قوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } . الآية ، اختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فقال قوم : نزلت في أهل بئر معونة ، وهم سبعون رجلاً من القراء ، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم ، أميرهم المنذر بن عمرو ، فقتلهم عامر بن الطفيل ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً ، وقنت شهراً في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين ، فنزلت : ( ليس لك من الأمر شيء ) .
أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أنا احمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أخبرنا حبان بن موسى أخبرنا عبد الله ، يعني ابن المبارك ، أخبرنا معمر عن الزهري قال : حدثني سالم عن أبيه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول : " اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ، فأنزل الله تعالى ( ليس لك من الأمر شيء ) .
قوله تعالى : { أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } . وقال قوم نزلت يوم أحد .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه ، فجعل يسلت الدم عنه ويقول :كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم ، وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل ، فأنزل الله تعالى( ليس لك من الأمر شيء ) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ( اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن صفوان بن أمية ، فنزلت : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم ) فأسلموا وحسن إسلامهم . وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يوم أحد ما بأصحابهم من جدع الآذان والأنوف ، وقطع المذاكير قالوا : لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا ، ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وذلك لعلمه فيهم بأن كثيراً منهم يسلمون . فقوله تعالى ( ليس لك من الأمر شيء ) أي ليس إليك ، فاللام بمعنى إلى ، كقوله تعالى ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أي إلى الإيمان قوله تعالى ( أو يتوب عليهم ) قال بعضهم : معناه حتى يتوب عليهم ، أو إلا أن يتوب عليهم ، وقيل : هو نسق على قوله ( ليقطع طرفاً ) ، وقوله ( ليس لك من الأمر شيء ) اعتراض بين الكلامين ونظم الآية ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء بل الأمر أمري في ذلك كله .
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
لما جرى يوم " أحد " ما جرى ، وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب ، رفع الله بها درجته ، فشج رأسه وكسرت رباعيته ، قال " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم " وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله { ليس لك من الأمر شيء } إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم ، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور ، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء ، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم ، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل ، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم ، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك ، فعل ، وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم ، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم ، وفي هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد ، وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم ، وأن هذا شرك في العبادة ، نقص في العقل ، يتركون من الأمر كله له ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة ، إن هذا لهو الضلال البعيد ، وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل إليه ، ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك ، ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده ، من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة ، ولما ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم ، ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية ، فقال { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته ، حيث وضع العقوبة موضعها ، ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه ،
فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة ، وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم ، فيتوب الله عليهم من كفرهم ، ويختم لهم بالإسلام والهداية . .
( أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) . .
يعذبهم بنصر المسلمين عليهم . أو بأسرهم . أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب . . جزاء لهم على ظلمهم بالكفر ، وظلمهم بفتنة المسلمين ، وظلمهم بالفساد في الأرض ، وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه . . إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله .
وعلى أية حال فهي حكمة الله ، وليس لبشر منها شيء . . حتى رسول الله [ ص ] يخرجه النص من مجال هذا الأمر ، ليجرده لله وحده - سبحانه - فهو شأن الألوهية المتفردة بلا شريك .
بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر : من أسبابه ومن نتائجه ! وبذلك يطامنون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ، ومن البطر والعجب والزهو الذي تنتفخ به أرواحهم وأوداجهم ! وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء ، إنما الأمر كله لله أولا وأخيرا .
وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله . فهذا الشأن شأن الله وحده - سبحانه . شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها : طائعهم وعاصيهم سواء . . وليس للنبي [ ص ] وليس للمؤمننين معه إلا أن يؤدوا دورهم ، ثم ينفضوا أيديهم من النتائج ، وأجرهم من الله على الوفاء ، وعلى الولاء ، وعلى الأداء .
وملابسة أخرى في السياق اقتضت هذا التنصيص : ( ليس لك من الأمر شيء ) فسيرد في السياق قول بعضهم : ( هل لنا من الأمر من شيء ؟ ) . . وقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . . . ليقول لهم : إن أحدا ليس له من الأمر من شيء . لا في نصر ولا في هزيمة . إنما الطاعة والوفاء والأداء هي المطلوبة من الناس . وأما الأمر بعد ذلك فكله لله . ليس لأحد منه شيء . ولا حتى لرسول الله . . فهي الحقيقة الأصيلة في التصور الإسلامي . وإقرارها في النفوس أكبر من الأشخاص وأكبر من الأحداث ، وأكبر من شتى الاعتبارات . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.