تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَلِلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مُتَقَلَّبَكُمۡ وَمَثۡوَىٰكُمۡ} (19)

الآية 19 وقوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } هذا يخرّج على وجهين :

أحدهما : اعلم في حادث الوقت أنه لا إله إلا الله كقوله تعالى : { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله } [ النساء : 136 ] ونحو ذلك .

والثاني : يقول : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } فاعلم أن الإله المستحقّ للعبادة والمعبود الحق هو الإله الذي لا إله غيره ؛ إذ الإله عند العرب ، هو المعبود الذي يستحق العبادة ، هو الله تعالى ، لا الأصنام التي تعبدونها دونه ، وتزعمون أن عبادتكم إياها تقرّبكم{[19433]} إليه زُلفى .

والثالث : أمره أن يُشعر قلبه في كل وقت حال كلمة الإخلاص والتوحيد له والقول به ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { واستغفِر لذنبك } جائز أن يكون قوله : { واستغفر لذنبك } إنما هو لافتتاح الكلام وابتدائه على ما يُؤمَر المرء أن يبتدئ بالدعاء لنفسه عند أمره بالدعاء لغيره ، وكانت حقيقة الأمر بالدعاء للمؤمنين والمؤمنات دون نفسه ، ولكن أُمر بالدعاء لنفسه استحبابا ، والله أعلم .

وجائز أن يكون له ذنب فيأمره بالاستغفار له . لمن نحن لا نعلم ، وليس علينا أن نتكلّف حفظ ذنوب الأنبياء عليهم السلام وذكرها . وكل موهوم منه الذنب يجوز أن يُؤمَر بالاستغفار كقول إبراهيم عليه السلام حين{[19434]} قال : { والذي أطمعُ أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 82 ] .

لكن [ ليست ذنوب ]{[19435]} الأنبياء وخطاياهم كذنوب{[19436]} غيرهم ، فذنب غيرهم ارتكاب القبائح من الصغائر والكبائر ، وذنبهم ترك الأفضل دون مباشرة القبيح في نفسه ، والله الموفّق .

ثم أرجى آية للمؤمنين هذه آية ، لأنه عز وجل أمر رسوله عليه السلام أن يستغفر لهم ، فلا يُحتمل ألاّ يستغفر لهم ، وقد أمره{[19437]} مولاه بالاستغفار ، ثم لا يُحتمل أيضا أنه إذا استغفر لهم على ما أمره به فلا يُجيب له . وكذلك دعاء سائر الأنبياء عليهم السلام نحو دعاء إبراهيم{[19438]} عليه السلام : { ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } [ إبراهيم : 41 ] [ ونحو دعاء نوح ]{[19439]} عليه السلام : { رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات }{[19440]} [ نوح : 28 ] ونحو ذلك .

وكذا استغفار الملائكة أيضا كقوله تعالى : { ويستغفرون لمن في الأرض } [ الشورى : 5 ] وقوله : { فاغفر للذين تابوا واتّبعوا سبيلك } الآية [ غافر : 7 ] .

هذه الآيات أرجى آيات للمؤمنين ، ودعوات الأنبياء عليهم السلام أفضل وسائل ، تكون إلى الله تعالى ، وأعظم قُرَب عنده ، والله الموفّق .

ثم قوله عز وجل : { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } فيه دلالة نقض المُعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الصّغائر مغفورة ، لا يجوز لله تعالى أن يعذِّب عباده عليها ، والكبائر لا يحل له أن يغفرها لهم إلا بالاستغفار منهم والتوبة . فهذه الآية ، تنقُض قولهم ومذهبهم ، لأنه أمر رسوله أن يستغفر لهم : فلا يخلو : إما أن تكون صغائر ، وهي مغفورة عندهم ، فكأنه يقول : اللهم لا تجُر ، لأنها مغفورة ، لا يسع له أن يعذِّب عليها [ وإما أن تكون ]{[19441]} كبائر ، ولا يحلّ له المغفرة عنها ، فيكون قوله : اللهم اغفر لهم كأنه قال : اللهم جُرْ ، لأن مغفرته{[19442]} إياهم عن الكبائر تكون جورا ووضع الشيء في غير موضعه . فكيف ما كان ففيها نقض قولهم وحجّة لقولنا : إنّ له أن يعذّبهم عليها ، وإن كانت صغائر ، وله أن يعفُوَ عنها ، وإن كانت كبائر ؛ إذ المغفرة عن الذنب تكون ، والله الموفّق للصواب .

