قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } . وذلك أن آدم لم يكن له في الجنة من يجانسه فنام نومة فخلق الله زوجته حواء من قصيراء شقه الأيسر ، وسميت حواء لأنها خلقت من حي ، خلقها الله عز وجل من غير أن أحس به آدم ولا وجد له ألماً ، ولو وجد ألماً لما عطف رجل على امرأة قط فلما هب من نومه رآها جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله فقال لها : من أنت ؟ قالت زوجتك خلقني الله لك تسكن إلي وأسكن إليك .
قوله تعالى : { وكلا منها رغداً } . واسعاً كثيراً .
قوله تعالى : { حيث شئتما } . كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما .
قوله تعالى : { ولا تقربا هذه الشجرة } . يعني للأكل ، وقال بعض العلماء : وقع النهي على جنس من الشجرة ، وقال آخرون : على شجرة مخصوصة ، واختلفوا في تلك الشجرة ، قال ابن عباس ومحمد بن كعب و مقاتل : هي السنبلة وقال ابن مسعود : هي شجرة العنب . وقال ابن جريج : شجرة التين ، وقال قتادة : شجرة العلم وفيها من كل شيء ، وقال علي : شجرة الكافور .
قوله تعالى : { فتكونا } . فتصيرا .
قوله تعالى : { من الظالمين } . أي : الضارين بأنفسكما بالمعصية ، وأصل الظلم ، وضع الشيء في غير موضعه .
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }
لما خلق الله آدم وفضله ، أتم نعمته عليه ، بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها ، ويستأنس بها ، وأمرهما بسكنى الجنة ، والأكل منها رغدا ، أي : واسعا هنيئا ، { حَيْثُ شِئْتُمَا } أي : من أصناف الثمار والفواكه ، وقال الله له : { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى }
{ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } نوع من أنواع شجر الجنة ، الله أعلم بها ، وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء [ أو لحكمة غير معلومة لنا ]{[87]} { فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } دل على أن النهي للتحريم ، لأنه رتب عليه الظلم .
وقوله - تعالى - { وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة } معطوف على قوله { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ . . . إلخ } أي : بعد أن أمرنا الملائكة بالسجود لآدم ، قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، فهذه تكرمه أكره الله بها بعد أن أكرمه بكرامة الإِجلال من تلقاء الملائكة .
وقوله : { اسكن } أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن على وجه الاستقرار .
والزوج : يطلق على الرجل والمرأة والمراد به هنا حواء ، حيث تقول العرب للمرأة زوج ، ولا تكاد تقول زوجة .
والجنة : هي كل بستان ذي شجر متكاثف ، ملتف الأغصان ، يظلل ما تحته ويستره ، من الجن ، وهو ستر الشيء عن الحاسة .
وجمهور أهل السنة على أن المراد بها هنا دار الثواب . التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة ، لأن هذا هو المتبادر إلى الذهن عند الإِطلاق .
ويرى جمهور علماء المعتزلة أن المراد بها هنا بستان بمكان مرتفع من الأرض ، خلقه الله لإِسكان آدم وزوجه ، واختلفوا في مكانه ، فقيل بفلسطين . وقيل بغيرها .
وقد ساق الإِمام ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح ) أدلة الفريقين دون أن يرجح شيئاً منها .
والأحوط والأسلم : الكف عن تعيينها وعن القطع به ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو منصور الماتريدي في التأويلات ، إذ ليس لهذه المسألة تأثير في العقيدة .
والمخاطب بالأمر ، بسكنى الجنة آدم وحواء ، ولكن الأسلوب جاء في صيغة الخطاب لآدم وعطفت عليه زوجه ، لأنه هو المقصود بالأمر وزوجه تبع له .
ثم بين - سبحانه - أنه قد أباح لهما أن يأكلا من ثمار الجنة أكلا واسعا فقال : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } أي كلا من مطاعم الجنة وثمارها أكلا هنيئاً أو واسعاً في أي مكان من الجنة أردتم .
يقال : رغد عيش القوم أي : اتسع وطاب ، وأرغد القوم ، أي : اخصبوا وصاروا في رزق واسع .
