103- لم يأذن الله لكم أن تحرِّموا ما أحلَّه لكم ، فتشقوا أذن الناقة ، وتمتنعوا عن الانتفاع بها ، وتسموها «بَحِيرة » ، وتتركوها بناء على نذر ، وتسموها «سائبة » ، وتُحَرِّموا الذكر من الشاة ، وتهبوه للأصنام ، حتى إذا أنتجت الشاة ذكراً وأنثى سميتموها «وَصِيلة » ، ولم تذبحوا الذكر منها . ولم يشرع لكم أن تحرِّموا الانتفاع بالذكر من الإبل إذا ولد منه عشرة أبطن ، وتطلقوا عليه اسم «حَام » ، لم يشرع الله لكم شيئاً من ذلك ، ولكن الذين كفروا يختلقون الكذب وينسبونه إلى الله ، وأكثرهم لا يعقلون{[58]} .
قوله تعالى : { ما جعل الله من بحيرة } أي : ما أنزل الله ، ولا أمر به .
قوله تعالى : { ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ، قال ابن عباس في بيان هذه الأوضاع : البحيرة ، هي الناقة التي كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها ، أي : شقوها ، وتركوا الحمل عليها ، ولم يركبوها ، ولم يجزوا وبرها ، ولم يمنعوها الماء والكلأ ، ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه وأكله الرجال والنساء ، وإن كان أنثى بحروا أذنها ، أي : شقوها ، وتركوها ، وحرم على النساء لبنها ، ومنافعها ، وكانت منافعها خاصة للرجال ، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء . وقيل : كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت ، فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ، ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل ، فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، كما فعل بأمها ، فهي البحيرة بنت السائبة . وقال أبو عبيدة : السائبة : البعير الذي يسيب ، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض وغاب له قريب نذر فقال : إن شفاني الله تعالى أو شفى مريضي ، أو عاد غائبي ، فناقتي هذه سائبة . ثم يسيبها فلا تحبس عن رعي ، ولا ماء ، ولا يركبها أحد ، فكانت بمنزلة البحيرة . وقال علقمة : هو العبد يسيب على أن لا ولاء عليه ، ولا عقل ، ولا ميراث . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما الولاء لمن أعتق ) .
والسائبة فاعلة ، بمعنى المفعولة . وهي المسيبة ، كقوله تعالى : { ماء دافق } أي : مدفوق ، وعيشة راضية ، وأما الوصيلة : فمن الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نظروا ، فإن كان السابع ذكرا ذبحوه ، فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كانت أنثى تركوها في الغنم ، وإن كان ذكراً وأنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى ، وقالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه . وكان لبن الأنثى حراماً على النساء ، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا .
وأما الحام : فهو الفحل إذا ركب ولده ، ويقال : إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمي ظهره ، فلا يركب ، ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من كلأ ، ولا ماء ، فإذا مات أكله الرجال والنساء .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس . والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء . قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، وكان أول من سيب السوائب ) .
روى محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي صالح السمان . عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكتم بن جون الخزاعي : ( يا أكتم ، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار ، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ، ولا به منك ، وذلك أنه أول من غير دين إسماعيل ، ونصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ، فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه ، فقال أكتم : أيضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال : لا إنك مؤمن وهو كافر .
قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } ، في قولهم : الله أمرنا بها .
{ 103 - 104 } { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }
هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ، وحرموا ما أحله الله ، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما ، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } وهي : ناقة يشقون أذنها ، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة .
{ وَلَا سَائِبَةٍ } وهي : ناقة ، أو بقرة ، أو شاة ، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه ، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل ، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة .
{ وَلَا حَامٍ } أي : جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل ، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم .
فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان . وإنما ذلك افتراء على الله ، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم ، ولهذا قال : { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } فلا نقل فيها ولا عقل ، ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلََكِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىَ اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ما بحر الله بحيرة ، ولا سيب سائبة ، ولا وصل وصيلة ، ولا حمى حاميا ، ولكنكم الذين فعلتم ذلك أيها الكفرة ، فحرّمتموه افتراء على ربكم . كالذي :
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثني أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، عن ابن الهاد : وحدثني يونس ، قال : حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : ثني الليث ، قال : ثني ابن الهاد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «رأيْتُ عَمْرَو بْنَ عامِرٍ الخزَاعِيّ يَجُرّ قصبَهُ فِي النّارِ ، وكانَ أوّلَ مَنْ سَيّبَ السّائِبَةَ » .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن إبراهيم بن الحرث ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون : «يا أكْثَمُ ، رأيْتُ عَمْرَو بنَ لُحَيّ بْنِ قَمَعَةَ بنِ خِنْدَفٍ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، فَمَا رأيْتُ رَجْلاً أشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلا بِهِ مِنْكَ » فقال أكثم : أخشى أن يضرّني شبهه يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا ، إنّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كافِرٌ ، إنّهُ أوّلُ مَنْ غير دين إسماعيل وبحّر البحيرة ، وسيب السائبة ، وحمى الحامي » .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس ، قال : ثني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قَدْ عَرَفْتُ أوّلَ مَنْ بَحّرَ البَحائِر رَجُلٌ مِنْ مُدْلِجٍ ، كانَتْ لَهُ ناقَتانِ ، فَجَدَعَ آذَانَهُما وَحَرّمَ ألْبانَهُما وظُهُورَهُما وقال : هاتانِ لِلّهِ ، ثُمّ احْتاجَ إلَيْهما فَشَرِبَ ألْبانَهُما وَرَكِبَ ظُهُورَهُما » قالَ : «فَلَقَدْ رأيْتُهُ فِي النّارِ يُؤْذِي أهْلَ النّارِ رِيحُ قُصْبِهِ » .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبيدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عُرِضَتْ عليّ النّارُ فَرأيْتُ فِيها عَمْرَو بْنَ فُلان ابْنِ فُلان ابْنِ خِنْدَفٍ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، وَهُوَ أوّلُ مَنْ غَيّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ وَسَيّبَ السّائِبَةَ ، وأشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ أكْثَمُ بْنُ الجون » . فقال أكثم : يا رسول الله ، أيضرّني شبههه ؟ قال : «لا ، لأنّكَ مُسْلِمٌ ، وَإنّهُ كافِرٌ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرّ قصبه في النار ، وهو أوّل من سيب السوائب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّي لأَعْرِفُ أوّلَ مَنْ سَيّبَ السّوَائبَ وأوّلَ مَنْ غَيّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ » قالُوا : مَنْ هُوَ يا رَسُولَ اللّهِ ؟ قال : «عَمْرُو بْنُ لُحَي أخُو بَنِي كَعْبٍ ، لَقَدْ رأيْتُهُ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، يُؤْذِي رِيحُهُ أهْلَ النّارِ . وإنّي لأَعْرِفُ أوّلَ مَنْ بَحّرَ البَحائِرَ » . قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : «رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ كانَتْ لَهُ ناقَتانِ ، فَجَدَعَ آذَانَهُما وَحَرّمَ ألْبانَهُما ، ثُمّ شَرِبَ ألْبانَهُما بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَقَدْ رأيْتُهُ فِي النّارِ هُوَ وهُمَا يَعضّانِهِ بأفْوَاهِهِما ، ويَخْبِطانِهِ بأخفْافِهِما » .
