المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (27)

27- فقلنا له عن طريق الوحي : اصنع السفينة وعنايتنا ترعاك ، فتدفع عنك شرهم ونرشدك في عملك ، فإذا حل ميعاد عذابهم ، ورأيت التنور يفور ماء بأمرنا ، فأدخل في السفينة من كل نوع من الكائنات الحية ذكراً وأنثى ، وأدخل أهلك أيضاً إلا من تقرر تعذيبهم لعدم إيمانهم ، ولا تسألني نجاة الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم بالكفر والطغيان ، فإني حكمت بإغراقهم لظلمهم بالإشراك والعصيان{[143]} .


[143]:{فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيينا ووحينا. فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون}: إن ما جاء في وصف حدوث الطوفان في الآيات الكريمة رغم أنه موجز، إلا أنه بالنسبة للعقل المفكر يتضمن من المعاني والحقائق العلمية ما يعزب عن كثير من البشر. والتنور لغة: هو الكانون يخبز فيه. أو هو وجه الأرض، وكل مفجر ماء، وكل محفل ماء. ونحن عندما نحاول تحديد تاريخ حدوث الطوفان نجد أنه ليس بالأمر السهل. فقد حدثت طوفانات عديدة في أزمنة غير سحيقة في عهد البشرية، كما حدث في أرض بابل وفي الهند وفي الصين وفي الأمريكتين. وجاء ذكر بعض هذه الطوفانات في القصص الشعبي، إلا أنه من المستبعد أن يكون لها علاقة بالطوفان العظيم أو طوفان نوح. وقد ثبت من البحث والمشاهدة أن العالم انتابته طوفانات عالمية كثيرة، وأن آخر الطوفانات لعالمية كان سببه انقضاء عصر الجليد الأخير وانصهار معظم الثلوج المتجمدة في القطبين، ونحن لا نعلم علن اليقين متى انقلب الميزان وفار التنور ـ وجه الأرض ـ نتيجة للارتفاع المفاجئ في سرعة انصهار الجليد حتى علا منسوب الماء العام للبحار، وطفت المياه. وجدير بالذكر أنه قد صاحب انصهار ثلوج العصر الجليدي الأخير مناخ شديد المطر في مناطق نائية عن القطبين، مثل حوض البحر الأبيض المتوسط. ومهما يكن من شيء فمن المسلم به أنه ليس لدينا من الوثائق ما يمكننا من تحديد عصر نوح وقومه، فالظاهرة كلها معجزة إلهية. ومن الإعجاز أن ينصح نوح قومه ويحذرهم من غضب الله، ويوحي الله أنه مغرقهم إذا لم ينتصحوا، ثم يوحي إليه أن يصنع الفلك، ثم يأتي أمر الله، وينقلب الميزان، ويفوز التنور، وينهمر المطر تحقيقا لما أخبر الله به نوحا من أن الله يعلم أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (27)

قوله تعالى : { فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها } أدخل فيها ، يقال سلكته في كذا وأسلكته فيه ، { من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم } أي من سبق عليه الحكم بالهلاك .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (27)

{ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } عند استجابتنا له ، سببا ووسيلة للنجاة ، قبل وقوع أسبابه ، { أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ } أي : السفينة { بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أي : بأمرنا لك ومعونتنا ، وأنت في حفظنا وكلاءتنا بحيث نراك ونسمعك .

{ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا } بإرسال الطوفان الذي عذبوا به { وَفَارَ التَّنُّورُ } أي : فارت الأرض ، وتفجرت عيونا ، حتى محل النار ، الذي لم تجر العادة إلا ببعده عن الماء ، { فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي : أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات ، ذكرا وأنثى ، تبقى مادة النسل لسائر الحيوانات ، التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في الأرض ، { وَأَهْلَكَ } أي : أدخلهم { إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } كابنه ، { وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : لا تدعني أن أنجيهم ، فإن القضاء والقدر ، قد حتم أنهم مغرقون .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (27)

23

( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك - إلا من سبق عليه القول منهم - ولا تخاطبني في الذين ظلموا . إنهم مغرقون ) . .

وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم . ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح ، وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود . . كان العلاج هو الطوفان ، الذي يجتب كل شيء ، ويجرف كل شيء . ويغسل التربة ، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد ، فتنشأ على نظافة ، فتمد وتكبر حتى حين :

( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) . . والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان ، ولحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد . وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده ، لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل ، وبذل آخر ما في طوقه ، ليستحق المدد من ربه . فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين ، الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئا على الانتظار ! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني ؛ فدفع به إلى الأخذ بالأسباب ؛ مع رعاية الله له ، وتعليمه صناعة الفلك ، ليتم أمر الله ، وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق .

وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف : ( فإذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، وانبجس منه الماء ، فتلك هي العلامة ليسارع نوح ، فيحمل في السفينة بذور الحياة : ( فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) . . من أنواع الحيوان و الطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان ، الميسرة كذلك لبني الإنسان ( وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم )وهم الذين كفروا وكذبوا ، فاستحقوا كلمة الله السابقة ، وسنته النافذة ، وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله .

وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد ، ولا يحاول إنقاذ أحد - ولو كان أقرب الأقربين إليه - ممن سبق عليهم القول .

( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) .

فسنة الله لا تحابي ، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم ، من أجل خاطر ولي ولا قريب !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (27)

وقوله : فأَوْحَيْنا إلَيْهِ أنه اصْنَعِ الفُلْكَ بأَعْيُنِنا وَوَحْينا يقول : فقلنا له حين استنصرَنا على كَفَرة قومه : اصنع الفُلْك ، وهي السفينة بأَعْيُنِنا يقول : بمرأى ومنظر ، ووَحْينَا يقول : وبتعليمنا إياك صنعتها . فإذَا جاء أمْرُنا يقول : فإذا جاء قضاؤنا في قومك ، بعذابهم وهلاكهم وَفارَ التّنّورُ ، وقد ذكرنا فيما مضى اختلاف المختلفين في صفة فور التنور ، والصواب عندنا من القول فيه بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . فاسْلُكْ فِيها مِنْ كلَ زَوْجِيْنِ اثْنَيْنِ يقول : فأدخل في الفلك واحمل . والهاء والألف في قوله : فيها من ذكر الفلك . منْ كُلَ زَوْجِيْنِ اثْنَينِ يقال سلكته في كذا وأسلكته فيه ومن سلكته قوم الشاعر :

وكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرّدْ *** وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيبِ

وبعضهم يقول : أسلكت بالألف ومنه قولي الهُذَليّ :

حتى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتائِدَةٍ *** شَلاّ كمَا تَطْرُدِ الجّمّالَةُ الشّرُدَا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلَ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يقول لنوح : اجعل في السفينة من كل زوجين اثنين .

وأهْلَكَ وهم ولده ونساؤهم : إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ من الله بأنه هالك فيمن يهلك من قومك فلا تحمله معك ، وهو يام الذي غرق . ويعني بقوله : مِنْهُمْ مِن أهلك ، والهاء والميم في قوله «منهم » من ذكر الأهل . وقوله : وَلا تخاطِبْنِي . . . الاَية ، يقول : ولا تسألني في الذين كفروا بالله أن أنجيهم . إنّهُمْ مُغْرَقُونَ يقول : فإني قد حتمت عليهم أن أغرق جميعهم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ} (27)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فأوحينا إليه أن اصنع الفلك} يقول: اجعل السفينة {بأعيننا ووحينا} كما نأمرك {فإذا جاء أمرنا} يقول عز وجل: فإذا جاء قولنا في نزول العذاب بهم في الدنيا، يعني: الغرق {وفار} الماء من {التنور} وكان التنور في أقصى مكان من دار نوح، وهو التنور الذي يخبز فيه... {فاسلك فيها من كل زوجين اثنين} ذكر وأنثى {وأهلك} فاحملهم معك في السفينة، ثم استثنى من الأهل {إلا من سبق عليه القول منهم} يعني: من سبقت عليهم كلمة العذاب فكان ابنه وامرأته ممن سبق عليه القول من أهله. ثم قال تعالى: {ولا تخاطبني} يقول: ولا تراجعني {في الذين ظلموا} يعني: أشركوا {إنهم مغرقون}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"فأَوْحَيْنا إلَيْهِ أنه اصْنَعِ الفُلْكَ بأَعْيُنِنا وَوَحْينا" يقول: فقلنا له حين استنصرَنا على كَفَرة قومه: اصنع الفُلْك، وهي السفينة "بأَعْيُنِنا" يقول: بمرأى ومنظر، "ووَحْينَا" يقول: وبتعليمنا إياك صنعتها.