والضمير في قوله { مِنْهَا } يعود إلى الجنة ، والمراد بالأكل منها : الأكل من مطاعمها وثمارها ، لأن الجنة تستلزم ثماراً هي المقصودة بالأكل .
ثم بين - سبحانه - أنه نهاهم عن الأكل من شجرة معينة فقال : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } .
القرب : الدنو ، والمنهى عنه هو الأكل من ثمار الشجرة ، وتعليق النهي بالقرب منها إذ قال { وَلاَ تَقْرَبَا } القصد منه المبالغة في النهي عن الأكل ، إذ في النهي عن القرب من الشيء قطع لوسيلة التلبس سبه ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } فنهى عن القرب من الزنا ليقطع الوسيلة إلى ارتكابه وهي القرب منه . وأكد النبي بأن جعل عدم اجتناب الأكل من الشجرة ظلماً فقال : { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } وقد ظلما أنفسهما إذ أكلا منها ، فقد ترتب على أكلهما منها أن أخرجا من الجنة التي كانا يعيشان فيها عيشة راضية .
وقد تكلم العلماء كثيراً عن اسم هذه الشجرة ونوعها فقيل هي التينة ، وقيل : هي السنبلة ، وقيل هي الكرم . . الخ . إلا أن القرآن لم يذكر نوعها على عادته في عدم التعرض لذكر ما لم يدع المقصود من سوق القصة إلى بيانه .
وقد أحسن الإِمام ابن جرير في التعبير عن هذا المعنى فقال : " والصواب في ذلك أن يقال : إن الله - تعالى - نهى آدم وزوجه عن الأكل من شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة ، وقد قيل : كانت شجرة البر ، وقيل كانت شجرة العنب . وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به .
عطف على { قلنا للملائكة اسجدوا } [ البقرة : 34 ] أي بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة . وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاءِ الملائكة .
ونداء آدم قبل تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملإ الأعلى ، لأن نداءه يسترعي إسماع أهل الملإ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به ، وينتزع من هذه الآية أن العالم جدير بالإكرام بالعيش الهنيء ، كما أخذ من التي قبلها أنه جدير بالتعظيم .
والأمر بقوله : { اسكن } مستعمل في الامتنان بالتمكين والتخويل وليس أمراً له بأن يسعى بنفسه لسكنى الجنة إذ لا قدرة له على ذلك السعي فلا يكلف به .
وضمير { أنت } واقع لأجل عطف { وزوجك } على الضمير المستتر في { اسكن } وهواستعمال العربية عند عطف اسم ، على ضمير متصل مرفوع المحل لا يكادون يتركونه ، يقصدون بذلك زيادة إيضاح المعطوف فتحصل فائدة تقرير مدلول المعطوف لئلا يكون تابعه المعطوف عليه أبرز منه في الكلام ، فليس الفصل بمثل هذا الضمير مقيداً تأكيداً للنسبة لأن الإتيان بالضمير لازم لا خيرة للمتكلم فيه فلا يكون مقتضى حال ولا يعرف السامع أن المتكلم مريد به تأكيداً ولكنه لا يخلو من حصول تقرير معنى المضمر وهو ما أشار إليه في « الكشاف » بمجموع قوله : وأنت تأكيد للضمير المستكن ليصح العطف عليه .
والزوج كل شيء ثان مع شيء آخر بينهما تقارُن ، في حال ما . ويظهر أنه اسم جامد لأن جميع تصاريفه في الكلام ملاحظ فيها معنى كونه ثاني اثنين أو مماثل غيره ، فكل واحد من اثنين مقترنين في حالٍ ما يسمى زوجاً للآخر قال تعالى : { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } [ الشورى : 50 ] أي يجعل لأحد الطفلين زوجاً له أي سواه من غير صنفه ، وقريب من هذا الاستعمال استعمال لفظ شفع .
