قوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } قيل : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره ، وقيل : معناه فاثبت عليه . وقال الحسين بن الفضل : فازدد علماً على علمك . وقال أبو العالية وابن عيينة : هو متصل بما قبله معناه : إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله . وقيل : فاعلم أنه لا إله إلا الله ، إن الممالك تبطل عند قيامها ، فلا ملك ولا حكم لأحد إلا لله ، { واستغفر لذنبك } أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له لتستن به أمته . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، أنبأنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أبي بردة ، عن الأغر المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة " . قوله عز وجل : { وللمؤمنين والمؤمنات } هذا إكراما من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم ، { والله يعلم متقلبكم ومثواكم } قال ابن عباس والضحاك : ( متقلبكم ) متصرفكم ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا ، { ومثواكم } مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار . وقال مقاتل وابن جرير : { متقلبكم } منصرفكم لأشغالكم بالنهار ، { ومثواكم } مأواكم إلى مضاجعكم بالليل . وقال عكرمة :( متقلبكم ) من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات . ( ومثواكم ) مقامكم في الأرض . وقال ابن كيسان : ( متقلبكم ) من ظهر إلى بطن ، ( ومثواكم ) مقامكم في القبور . والمعنى : أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها .
{ 19 } { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }
العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته ، بمعنى ما طلب منه علمه ، وتمامه أن يعمل بمقتضاه .
وهذا العلم الذي أمر الله به -وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل إنسان ، لا يسقط عن أحد ، كائنا من كان ، بل كل مضطر إلى ذلك . والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور : أحدها بل أعظمها : تدبر أسمائه وصفاته ، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته{[787]} فإنها توجب بذل الجهد في التأله له ، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال .
الثاني : العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير ، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية .
الثالث : العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة ، الدينية والدنيوية ، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته ، والتأله له وحده لا شريك له .
الرابع : ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة ، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به ، فإن هذا داع إلى العلم ، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها .
الخامس : معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله ، واتخذت آلهة ، وأنها ناقصة من جميع الوجوه ، فقيرة بالذات ، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا ينصرون من عبدهم ، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة ، من جلب خير أو دفع شر ، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه .
السادس : اتفاق كتب الله على ذلك ، وتواطؤها عليه .
السابع : أن خواص الخلق ، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقا وعقولا ، ورأيا وصوابا ، وعلما -وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون- قد شهدوا لله بذلك .
الثامن : ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية ، التي تدل على التوحيد أعظم دلالة ، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته ، وبديع حكمته ، وغرائب خلقه .
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله ، وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها ، لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك ، فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت ، وقامت أدلة التوحيد من كل جانب ، فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد ، بحيث يكون كالجبال الرواسي ، لا تزلزله الشبه والخيالات ، ولا يزداد -على تكرر الباطل والشبه- إلا نموا وكمالا .
هذا ، وإن نظرت إلى الدليل العظيم ، والأمر الكبير -وهو تدبر هذا القرآن العظيم ، والتأمل في آياته- فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله ما لا يحصل في غيره .
وقوله : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } أي : اطلب من الله المغفرة لذنبك ، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة والدعاء بالمغفرة ، والحسنات الماحية ، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم .
{ و } استغفر أيضا { للمؤمنين وَالْمُؤْمِنَات } فإنهم -بسبب إيمانهم- كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة .
ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم ، وإذا كان مأمورا بالاستغفار لهم المتضمن لإزالة الذنوب وعقوباتها عنهم ، فإن من لوازم ذلك النصح لهم ، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه ، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه ، ويأمرهم بما فيه الخير لهم ، وينهاهم عما فيه ضررهم ، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم ، ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم ، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق ، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } أي : تصرفاتكم وحركاتكم ، وذهابكم ومجيئكم ، { وَمَثْوَاكُمْ } الذي به تستقرون ، فهو يعلمكم في الحركات والسكنات ، فيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه .
ثم يتجه الخطاب إلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه من المهتدين المتقين المتطلعين ؛ ليأخذوا طريقا آخر . طريق العلم والمعرفة والذكر والاستغفار ، والشعور برقابة الله وعلمه الشامل المحيط ؛ ويعيشوا بهذه الحساسية يرتقبون الساعة وهم حذرون متأهبون :
( فاعلم أنه لا إله إلا الله ؛ واستغفر لذنبك ، وللمؤمنين والمؤمنات ؛ والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) . .
وهو التوجيه إلى تذكر الحقيقة الأولى التي يقوم عليها أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه :
( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) . .
وعلى أساس العلم بهذه الحقيقة واستحضارها في الضمير تبدأ التوجيهات الأخرى :
وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ولكن هذا واجب العبد المؤمن الشاعر الحساس الذي يشعر أبدا بتقصيره مهما جهد ؛ ويشعر - وقد غفر له - أن الاستغفار ذكر وشكر على الغفران . ثم هو التلقين المستمر لمن خلف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ممن يعرفون منزلته عند ربه ؛ ويرونه يوجه إلى الذكر والاستغفار لنفسه . ثم للمؤمنين والمؤمنات . وهو المستجاب الدعوة عند ربه . فيشعرون بنعمة الله عليهم بهذا الرسول الكريم . وبفضل الله عليهم وهو يوجهه لأن يستغفر لهم ، ليغفر لهم ! واللمسة الأخيرة في هذا التوجيه :
( والله يعلم متقلبكم ومثواكم ) . .
حيث يشعر القلب المؤمن بالطمأنينة وبالخوف جميعا . الطمأنينة وهو في رعاية الله حيثما تقلب أو ثوى . والخوف من هذا الموقف الذي يحيط به علم الله ويتعقبه في كل حالاته ، ويطلع على سره ونجواه . .
إنها التربية . التربية باليقظة الدائمة والحساسية المرهفة ، والتطلع والحذر والانتظار . .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَاعْلَمْ أَنّهُ لاَ إِلََهَ إِلا اللّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي أو تصلح له الألوهة ، ويجوز لك وللخلق عبادته ، إلا الله الذي هو خالق الخلق ، ومالك كلّ شيء ، يدين له بالربوبية كلّ ما دونه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وسل ربك غفران سالف ذنوبك وحادثها ، وذنوب أهل الإيمان بك من الرجال والنساء وَاللّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلّبَكُمْ وَمَثْوَاكُم يقول : فإن الله يعلم متصرّفكم فيما تتصرّفون فيه في يقظتكم من الأعمال ، ومثواكم إذا ثويتم في مضاجعكم للنوم ليلاً ، لا يخفى عليه شيء من ذلك ، وهو مجازيكم على جميع ذلك . وقد :
حدثنا أبو كُريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا إبراهيم بن سليمان ، عن عاصم الأحول ، عن عبد الله بن سرجس ، قال : أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : غفر الله لك يا رسول الله ، فقال رجل من القوم : أستغفر لك يا رسول الله ، قال : «نَعَمْ وَلكَ » ، ثم قرأ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وللْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ .
{ فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية وتكميل النفس بإصلاح أحوالها وأفعالها وهضمها بالاستغفار { لذنبك } . { وللمؤمنين والمؤمنات } ولذنوبهم بالدعاء لهم والتحريض على ما يستدعي غفرانهم ، وفي إعادة الجار وحذف المضاف إشعار بفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم وأنها جنس آخر ، فإن الذنب له ماله تبعة ما بترك الأولى . { والله يعلم متقلبكم } في الدنيا فإنها مراحل لا بد من قطعها . { ومثواكم } في العقبى فإنها دار إقامتكم فاتقوا الله واستغفروه وأعدوا لمعادكم .