"فإذَا جاء أمْرُنا" يقول: فإذا جاء قضاؤنا في قومك، بعذابهم وهلاكهم، "وَفارَ التّنّورُ"... "فاسْلُكْ فِيها مِنْ كلَ زَوْجِيْنِ اثْنَيْنِ" يقول: فأدخل في الفلك واحمل، والهاء والألف في قوله: "فيها" من ذكر الفلك، "منْ كُلَ زَوْجِيْنِ اثْنَينِ"... "وأهْلَكَ" وهم ولده ونساؤهم، "إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ" من الله بأنه هالك فيمن يهلك من قومك فلا تحمله معك... ويعني بقوله: "مِنْهُمْ" مِن أهلك... وقوله: "وَلا تخاطِبْنِي..."، يقول: ولا تسألني في الذين كفروا بالله أن أنجيهم. "إنّهُمْ مُغْرَقُونَ" يقول: فإني قد حتمت عليهم أن أغرق جميعهم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{بِأَعْيُنِنَا} بحفظنا وكلاءتنا، كأن معه من الله حفاظاً يكلؤونه بعيونهم، لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله. ومنه قولهم: عليه من الله عين كالئة {وَوَحْيِنَا} أي نأمرك كيف تصنع ونعلمك...

فإن قلت: لم نهاه عن الدعاء لهم بالنجاة؟ قلت: لما تضمنته الآية من كونهم ظالمين، وإيجاب الحكمة أن يغرقوا لا محالة، لما عرف من المصلحة في إغراقهم، والمفسدة في استبقائهم، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول فلم يزيدوا إلا ضلالاً، ولزمتهم الحجّة البالغة لم يبق إلا أن يجعلوه عبرة للمعتبرين.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{فأوحينا} أي فتسبب عن دعائه أنا أوحينا {إليه أن اصنع الفلك} أي السفينة.

ولما كان يخاف من أذاهم له في عمله بالإفساد وغيره قال: {بأعيننا} أي إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك ولا من أمرهم وأنت تعرف قدرتنا عليهم فثق بحفظنا ولا تخف شيئاً من أمرهم. ولما كان لا يعلم تلك الصنعة، قال: {ووحينا} ثم حقق له هلاكهم وقربه بقوله: {فإذا جاء أمرنا} أي بالهلاك عقب فراغك منه {وفار التنور} قال ابن عباس رضي الله عنهما: وجه الأرض. وفي القاموس: التنور: الكانون يخبز فيه، ووجه الأرض، وكل مفجر ماء، وجبل قرب المصيصة -انتهى. والأليق بهذا الأمر صرفه إلى ما يخبز فيه ليكون آية في آية {فاسلك} أي فادخل {فيها} أي السفينة {من كل زوجين} من الحيوان {اثنين} ذكراً وأنثى {وأهلك} من أولادك وغيرهم {إلا من سبق عليه} لا له {القول منهم} بالهلاك لقطع ما بينك وبينه من الوصلة بالكفر.