وسميت الأنثى القرينة للرجل بنكاح زوجاً لأنها اقترنت به وصيرته ثانياً ، ويسمى الرجل زوجاً لها لذلك بلا فرق ، فمن ثم لا يقال للمرأة زوجة بهاء تأنيث لأنه اسم وليس بوصف . وقد لحنوا الفرزدق في قوله :
وإن الذي يَسعى ليُفسِد زوجتي *** كساعٍ إلى أُسْد الثرى يستبيلُها
وتسامح الفقهاء في إلحاق علامة التأنيث للزوج إذا أرادوا به امرأة الرجل لقصد نفي الالتباس في تقرير الأحكام في كتبهم في مثل قولهم : القول قول الزوج ، أو القول قول الزوجة وهو صنيع حسن .
وفي « صحيح مسلم » عن أنس بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه يا فلان فجاء فقال له : هذه زوجتي فلانة " الحديث ، فقوله : زوجتي بالتاء فتعين كونه من عبارة راوي الحديث في السند إلى أنس وليست بعبارة النبيء صلى الله عليه وسلم .
وطوى في هذه الآية خلق زوج آدم ، وقد ذكر في آيات أخرى كقوله تعالى : { الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] وسيأتي ذلك في سورة النساء وسورة الأعراف ( 189 ) .
ولم يرد اسم زوج آدم في القرآن واسمها عند العرب حواء وورد ذكر اسمها في حديث رواه ابن سعد في « طبقاته » عن خالد بن خداش عن ابن وهب يبلغ به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الناس لآدم وحواء كطف لصاع لن يملأوه " الحديث ( طف المكيال بفتح الطاء وكسرها ما قرب من ملئه ) أي هم لا يبغون الكمال فإن كل كمال من البشر قابل للزيادة . وخالد بن خداش بصري وثقه ابن معين وأبو حاتم وسليمان بن حرب وضعفه ابن المديني . فاسم زوج آدم عند العرب حواء واسمها في العبرانية مضطرب فيه ، ففي سفر التكوين في الإصحاح الثاني أن اسمها امرأة سماها كذلك آدم قال : لأنها من امرىء أخذت . وفي الإصحاح الثالث أن آدم دعا اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي . وقال ابن سعد نام آدم فخلقت حواء من ضلعه فاستيقظ ووجدها عنده فقال : أثا أي امرأة بالنبطية ، أي اسمها بالنبطية المرأة كما سماها آدم . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وعلم آدم الأسماء } [ البقرة : 31 ] أن آدم دعا نفسه ، إيش ، فلعل أثا محرفة عن إشّا . واسمها بالعبرية ( خمواه ) بالخاء المعجمة وبهاء بعد الألف ويقال أيضاً حيوا بحاء مهملة وألف في آخره فصارت بالعربية حواء وصارت في الطليانية إيا وفي الفرنسية أي . وفي التوراة أن حواء خلقت في الجنة بعد أن أسكن آدم في الجنة وأن الله خلقها لتؤنسه قال تعالى : { وجعل منها زوجها ليسكن إليها } [ الأعراف : 189 ] أي يأنس .
والأمر في { اسكن } أمر إعطاء أي جعل الله آدم هو وزوجه في الجنة . والكنى اتخاذ المكان مقراً لغالب أحوال الإنسان .
والجنة قطعة من الأرض فيها الأشجار المثمرة والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس ويأكل من ثمره إذا جاع ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر ويروقه منظر ذلك كله ، فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات .
وتعريف ( الجنة ) تعريف العهد وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها إذا كان التعريف في ( الجنة ) حكاية لما يرادفه فيما خوطب به آدم ، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا بالمعنى وذلك جائز في حكاية القول .
وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين هذه الجنة فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين والمصدقين رسله وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب أي في السماء وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة وهذا الذي تقلده أهل السنة من علماء الكلام وأبو علي الجبائي ، وهو الذي تشهد به ظواهر الآيات والأخبار المروية عن النبيء صلى الله عليه وسلم ولا تَعْدُو أنها ظواهرُ كثيرة لكنها تفيد غلبة الظن وليس لهذه القضية تأثير في العقيدة .
وذهب أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بَحْر وأبو القاسم البلخي والمعتزلة عدا الجبائي إلى أنها جنة في الأرض خلقها الله لإسكان آدم وزوجه ، ونقل البيضاوي عنهم أنها بستان في فِلسطين أو هو بين فَارس وكِرْمان ، وأحسب أن هذا ناشىء عن تطلبهم تعيين المكان الذي ذكر ما يسمى في التوراة باسم عَدْن .