والبحيرة : الفَعيلة ، من قول القائل : بَحرتُ أذنَ هذه الناقة : إذا شقها ، أبْحَرُها بحرا ، والناقة مبحورة ، ثم تصرف المفعولة إلى فعَيلة ، فيقال : هي بحيرة . وأما البَحِرُ من الإبل : فهو الذي قد أصابه داء من كثرة شرب الماء ، يقال منه : بَحِرَ البعير يبحرُ بَحَرا ، ومنه قول الشاعر :
لأَعْلِطَنّكَ وَسَما لا تُفارِقُهُ ***كما يُحَزّ بحُمّى المِيسَمِ البَحِرُ
وبنحو الذي قلنا في معنى البحيرة ، جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، قال : أخبرنا محمد بن زيزيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن أبيه ، قال : دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أرأيْتَ إبِلَكَ ألَسْتَ تُنْتِجُها مُسَلّمَةً آذَانُها ، فَتأْخُذُ المُوسَى فَتَجْدَعُها تَقُولُ هَذِهِ بَحِيرَةٌ ، وَتَشُقّ آذَانَها تَقُولُ هَذِهِ حُرُمٌ ؟ » قال : نعم ، قال : «فإنّ ساعِدَ اللّهِ أشَدّ ، وَمُوسَى اللّهِ أحَدّ ، كُلّ مالِكَ لَكَ حَلالٌ لا يُحَرّمُ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت أبا الأحوص ، عن أبيه ، قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقال : «هَلْ تُنْتِجُ إبِلُ قَوْمِكَ صِحَاحا آذَانُها فَتَعمِدُ إلى المُوسَى فَتَقْطَعُ آذَانَها فَتَقُولُ هَذِهِ بُحْرٌ ، وَتَشُقّها أوْ تَشُقّ جُلُودَها فَتَقُولُ هَذِهِ حُرُمٌ ، فَتُحَرّمُها عَلَيْكَ وَعلى أهْلِكَ ؟ » قال : نعم . قال : «فإنّ ما آتاكَ اللّهُ لَكَ حِلّ ، وَساعِدُ اللّهُ أشَدّ ، ومُوسَى اللّهِ أحَدّ » وربما قال : «سَاعِدُ الله أشَدّ مِنْ سَاعِدِكَ ، ومُوسَى الله أحَدّ مِنْ مُوسَاكَ » .
وأما السائبة : فإنها المسيبة المخلاة ، وكانت الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه ، فيحرم الانتفاع به على نفسه ، كما كان بعض أهل الإسلام يعتق عبده سائبة فلا ينتفع به ولا بولائه . وأخرجت المسيبة بلفظ السائبة ، كما قيل : «عِيشَة رَاضِيَة » ، بمعنى : مرضية .
وأما الوصيلة ، فإن الأنثى من نعمهم في الجاهلية كانت إذا أتأمت بطنا بذكر وأنثى ، قيل : قد وصلت الأنثى أخاها ، بدفعها عنه الذبح ، فسموها وصيلة .
وأما الحامي : فإنه الفحل من النعم يحمى ظهره من الركوب ، والانتفاع بسبب تتابع أولاد تحدث من فِحْلَته .
وقد اختلف أهل التأويل في صفات المسميات بهذه الأسماء وما السبب الذي من أجله كانت تفعل ذلك . ذكر الرواية بما قيل في ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي أن أبا صالح السمان ، حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخواعي : «يا أكْثَمُ رأيْتُ عَمْرَ بْنَ لُحَيّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدَفٍ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ ، فَمَا رأيْتُ مِنْ رَجُلٍ أشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ وَلا بِهِ مِنْكَ » فقال أكثم : أيضرّني شبهه يا نبيّ الله ؟ قال : «لا ، لأنك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كافِرٌ ، وإنّهُ كانَ أوّلَ مَنْ غَيّرَ دِينَ إسْماعِيلَ وَنَصَبَ الأوْثانَ ، وَسَيّبَ السّوَائِب فِيهِمْ » .
وذلك أن الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثا ليس فيها ذكر سيبت ، فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف . فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقّ أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل ، فلم يركب ظهرها ولم يجزّ وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، كما فُعِل بأمها فهي البحيرة ابنة السائبة . والوصيلة : أن الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهنّ ذكر جعلت وصيلة ، قالوا : وصلت ، فكان ما ولدت بعد ذلك لذكورهم دون إناثهم ، إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم . والحامي : أن الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهنّ ذكر حُمِي ظهره ، ولم يركب ، ولم يجزّ وبره ، ويخلى في إبله يضرب فيها ، لا ينتفع به بغير ذلك . يقول الله تعالى ذكره : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ . . . . " إلى قوله : " وَلاَ يهْتَدُونَ " .
حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق في هذه الاية : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " قال أبو جعفر : سقط عليّ فيما أظنّ كلام منه قال : فأتيت علقمة فسألته ، فقال : ما تريد إلى شيء كانت تصنعه أهل الجاهلية ؟
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن مسلم ، قال : أتيت علقمة ، فسألته عن قول الله تعالى : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " فقال : وما تصنع بهذا ؟ إنما هذا شيء من فعل الجاهلية ، قال : فأتيت مسروقا ، فسألته ، فقال : البحيرة : كانت الناقة إذا ولدت بطنا خمسا أو سبعا ، شقوا أذنها وقالوا : هذه بحيرة . قال : وَلا سائبَةٍ قال : كان الرجل يأخذ بعض ماله ، فيقول : هذه سائبة . قال : وَلا وَصِيلَةٍ قال : كانوا إذا ولدت الناقة الذكر أكله الذكور دون الإناث ، وإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن قالوا : وصلت أخاها ، فلا يأكلونهما قال : فإذا مات الذكر ، أكله الذكور دون الإناث . قال : ولا حام ، قال : كان البعير إذا ولد وولد ولده ، قالوا : قد قضى هذا الذي عليه ، فلم ينتفعوا بظهره ، قالوا : هذا حام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن عبيد ، عن الأعمش ، عن مسلم بن صبيح ، قال : سألت علقمة ، عن قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ " قال : ما تصنع بهذا ؟ هذا شيء كان يفعله أهل الجاهلية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ويحيى بن آدم ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ " قال : البحيرة : التي قد ولت خمسة أبطن ثم تركت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة ، عن الشعبي : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ " قال : البحيرة : المخضرمة . وَلا سائِبَةٍ والسائبة : ما سيب للهدي . والوصيلة : إذا ولدت بعد أربعة أبطن فيما يرى جرير ثم ولدت الخامس ذكرا وأنثى وصلت أخاها . والحام : الذي قد ضرب أولاد أولاده في الإبل .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ بنحوه ، إلا أنه قال : والوصيلة : التي ولدت بعد أربعة أبطن ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها . وسائر الحديث مثل حديث ابن حميد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن زكريا ، عن الشعبي ، أنه سئل عن البحيرة ، فقال : هي التي تجدع آذانها . وسئل عن السائبة ، فقال : كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم فيتركونها عند آلهتهم لتذبح ، فتخلط بغنم الناس ، فلا يشرب ألبانها إلا الرجال ، فإذا مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ " وما معها : البحيرة من الإبل ، يحرّم أهل الجاهلية وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال ، فما ولدت من ذكر وأنثى فهو على هيئتها ، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها ، فإذا ضَرَب الجمل من ولد البحيرة فهو الحامي ، والسائبة من الغنم على نحو ذلك ، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها ، فإذا ولدت في السابع ذكرا أو أنثى أو ذكرين ، ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم ، وإن توأمت أنثى وذكرا فهي وصيلة ، ترك ذبح الذكر بالأنثى ، وإن كانتا أنثيين تركتا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ فالبحيرة " : الناقة ، كان الرجل إذا ولدت خمسة أبطن ، فيعمد إلى الخامسة ، فما لم يكن سَقْبا ، فيبتك آذانها ، ولا يجزّ لها وبرا ، ولا يذوق لها لبنا ، فتلك البحيرة . وَلا سائِبَةٍ كان الرجل يسيب من ماله ما شاء . وَلا وَصِيلَةٍ فهي الشاة إذا ولدت سبعا ، عمد إلى السابع ، فإن كان ذكرا ذبح ، وإن كانت أنثى تركت ، وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما ، قالوا : وصلت أخاها ، فيتركان جميعا لا يذبحان ، فتلك الوصيلة . وقوله : وَلا حامٍ كان الرجل يكون له الفحل فإذا لقح عشرا قيل : حام ، فاتركوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ " ليسيبوها لأصنامهم . وَلا وَصِيلَةٍ يقول : الشاة . وَلا حامٍ يقول : الفحل من الإبل .