وقوله تعالى : { والله يعلم مُتقلَّبكم ومثواكم } قال بعضهم : والله يعلم متقلّبكم في النهار ومثواكم من الليل ، وقيل : يعلم ما يتقلّبون بالنهار ، ويسكُنون بالليل ، وهما واحد .

وقال بعضهم : والله يعلم مُتقلّبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة ، أي مُقامكم فيها . وهو يخرّج عندنا على وجوه :

أحدها : يحتمل هذا الظن قوم ؛ وتوهّمهم أن الله تعالى يجهل عواقب الأمور حين{[19443]} أنشأ هذا العالم ، فجحدوه ، وجحدوا نِعمه ، فلا يحتمل أن يُنشئهم ، ويجعل لهم النّعم ، وهو يعلم أنهم يجحدون ، ويُنكرون نعمه ، لأن من فعل هذا في الشاهد فهو عابث غير حكيم .

فعلى ذلك هذا على زعمهم ، فقال تعالى جوابا لهم ، والله أعلم : { والله يعلم متقلّبكم ومثواكم } أي على علم بما يكون منهم : أنشأهم ، وخلقهم ، لا عن جهل على ما ظنوا هم . لكن ما ينبغي لهم أن ينسبوا الجهل إلى الله تعالى لجهلهم حق{[19444]} الحكمة في فعله ، لأن الله ، جلّ ، وعلا ، لم يُنشئ هذا العالم لحاجة له أو لمنافع نفسه ، بل إنما أنشأه لمنافع أنفسهم ولحاجتهم ؛ فإليهم ترجع منفعة الإجابة والطاعة ، وعليهم تكون مضرّة الجحود والرد .

فأما في الشاهد : فمن يأمر أحدا أمرا ، أو ينهه عن أمر ، أو يرسل إليه رسولا على علم منه بالرّد والجحود ، فهو سفيه غير حكيم ، لأنه إنما يفعل ما يفعل لحاجة نفسه ومنفعة له . فإذا علم منه الردّ والإنكار فهو غير حكيم ، فافترق الشاهد والغائب لافتراق وجه الحكمة ، والله الموفّق .

والثاني : قوله تعالى : { والله يعلم متقلّبكم ومثواكم } أي يعلم جميع أحوالكم من حركاتكم وسكوتكم وجميع تقلّبكم لتكونوا أبدا على حذرٍ ويقظة ، والله أعلم .

والثالث : قوله تعالى : { والله يعلم مُتقلّبكم ومثواكم } أي يعلم متقلبكم في الدنيا ، ويعلم إلى ماذا يكون مرجعكم في الآخرة ، أي أنشأ كُلاًّ على ما علم [ ما يكن منه ]{[19445]} كقوله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم } [ الأعراف : 179 ] وقوله{[19446]} تعالى في آية أخرى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونِ } [ الذاريات : 56 ] أي أنشأ من علِم أنه يختار الكفر وعداوته لجهنّم ، وأنشأ من علم أنه يختار التوحيد وولايته للجنة ، والله الموفّق .


[19433]:في الأصل وم: تقربون.
[19434]:في الأصل وم: حيث.
[19435]:في الأصل وم: ليس ذنب.
[19436]:في الأصل وم: كذنب.
[19437]:في الأصل وم: أمر.
[19438]:في الأصل وم: نوح.
[19439]:في الأصل م: ونحو ذلك وكذلك دعاء سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام نحو دعاء.
[19440]:أدرج بعدها في الأصل وم: وقول إبراهيم عليه السلام: {ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}.
[19441]:في الأصل وم: أو.
[19442]:في الأصل وم: مغفرة.
[19443]:في الأصل وم: حيث.
[19444]:في الأصل وم: بحق.
[19445]:في الأصل وم: أنه يكون منهم.
[19446]:في الأصل وم: وقال.