ففي التوراة في الإصحاح الثاني من سفر التكوين « وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عَدْن ليعملها ويحفظها ثم قالت فأخرجه الرب الإله من جنة عدْن ليعمل الأرض التي أخذ منها » وهذا يقتضي أن جنة عدن ليست في الأرض لكن الذي عليه شراح التوراة أن جنة عَدْن في الأرض وهو ظاهر وصف نهر هذه الجنة الذي يسقيها بأنه نهر يخرج من عَدْن فيسقي الجنة ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رؤُوس اسم الواحد ( قيشون ) وهو المحيط بجميع أرض الحويلة وهم من بني كوش كما في الإصحاح من التكوين واسم النهر الثاني ( جَيحون ) وهو المحيط بجميع أرض كوش ، واسم النهر الثالث ( حِدّا قِلْ ) وهو الجاري شرق أشَور ( دجلة ) . والنهر الرابع الفُرات .
ولم أقف على ضبط عَدْن هذه . ورأيت في كتاب عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهودياً وأسلم وألف كتاباً في الرد على اليهود سماه « الحُسام المحدود في الرد على اليهود » كتَبه بغِيدِن وضبطه بالعلامات بكسر الغين المعجمة وكسر الدال المهملة ولعل النقطة على حرف العين سهو من الناسخ فذلك هو منشأ قول القائلين أنها بِعَدْن أو بفلسطين أو بين فارس وكرمان ، والذي ألجأهم إلى ذلك أن جنة الثواب دار كمال لا يناسب أن يحصل فيها العصيان وأنها دار خُلد لا يخرج ساكنها ، وهو التجاء بلا ملجىء لأن ذلك من أحوال سكان الجنة لا لتأثير المكان وكلُّه جعل الله تعالى عندما أراده .
واحتج أهل السنة بأن أل في { الجنة } للعهد الخارجي ولا معهود غيرها ، وإنما تعين كونها للعهد الخارجي لعدم صحة الحمْل على الجنس بأنواعه الثلاثة ، إذ لا معنى للحمل على أنها لام الحقيقة لأنها قد نيط بها فعل السكنى ولا معنى لتعلقه بالحقيقة بخلاف نحو الرجلُ خير من المرأة ، ولا معنى للحمل على العهد الذهني إذ الفرد من الحقيقة هنا مقصود معين لأن الأمر بالإسكان جزاء وإكرام فلا بد أن يكون متعلقاً بجنة معروفة ، ولا معنى للحمل على الاستغراق لظهور ذلك . ولما كان المقصود هو الجزاء تعين أن يكون متعلقاً بأمر معين معهود ولا معهود إلا الجنة المعروفة لا سيما وهو اصطلاح الشرع .
وقد يقال يختار أن اللام للعهد ولعل المعهود لآدم هو جنة في الأرض معينة أشير إليها بتعريف العهد ولذلك أختار أنا أن قوله تعالى : { اسكُن أنت وزوجك الجنة } لما كان المقصود منه القصص لنا حكي بالألفاظ المتعارفة لدينا ترجمة لألفاظ اللغة التي خوطب بها آدم أو عن الإلهام الذي ألقي إلى آدم فيكون تعريف { الجنة } منظوراً فيه إلى متعارفنا فيكون آدم قد عرف المراد من مسكنه بطريق آخر غير التعريف ويكون قد حُكي لنا ذلك بطريقة التعريف لأن لفظ الجنة المقترن في كلامنا بلام التعريف يدل على عين ما دل عليه الطريق الآخر الذي عَرَف به آدم مراد الله تعالى ، أي قلنا له اسكن البقعة التي تسمونها أنتم اليومَ بالجنة ، والحاصل أن الأظهر أن الجنة التي أُسكنها آدم هي الجنة المعدودة داراً لجزاء المحسنين .