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ " وَلا حامٍ تشديد شدّده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم ، وتغليظ عليهم ، فكانت البحيرة مثل الإبل إذا نتج الرجل خمسا من إبله نظر البطن الخامس ، فإن كانت سقبا ذبح فأكله الرجال دون النساء ، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم ، وإن كانت حائلاً وهي الأنثى تركت فبتكت أذنها ، فلم يجزّ لها وبر ولم يشرب لها لبن ولم يركب لها ظهر ولم يذكر لله عليها اسم . وكانت السائبة : يسيبون ما بدا لهم من أموالهم ، فلا تمتنع من حوض أن تشرع فيه ولا من حمى أن ترتع فيه . وكانت الوصيلة من الشاء : من البطن السابع ، إذا كان جديا ذبح فأكله الرجال دون النساء ، وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم ، وإن جاءت بذكر وأنثى قيل وصلت أخاها فمنعته الذبح . والحام : كان الفحل إذا ركب من بني بنيه عشرة أو ولد ولده ، قيل حام ، حمى ظهره ، فلم يزم ولم يخطم ولم يركب .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " فالبحيرة من الإبل : كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، إن كان الخامس سقبا ذبحوه فأهدوه إلى آلهتهم وكانت أمه من عرض الإبل ، وإن كانت رُبَعة استحيوها ، وشقوا أذن أمها ، وجزّوا وبرها ، وخلوها في البطحاء ، فلم تَجُزْ لهم في دية ، ولم يحلبوا لها لبنا ، ولم يجزّوا لها وبرا ، ولم يحملوا على ظهرها ، وهي من الأنعام التي حرّمت ظهورها . وأما السائبة : فهو الرجل يسيب من ماله ما شاء على وجه الشكر إن كثر ماله ، أو برأ من وجع ، أو ركب ناقة فأنجح ، فإنه يسمي السائبة يرسلها فلا يعرض لها أحد من العرب إلا أصابته عقوبة في الدنيا . وأما الوصيلة ، فمن الغنم ، هي الشاة إذا ولدت ثلاثة أبطن أو خمسة ، فكان آخر ذلك جديا ذبحوه وأهدوه لبيت الآلهة ، وإن كانت عَناقا استحيوها ، وإن كانت جديا وعناقا استحيوا الجدي من أجل العناق ، فإنها وصيلة وصلت أخاها . وأما لحام : فالفحل يضرب في الإبل عشر سنين ، ويقال : إذا ضرب ولد ولده قيل : قد حمي ظهره ، فيتركونه لا يمسّ ، ولا ينحر أبدا ، ولا يمنع من كلإ يريده ، وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، في قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " قال : البحيرة من الإبل التي يمنع درّها للطواغيت . والسائبة من الإبل : كانوا يسيبونها لطواغيتهم . والوصيلة من الإبل كانت الناقة تبكر بأنثى ، ثم تثني بأنثى ، فيسمونها الوصيلة ، يقولون : وصلت اثنتين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم ، أو يذبحونها ، الشكّ من أبي جعفر . والحام : الفحل من الإبل ، كان يضرب الضراب المعدود ، فإذا بلغ ذلك ، قالوا : هذا حام ، قد حمى ظهره فترك ، فسموه الحام . قال معمر ، قال قتادة : إذا ضرب عشرة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : البحيرة من الإبل : كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، فإن كان الخامس ذكرا كان للرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى بتكوا آذانها ، ثم أرسلوها ، فلم ينحروا لها ولدا ، ولم يشربوا لها لبنا ، ولم يركبوا لها ظهرا . وأما السائبة ، فإنهم كانوا يسيبون بعض إبلهم ، فلا تمنع حوضا أن تشرع فيه ، ولا مرعى أن ترتع فيه . والوصيلة : الشاة : كانت إذا ولدت سبعة أبطن ، فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكله الرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى تركت .