الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَلَن تَسۡتَطِيعُوٓاْ أَن تَعۡدِلُواْ بَيۡنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلۡمَيۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (129)

{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ } ومحال أن تستطيعوا العدل { بَيْنَ النساء ِ } والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن ، فرفع لذلك عنكم تمام العدل وغايته ، وما كلفتم منه إلا ما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم ، لأنّ تكليف ما لا يستطاع داخل في حدّ الظلم { وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] وقيل : معناه أن تعدلوا في المحبة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :

أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول « هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك » يعني المحبة ؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه . وقيل : إن العدل بينهن أمر صعب بالغ من الصعوبة حداً يوهم أنه غير مستطاع ، لأنه يجب أن يسوّي بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه ، فهو كالخارج من حدّ الاستطاعة . هذا إذا كن محبوبات كلهن ؛ فكيف إذا مال القلب مع بعضهن { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل } فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها من غير رضاً منها ، يعني : أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة ؛ فلا تفرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله . وفيه ضرب من التوبيخ { فَتَذَرُوهَا كالمعلقة } وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة قال :

هَلْ هِيَ إلاّ حَظَّةٌ أَوْ تَطْلِيقْ *** أوْ صَلَفٌ أَوْ بَيْنَ ذَاكَ تَعْلِيقْ

وفي قراءة أبيّ : فتذروها كالمسجونة . وفي الحديث : « من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل . » وروى أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال ، فقالت عائشة رضي الله عنها : أإلى كل أزواج رسول الله بعث عمر مثل هذا ؟ قالوا : لا ، بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره ، فقالت : ارفع رأسك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه . فرجع الرسول فأخبره ، فأتم لهن جميعاً وكان لمعاذ امرأتان ، فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى ، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد { وَإِن تُصْلِحُواْ } ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة { وَتَتَّقُواْ } فيما يستقبل ، غفر الله لكم .