ومعنى الأكل من الجنة من ثمرها لأن الجنة تستلزم ثماراً وهي مما يقصد بالأكل ولذلك تجعل { من } تبعيضية بتنزيل بعض ما يحويه المكان منزلة بعض لذلك المكان . ويجوز أن تكون { من } ابتدائية إشارة إلى أن الأكل المأذون فيه أكل ما تثمره تلك الجنة كقولك هذا الثَّمر من خيبر .
والرغَد وصف لموصوف دل عليه السياق أي أَكلاً رغَداً ، والرغَد الهنيء الذي لا عناء فيه ولا تقتير .
وقوله : { حيث شئتما } ظرفُ مكان أي من أي مواضع أرَدْتُما الأكل منها ، ولما كانت مشيئتهما لا تنحصر بمواضع استفيد العموم في الإذن بطريق اللزوم ، وفي جعل الأكل من الثمر من أحوال آدم وزوجه بين إنشائها تنبيه على أن الله جعل الاقتيات جبلة للإنسان لا تدوم حياته إلا به .
وقوله : { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } يعني به ولا تأكلا من الشجرة لأن قربانها إنما هو لقصد الأكل منها فالنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الأكل لأن القرب من الشيء ينشىءُ داعية وميلاً إليه ففيه الحديث " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " وقال ابن العربي سمعتُ الشاشي في مجلس النظر يقول : > اهـ . وهو غريب فإن قَرُب وقَرِب نحو كرم وسمع بمعنى دنا ، فسواء ضممت الراء أو فتحتها في المضارع فالمراد النهي عن الدنو إلا أن الدنو بعضه مجازي وهو التلبس وبعضه حقيقي ولا يكون للمجازي وزن خاص في الأفعال وإلا لصار من المشترك لا من الحقيقة والمجاز ، اللهم إلا أن يكون الاستعمال خص المجازي ببعض التصاريف فتكون تلك الزنة قرينة لفظية للمجاز وذلك حَسن وهو من محاسن فروق استعمال الألفاظ المترادفة في اللغة العربية مثل تخصيص بَعِدَ مكسور العين بالانقطاع التام وبعُد مضموم العين بالتنحّي عن المكان ولذلك خص الدعاء بالمكسور في قولهم للمسافر لا تبعَد ، قالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية :
إخْوَتِي لا تَبْعَدوا أبدا *** وَبَلى واللَّه قَد بعِدوا
وفي تعليق النهي بقربان الشجرة إشارة إلى منزع سد الذرائع وهو أصل من أُصول مذهب مالك رحمه الله وفيه تفصيل مقرر في أصول الفقه .
والإشارة بهذه إلى شجرة مرئية لآدم وزوجه ، والمراد شجرة من نوعها أو كانت شجرةً وحيدة في الجنة .
وقد اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة ، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة ، وعن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين . ووقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر .
وقوله : { فتكونا من الظالمين } أي من المعتدين وأشهر معاني الظلم في استعمال العرب هو الاعتداء ، والاعتداء إما اعتداء على نهي الناهي إن كان المقصود من النهي الجزْم بالترك وإما اعتداء على النفس والفضيلة إن كان المقصود من النهي عن الأكل من الشجرة بقاء فضيلة التنعُم لآدم في الجنة ، فعلى الأول الظلم لأنفسهما بارتكاب غضب الله وعقابه وعلى الثاني الظلم لأنفسهما بحرمانها من دوام الكرامة .
قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: أول معصية عصي الله بها الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر عليه، وشح آدم، قيل له كل من جميع شجر الجنة إلا هذه الشجرة، فشح، فأكلها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
في هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أخرج من الجنة بعد الاستكبار عن السجود لآدم، وأسكنها آدم قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول:"وَقُلْنَا يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنةَ وكُلا مِنْهَا رَغدا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ فأزَلّهُما الشّيْطانُ عَنْها فأخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ". فقد تبين أن إبليس إنما أزلّهما عن طاعة الله، بعد أن لُعن، وأظهر التكبر، لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نفخ فيه الروح، وحينئذٍ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلت عليه اللعنة...
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عدوّ الله إبليس أقسم بعزّة الله ليغوينّ آدم وذريته وزوجه، إلا عباده المخلصين منهم، بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرج من الجنة، وقبل أن يهبط إلى الأرض، ويعلّم الله آدم الأسماء كلها...