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، عن الضحاك : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " أما البحيرة : فكانت الناقة إذا نتجوها خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبا ، وإن كان رُبَعة شقوا أذنها واستحيوها ، وهي بحيرة . وأما السقب فلا يأكل نساؤهم منه ، وهو خالص لرجالهم ، فإن ماتت الناقة أو نتجوها ميتا فرجالهم ونساؤهم فيه سواء يأكلون منه . وأما السائبة : فكان يسيب الرجل من ماله من الأنعام ، فيهمل في الحمى فلا ينتفع بظهره ولا بولده ، ولا بلبنه ، ولا بشعره ، ولا بصوفه . وأما الوصيلة ، فكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحوا السابع إذا كان جديا ، وإن كان عناقا استحيوه ، وإن كان جديا وعناقا استحيوهما كليهما ، وقالوا : إن الجدي وصلته أخته ، فحرمته علينا . وأما الحامي : فالفحل إذا ركبوا أولاد ولده ، قالوا : قد حمى هذا ظهره ، وأحرز أولاد ولده ، فلا يركبونه ، ولا يمنعونه من حمى شجر ، ولا حوض مّا شرع فيه ، وإن لم يكن الحوض لصاحبه ، وكانت من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء من شأنهم ، لا إن ركبوا ، ولا إن حملوا ، ولا إن حلبوا ، ولا إن نتجوا ، ولا إن باعوا ، ففي ذلك أنزل الله تعالى : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ . . . " إلى قوله : " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ " قال : هذا شيء كانت تعمل به أهل الجاهلية ، وقد ذهب . قال : البحيرة : كان الرجل يجدع أذنى ناقته ثم يعتقها ، كما يعتق جاريته وغلامه ، لا تحلب ، ولا تركب . والسائبة : يسيبها بغير تجديع . والحام : إذا نتج له سبع إناث متواليات حمت لحمها أن يؤكل .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، قال : ثني ابن الهاد ، عن ابن شهاب ، قال : قال سعيد بن المسيب : السائبة : التي كانت تسيب فلا يحمل عليها شيء . والبحيرة : التي يمنع درّها للطواغيت فلا يحلبها أحد . والوصيلة : الناقة البكر تبكر أوّل نتاج الإبل بأنثى ، ثم تثني بعد بأنثى ، وكانوا يسمونها للطواغيت ، يدعونها الوصيلة ، إن وصلت إحداهما بالأخرى . والحامي : فحل الإبل يضرب العشر من الإبل ، فإذا نقص ضرابه يدعونه للطواغيت ، وأعفوه من الحمل ، فلم يحملوا عليه شيئا ، وسموه الحامي .
وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام ، فلا نعرف قوما يعملون بها اليوم . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان ما كانت الجاهلية تعمل به لا يوصل إلى علمه إذ لم يكن له في الإسلام اليوم أثر ، ولا في الشرك نعرفه إلا بخبر ، وكانت الأخبار عما كانوا يفعلون من ذلك مختلفة الاختلاف الذي ذكرنا فالصواب من القول في ذلك أن يقال : أما معاني هذه الأسماء ، فما بينا في ابتداء القول في تأويل هذه الاية . وأما كيفية عمل القوم في ذلك ، فما لا علم لنا به . وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا ، وغير ضائر الجهل بذلك إذا كان المراد من علمه المحتاج إليه ، موصلاً إلى حقيقته ، وهو أن القوم كانوا محرمين من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله اتباعا منهم خطوات الشيطان ، فوبخهم الله تعالى بذلك ، وأخبرهم أن كلّ ذلك حلال ، فالحرام من كلّ شيء عندنا ، ما حرّم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، بنصّ أو دليل . والحلال منه : ما أحلّه الله ورسوله كذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " .
اختلف أهل التأويل في المعنيّ بالذين كفروا في هذا الموضع والمراد بقوله : " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " . فقال بعضهم : المعنيّ بالذين كفروا : اليهود ، وبالذين لا يعقلون : أهل الأوثان .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان ، عن دواد بن أبي هند ، عن محمد بن أبي موسى : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ " قال : أهل الكتاب . " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " قال : أهل الأوثان .