ولما كان التقدير: فلا تحمله معك ولا تعطف عليه لظلمه، عطف عليه قوله: {ولا تخاطبني} أي بالسؤال في النجاة {في الذين ظلموا} عامة؛ ثم علل ذلك بقوله: {إنهم مغرقون} أي قد ختم القضاء عليهم، ونحن نكرمك عن سؤال لا يقبل.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم. ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح، وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود.. كان العلاج هو الطوفان، الذي يجتب كل شيء، ويجرف كل شيء. ويغسل التربة، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد، فتنشأ على نظافة، فتمد وتكبر حتى حين: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا).. والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان، ولحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد. وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده، لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل، وبذل آخر ما في طوقه، ليستحق المدد من ربه. فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين، الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئا على الانتظار! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني؛ فدفع به إلى الأخذ بالأسباب؛ مع رعاية الله له، وتعليمه صناعة الفلك، ليتم أمر الله، وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق. وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور)، وانبجس منه الماء، فتلك هي العلامة ليسارع نوح، فيحمل في السفينة بذور الحياة: (فاسلك فيها من كل زوجين اثنين).. من أنواع الحيوان و الطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان، الميسرة كذلك لبني الإنسان (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم) وهم الذين كفروا وكذبوا، فاستحقوا كلمة الله السابقة، وسنته النافذة، وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله. وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد، ولا يحاول إنقاذ أحد -ولو كان أقرب الأقربين إليه- ممن سبق عليهم القول. (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون). فسنة الله لا تحابي، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم، من أجل خاطر ولي ولا قريب!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وإنما عبر هنالِك بقوله: {قلنا احمل فيها} [هود: 40] وهنَا بقوله: {فاسلُك فيها} لأن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حدوث الطوفان وذلك وقت ضيق فأُمرّ بأن يحمل في السفينة من أراد الله إبقاءهم، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلاً للإسراع بإركاب ما عُيِّن له في السفينة حتَّى كأنّ حاله في إدخاله إيَّاهم حالُ من يحمل شيئاً ليضعه في موضع، وآية هذه السورة حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان فأمَره بأنه حينئذ يدخل في السفينة من عَيَّن الله إدخالهم، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

استجاب الله تعالى دعاء نبيه نوح- عليه السلام- في النصرة على قومه، فأمره بأن يصنع الفلك. والفلك هي السفينة، وتطلق على المفرد والجمع، قال تعالى: {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119)} [الشعراء]، وقال: {وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12)} [فاطر]: فدلت مرة على المفرد، ومرة على الجمع...

{بأعيننا ووحينا} دليل على أن نوحا- عليه السلام- لم يكن نجارا كما يقول البعض، فلو كان نجارا لهداه عقله إلى صناعتها، إنما هو صنعها بوحي من الله وتوجيهاته ورعايته، كما قال سبحانه: {ولتصنع على عيني (39)} [طه]. فالمعنى: اصنع الفلك، وسوف أوفقك إلى صناعتها، وأهديك إلى ما يجب أن يكون، وأصحح لك إن أخطأت في وضع شيء في غير موضعه، إذن: أمرت وأعنت وتابعت. والوحي: هو خطاب الله لرسوله بخفاء...

ومعنى {زوجين} ليس كما يظن البعض أن زوج يعني: اثنين، إنما الزوج يعني فرد ومعه مثله، ومنه قوله تعالى: {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين.. (144)} [الأنعام]: فسمى كل فرد من هذه الثمانية زوجا، لأن معه مثله...

هذا في جميع المخلوقات، أما في البشر فلم يقل زوجين، إنما قال {وأهلك} أيا كان نوعهم وعددهم، لكن الأهلية هنا أهلية نسب، أم أهلية إيمانية؟. الأهلية هنا يراد بها أهلية الإيمان والاتباع، بدليل أن الله تعالى شرح هذه اللقطة في آية أخرى، فقال على لسان نوح عليه السلام: {فقال رب إن ابني من أهلي.. (45)} [هود]. فقال له ربه: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح (46)} [هود]. فبنوة الأنبياء بنوة عمل واتباع، فإن جاءت من صلبه فأهلا وسهلا، وإن جاءت من الغير فأهلا وسهلا.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} ممن حقّت عليه كلمة العذاب بكفره وضلاله من زوجك وولدك، {وَلاَ تخاطبني في الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر والضلال، لأن الموقف ليس موقف عاطفة تتحرك فيه شخصية الأب تجاه ولده، أو الزوج تجاه زوجته، بل هو موقف حقّ ورسالةٍ تنطلق فيها العاطفة لتؤكد رفضها للكفر كله حتى من أقرب الناس إليه.. {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} فيمن يغرق من الكافرين.