وعن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فأخرج إبليس من الجنة حين لعن، وأسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وَحْشا ليس له زوج يسكن إليها. فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليّ. قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ علمه: ما اسمها يا آدم؟ قال: حوّاء، قالوا: ولم سميت حوّاء؟ قال: لأنها خُلقت من شيء حيّ. فقال الله له: "يا آدَمَ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا". فهذا الخبر ينبئ عن أن حوّاء خلقت بعد أن سكن آدم الجنة فجُعلت له سكنا...
[و] عن عبد الله بن عباس وغيره: ثم أخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولأم مكانه لحما وآدم نائم لم يهبّ من نومته حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأة ليسكن إليها. فلما كشف عنه السِّنَة وهبّ من نومته رآها إلى جنبه، فقال فيما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجتي. فسكن إليها. فلما زوّجه الله تبارك وتعالى وجعل له سكنا من نفسه، قال له، فتلا: "يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَجُكَ الجَنّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبا هَذِهِ الشّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ".
ويقال لامرأة الرجل زوجه وزوجته، والزوجة بالهاء أكثر في كلام العرب منها بغير الهاء، والزوج بغير الهاء يقال إنه لغة لأزد شنوءة. فأما الزوج الذي لا اختلاف فيه بين العرب فهو زوج المرأة...
"وكُلاَ مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا": أما الرغد، فإنه الواسع من العيش، الهنيء الذي لا يُعَنّي صاحبه، يقال: أرغد فلان: إذا أصاب واسعا من العيش الهنيء...
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "وكُلاَ مِنْهَا رَغَدا "قال: الرغد: الهنيء...
وعن مجاهد في قوله: "رَغَدا "قال: لا حساب عليهم...
وعن ابن عباس: "وكُلا مِنْها رَغَدا حَيْثُ شِئْتُمَا" قال: الرغد: سعة المعيشة...
فمعنى الآية: "وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة"، وكلا من الجنة رزقا واسعا هنيئا من العيش حيث شئتما...
عن قتادة قوله: "يا آدَم اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنّةَ وكُلا مِنْهَا رَغَدا حَيْثُ شِئْتُما" ثم إن البلاء الذي كتب على الخلق كتب على آدم كما ابتُلي الخلق قبله أن الله جل ثناؤه أحلّ له ما في الجنة أن يأكل منها رغدا حيث شاء غير شجرة واحدة نُهي عنها. وقدم إليه فيها، فما زال به البلاء حتى وقع بالذي نُهي عنه.
"وَلاَ تَقْرَبا هَذِهِ الشجرَةَ": والشجر في كلام العرب: كل ما قام على ساق، ومنه قول الله جل ثناؤه: "وَالنّجمُ وَالشّجَرُ يَسْجُدَانِ" يعني بالنجم: ما نجم من الأرض من نبت. وبالشجر: ما استقلّ على ساق.
ثم اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نُهي عن أكل ثمرها آدم...
فقال بعضهم هي السنبلة... وقال آخرون: هي الكرمة...وقال آخرون: هي التّينة...
فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به. ولا علم عندنا أيّ شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلاً على ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة... وذلك إن علمه عالم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضرّه جهله به...
"فَتَكُونَا مِنَ الظّالِمِينَ"... يعني به فتكونا من المتعدّين إلى غير ما أذن لهم وأبيح لهم فيه. وإنما عنى بذلك أنكما إن قربتما هذه الشجرة كنتما على منهاج من تعدّى حدودي وعصى أمري واستحلّ محارمي لأن الظالمين بعضهم أولياء بعض، والله وليّ المتقين...
وأصل الظلم في كلام العرب وضع الشيء في غير موضعه... وظلمه إياه: مجيئه في غير أوانه، وانصبابه في غير مصبه...
وقد يتفرع الظلم في معان يطول بإحصائها الكتاب، وسنبينها في أماكنها إذا أتينا عليها إن شاء الله تعالى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
السكنى: من السكون، لأنها نوع من اللبث والاستقرار. و {أَنتَ} تأكيد للمستكن في {اسكن} ليصح العطف عليه.