وقال آخرون : بل هم أهل ملة واحدة ، ولكن «المفترين » المتبوعون ، و«الذين لا يعقلون » : الأتباع .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا خارجة ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ في قوله : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " هم الأتباع . وأما «الذين افتروا » ، يعقلون أنهم افتروا .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن المعنيين بقوله : " وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللّهِ الكَذِبَ " الذين بحروا البحائر ، وسيبوا السوائب ، ووصلوا الوصائل ، وحموا الحوامي مثل عمرو بن لحي وأشكاله ، ممن سنوا لأهل الشرك السنن الرديئة وغيروا دين الله دين الحقّ وأضافوا إلى الله تعالى أنه هو الذي حرّم ما حرّموا وأحلّ ما أحلوا ، افتراء على الله الكذب وهم يعلمون ، واختلاقا عليه الإفك وهم يعمهون . فكذّبهم الله تعالى في قيلهم ذلك ، وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا ، فقال تعالى ذكره : ما جعلت من بحيرة ولا سائبة ، ولكن الكفار هم الذين يفعلون ذلك ويفترون على الله الكذب . وأن يقال : إن المعنيين بقوله " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " هم أتباع من سنّ لهم هذه السنن من جهلة المشركين ، فهم لا شكّ أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون ، لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن ، وأخبروهم أنها من عند الله كذبة في إخبارهم أفكة ، بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقون في إخبارهم صادقون . وإنما معنى الكلام : وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرّمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى كذب وباطل . وهذا القول الذي قلنا في ذلك نظير قول الشعبيّ الذي ذكرناه ، ولا معنى لقول من قال : عنى بالذي كفروا : أهل الكتاب ، وذلك أن النكير في ابتداء الاية من الله تعالى على مشركي العرب ، فالختم بهم أولى من غيرهم ، إذ لم يكن عرض في الكلام ما يصرف من أجله عنهم إلى غيرهم . وبنحو ذلك كان يقول قتادة .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ " يقول : لا يعقلون تحريم الشيطان الذي يحرّم عليهم ، إنما كان من الشيطان ولا يعقلون .
{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } رد وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية وهو أنهم إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وخلوا سبيلها ، فلا تركب ولا تحلب ، وكان الرجل منهم يقول : إن شفيت فناقتي سائبة ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها ، وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لألهتهم وإن ولدتهما قالوا وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر ، وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى وقالوا : قد حمي ظهره ، ومعنى ما جعل ما شرع ووضع ، ولذلك تعدى إلى مفعول واحد وهو البحيرة ومن مزيدة . { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } بتحريم ذلك ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى . { وأكثرهم لا يعقلون } أي الحلال من الحرام والمبيح من المحرم ، أو الأمر من الناهي ولكنهم يقلدون كبارهم وفيه أن منهم من يعرف بطلان ذلك ولكن يمنعهم حب الرياسة وتقليد الآباء أن يعترفوا به .
لما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم . أخبر تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئاً منها ولا سنه لعباده . المعنى ولكن الكفار فعلوا ذلك إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحي وغيره يفترون على الله الكذب ويقولون هذه قربة إلى الله وأمر يرضيه{ وأكثرهم } يعني الأتباع { لا يعقلون } بل يتبعون هذه الأمور تقليداً وضلالاً بغير حجة و { جعل } في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله . لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها . ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني ، وإنما هي بمعنى ما سنَّ ولا شرع فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد و «البحيرة » فعلية بمعنى مفعولة . وبحر شق كانوا إذا انتجت الناقة عشرة بطون شقوا أذنها بنصفين طولاً فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرجال{[4752]} ، وقال ابن عباس كانوا يفعلون ذلك بها إذا أنتجت خمسة بطون ، وقال مسروق إذا ولدت خمساً أو سبعاً شقوا أذنها .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر مما يروى في هذا أن العرب كانت تختلف في المبلغ الذي تبحر عنده آذان النوق ، فلكل سنة ، وهي كلها ضلال ، قال ابن سيده ويقال «البحيرة » هي التي خليت بلا راع ، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة .
قال القاضي أبو محمد : أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر ، وعلى هذا يجيء قول ابن مقبل :
فيه من الأخرج المرتاع قرقرة *** هدر الديامي وسط الهجمة البحر{[4753]}
فإنما يريد النوق العظام وإن لم تكن مشققة الآذان . وروى الشعبي عن أبي الأحوص عن أبيه قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلمة آذانها ، فتأخذ الموسى فتقطع آذانها ، فتقول هذه بحر ، وتقطع جلودها فتقول هذه صوم فتحرمها عليك وعلى أهلك ؟ قال نعم قال : فإن ما آتاك الله لك حل . وساعد الله أشد ، وموسى الله أحُّد{[4754]} .
والسائبة : هي الناقة التي تسيب للآلهة ، والناقة أيضاً إذا تابعت اثنتي عشرة إناثاً ليس فيهن ذكر سيبت ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي : «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت أشبه به منك ، قال أكثم : أيضرني شبهه يا رسول الله ؟ قال : لا إنك مؤمن وإنه كافر » ، هو أول من غير دين إسماعيل عليه اسلام ونصب الأوثان وسيب السوائب{[4755]} ، وكانت السوائب أيضاً في العرب كالقربة عند المريض يبرأ منه ، والقدوم من السفر ، وإذا نزل بأحدهم أمر يشكر الله عليه تقرب بأن يسيب ناقة فلا ينتفع منها بلبن ولا ظهر ولا غيره ، يرون ذلك كعتق بني آدم{[4756]} ، ذكره السدي وغيره وكانت العرب تعتقد أن من عرض لهذه النوق فأخذها أو انتفع منها بشيء فإنه تلحقه عقوبة من الله ، و «الوصيلة » قال أكثر الناس :
إن «الوصيلة » في الغنم قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون أو خمسة فإن كان آخرها جدياً{[4757]} ذبحوه لبيت الآلهة وإن كانت عناقاً{[4758]} استحيوها{[4759]} وإن كان جذي وعناق استحيوهما وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من أن يذبح ، وعلى أن الوصيلة في الغنم جاءت الروايات عن أكثر الناس وروي عن سعيد بن المسيب أن الوصيلة من الإبل كانت الناقة إذا ابتكرت بأنثى ثم ثنت بأخرى قالوا وصلت أنثيين ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم أو يذبحونها .
شك الطبري في إحدى اللفظين . وأما «الحامي » فإنه الفحل من الإبل إذا ضرب في الإبل عشرين وقيل إذا ولد من صلبه عشر وقيل إذا ولد ولده قالوا حمي ظهره فسيبوه لم يركب ولا سخر في شيء{[4760]} ، وقال علقمة لمن سأله في هذه الأشياء ما تريد إلى شيء كان من عمل أهل الجاهلية وقد ذهب ؟ وقال نحوه ابن زيد .
قال القاضي أبو محمد : وجملة ما يظهر من هذه الأمور أن الله تعالى قد جعل هذه الأنعام رفقاً لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة ، فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع وُيذهبون نعمة الله فيها ويزيلون المصلحة التي للعباد في تلك الإبل ، وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف ، فإن المالك الذي له أن يهب ويتصدق له أن يصرف المنفعة في أي طريق من البر ، ولم يسد الطريق إليها جملة كما فعل بالبحيرة والسائبة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز الأحباس والأوقاف وقاسوا على البحيرة والسائبة ، والفرق بين ، ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبساً لا يجتنى ثمرها ولا يزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة ، وأما الحبس البين طريقه واستمرار الانتفاع به فليس من هذا ، وحسبك بأن النبي عليه السلام قال لعمر بن الخطاب في مال له : اجعله حبساً لا يباع أصله ، وحبس أصحاب النبي عليه الصلاة السلام{[4761]} .
وقوله تعالى { ولكن الذين كفروا } الآية ، وقد تقدم أن المفترين هم المبتدعون ، وأن الذين { لا يعقلون } هم الأتباع ، وكذلك نص الشعبي وغيره وهو الذي تعطيه الآية ، وقال محمد بن أبي موسى : الذين كفروا وافتروا هم أهل الكتاب ، والذين { لا يعقلون } هم أهل الأوثان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تفسير من انتزع ألفاظ آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما تأخر أيضاً من قوله { وإذا قيل لهم } والأول من التأويلين أرجح .