السِّياق عليها .

قوله : " كالمُعلَّقة " : حال من " ها " في " تَذَروها " فيتعلَّق بمَحْذُوف ، أي : فتذُروها مُشْبهةً المُعَلَّقة ، ويجُوز عندي : أن يَكُون مفعولاً ثانياً ؛ لأن قولك : " تَذَر " بمعنى : تَتْرك ، و " تَرَك " يتعدَّى لاثْنَيْن إذا كان بِمَعْنَى : صيَّر .

والمعنى : لا تَتَّبِعُوا هَوَاكُم ، فَتَدَعُوا الأخْرى كالمُعَلَّقَة{[10008]} لا أيِّماً ، ولا ذَات بَعْل ؛ كما أن الشَّيء المُعَلَّق لا [ يَكُون ]{[10009]} على الأرْضِ ، ولا على السَّماءِ ، وفي قِرَاءة{[10010]} أبَيِّ : " فَتَذَرُوها كالمَسْجُونَة " ، وفي الحَدِيث : " من كَانَت له امْرأتَانِ يميلُ مع إحْدَاهُمَا ، جاء يَوْم القِيَامة وأحدُ شِقَّيْه مَائِلٌ " {[10011]} .

قوله : " وإن تُصْلِحُوا " بالعدل في القَسْم ، و " تَتَّقُوا " : الجور { فإن الله كَانَ غَفُوراً رَحِيماً } لما حَصَل في القَلْبِ من المَيْلِ إلى بَعْضِهِنَّ دون بَعْضٍ .

وقيل المعنى : وإن تُصْلحوا ما مَضَى من مَيْلِكُم ، وتَتَدَارَكُوه بالتَّوْبَة ، وتَتَّقُوا{[10012]} في المُسْتَقْبَل عن مِثْلِه ، غفر اللَّه لكم ذَلِكَ ، وهذا أوْلَى ؛ لأن التَّفَاوُت في المَيْل القَلْبي ليس في الوُسْع ، فلا يحتاج إلى المَغْفِرَة .


[9997]:في ب: أن لا.
[9998]:في ب: يقدروا.
[9999]:ينظر: تفسير الرازي 11/54.
[10000]:في ب: لإلزامهم.
[10001]:في ب: التكيف.
[10002]:في أ: الديني.
[10003]:في ب: التكليف.
[10004]:سقط في ب.
[10005]:سقط في أ.
[10006]:سقط في ب.
[10007]:هذا الحديث مخرج من وجهين الأول: من رواية أبي قلابة مرسلا أخرجه الترمذي في السنن 3/446، كتاب النكاح باب ما جاء في التسوية بين الضرائر عقب الحديث(1140)، وقال:( وهذا- أي الإرسال- أصح من حديث حماد بن سلمة) وحديث حماد بن سلمة، من طريق عائشة مرفوعا، وقال ابن حجر في التخليص الحبير 3/139، كتاب النكاح (44)، في التخفيف في النكاح، الحديث (1466) (وأعله النسائي، والترمذي، والدارقطني بالإرسال، وقال أبو زرعة: لا أعلم أحدا تابع حماد بن سلمة على وصله). والثاني: عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا، أخرجه أحمد في المسند 6/144، وأخرجه الدارمي في السنن 2/144، كتاب النكاح، باب في القسمة بين النساء، وأخرجه أبو داود في السنن 2/601، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، الحديث(2134)، وأخرجه الترمذي في السنن 3/446، كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، الحديث (1140) واللفظ له، وأخرجه النسائي في المجتبى من السنن 7/63-64، كتاب عشرة النساء (36)، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه...، وأخرجه ابن ماجه في السنن 1/633، كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء (47) الحديث (1971) وأخرجه ابن حبان، ذكره الهيثمي في موارد الظمآن، ص 317، كتاب النكاح (17)، باب ما جاء في القسم، الحديث (1305)، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/187، كتاب النكاح، باب التشديد في العدل...، قال:(صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي.
[10008]:في أ: كالنوطة.
[10009]:سقط في أ.
[10010]:ينظر: المحور الوجيز 2/121، والبحر المحيط 3/381.
[10011]:أخرجه أحمد في المسند 2/347، وأخرجه الدارمي في السنن 2/143، كتاب النكاح، بال العدل بين النساء وأخرجه أبو داود في السنن 2/600-601 كتاب النكاح: باب في القسم بين النساء الحديث (3133)، وأخرجه الترمذي في السنن 3/447، كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر الحديث (1141) واللفظ له، وأخرجه النسائي في المجتبى من السنن 7/63، كتاب عشرة النساء باب ميل الرجل إلى بعض نسائه وأخرجه ابن ماجه في السنن 1/633 كتاب النكاح باب القسمة بين النساء الحديث (1969) وأخرجه ابن حبان ذكره الهيثمي في موارد الظمآن ص 317، كتاب النكاح باب في غيرة النساء( 1307).
[10012]:في أ: وتنفقوا.