الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مُتَقَلَّبَكُمۡ وَمَثۡوَىٰكُمۡ} (19)

قوله تعالى : " فاعلم أنه لا إله إلا الله " قال الماوردي : وفيه - وإن كان الرسول عالما بالله - ثلاثة أوجه : يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله . الثاني : ما علمته استدلالا فاعلمه خبرا يقينا . الثالث : يعني فاذكر أن لا إله إلا الله ، فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه . وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله حين بدأ به " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " فأمر بالعمل بعد العلم وقال : " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو " إلى قوله " سابقوا إلى مغفرة من ربكم " {[13935]} [ الحديد : 20 - 21 ] وقال : " واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة " {[13936]} [ الأنفال : 28 ] . ثم قال بعد : " فاحذروهم " {[13937]} [ التغابن : 14 ] . وقال تعالى : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه " {[13938]} [ الأنفال : 41 ] . ثم أمر بالعمل بعد .

قوله تعالى : " واستغفر لذنبك " يحتمل وجهين : أحدهما : يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب . الثاني : استغفر الله ليعصمك من الذنوب . وقيل : لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان ، أي اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار . وقيل : الخطاب له والمراد به الأمة ، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين . وقيل : كان عليه السلام يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين ، فنزلت الآية . أي فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله ، فلا تعلق قلبك بأحد سواه . وقيل : أمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة . " وللمؤمنين والمؤمنات " أي ولذنوبهم . وهذا أمر بالشفاعة . وروى مسلم عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس المخزومي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت من طعامه فقلت : يا رسول الله ، غفر الله لك فقال له صاحبي : هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، ولك . ثم تلا هذه الآية : " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، جمعا{[13939]} عليه{[13940]} خيلان كأنه الثآليل .

قوله تعالى : " والله يعلم متقلبكم ومثواكم " فيه خمسة أقوال : أحدها : يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم . الثاني : " متقلبكم " في أعمالكم نهارا " ومثواكم " في ليلكم نياما . وقيل " متقلبكم " في الدنيا . " ومثواكم " في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس والضحاك . وقال عكرمة : " متقلبكم " في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات . " ومثواكم " مقامكم في الأرض . وقال ابن كيسان : " متقلبكم " من ظهر إلى بطن الدنيا . " ومثواكم " في القبور . قلت : والعموم يأتي على هذا كله ، فلا يخفى عليه سبحانه شيء من حركات بني آدم وسكناتهم ، وكذا جميع خلقه . فهو عالم بجميع ذلك قبل كونه جملة وتفصيلا أولى وأخرى . سبحانه ! لا إله إلا هو .


[13935]:آية 20 سورة الحديد.
[13936]:آية 28 سورة الأنفال.
[13937]:في قوله تعالى:" يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم" آية 14 سورة التغابن.
[13938]:آية 41 سورة الأنفال.
[13939]:يريد مثل جمع الكف، وهو أن يجمع الأصابع ويضمها.
[13940]:زيادة عن صحيح مسلم. والخيلان: جمع خال، وهو الشامة في الجسد. والثآليل: جمع ثؤلول، وهي حبيبات تعلو الجسد.