و {رَغَدًا} وصف للمصدر، أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً.
و {حَيْثُ} للمكان المبهم، أي: أيّ مكان من الجنة {شِئْتُمَا} أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة بين أشجارها الفائتة للحصر...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال بعض الحذاق: إن الله لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب.
وفي حظره تعالى على آدم الشجرة ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يدوم، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء، ولا يؤمر ولا ينهى.
... والظلم في أحكام الشرع على مراتب، أعلاها الشرك، ثم ظلم المعاصي وهي مراتب، وهو في هذه الآية يدل على أن قوله: {ولا تقربا} على جهة الوجوب، لا على الندب، لأن من ترك المندوب لا يسمى ظالماً، فاقتضت لفظة الظلم قوة النهي...
قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} اعلم أن ههنا مسائل:
المسألة الرابعة: اختلفوا في الجنة المذكورة في هذه الآية، هل كانت في الأرض أو في السماء؟ وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب أو جنة الخلد أو جنة أخرى؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني: هذه الجنة كانت في الأرض، وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى: {اهبطوا مصرا} [البقرة: 61] واحتجا عليه بوجوه أحدها: أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد، ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه: 120]، ولما صح قوله: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20]. وثانيها: أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى: {وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 48].
وثالثها: أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله على أن يصل إلى جنة الخلد.
ورابعها: أن الجنة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله تعالى: {أكلها دائم وظلها} [الرعد: 35] ولقوله تعالى: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها} [هود: 108] إلى أن قال: {عطاء غير مجذوذ} [هود: 108] أي غير مقطوع، فهذه الجنة لو كانت هي التي دخلها آدم عليه السلام لما فنيت، لكنها تفنى لقوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص: 88] ولما خرج منها آدم عليه السلام لكنه خرج منها وانقطعت تلك الراحات.
وخامسها: أنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدئ الخلق في جنة يخلدهم فيها ولا تكليف لأنه تعالى لا يعطي جزاء العاملين من ليس بعامل ولأنه لا يهمل عباده بل لابد من ترغيب وترهيب ووعد ووعيد.
وسادسها: لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان ذلك أولى بالذكر لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم. فدل ذلك على أنه لم يحصل وذلك يوجب أن المراد من الجنة التي قال الله تعالى له: {اسكن أنت وزوجك الجنة} جنة أخرى غير جنة الخلد.
القول الثاني: وهو قول الجبائي: أن تلك الجنة كانت في السماء السابعة والدليل عليه قوله تعالى: {اهبطوا منها} [البقرة: 38]، ثم إن الإهباط الأول كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى، والإهباط الثاني كان من السماء إلى الأرض.
القول الثالث: وهو قول جمهور أصحابنا: أن هذه الجنة هي دار الثواب، والدليل عليه أن الألف واللام في لفظ الجنة لا يفيدان العموم لأن سكنى جميع الجنان محال فلابد من صرفها إلى المعهود السابق والجنة التي هي المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب، فوجب صرف اللفظ إليها.
والقول الرابع: أن الكل ممكن والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع والله أعلم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
في قوله تعالى:"اسكن" تنبيه على الخروج؛ لأن السكنى لا تكون ملكا، ولهذا قال بعض العارفين: السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة. قلت: وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقول الجمهور من العلماء: إن من أسكن رجلا مسكنا له أنه لا يملكه بالسكنى، وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الإسكان...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما فرغ من نعمة التفضيل في الصفات الذاتية بين النعمة بشرف المسكن مع تسخير زوج من الجنس لكمال الأنس وما يتبع ذلك فقال تعالى. وقال الحرالي: لما أظهر الله سبحانه فضيلة آدم فيما أشاد به عند الملائكة من علمه وخلافته والإسجاد له وإباء إبليس عنه أظهر تعالى إثر ذلك ما يقابل من أحوال آدم حال ما ظهر للملائكة بما فيه من حظ مخالفة يشارك بها إفراط ما في الشيطان من الإباء...، وليظهر فضل آدم في حال مخالفته على إبليس في حال إبائه مما يبدو على آدم من الرجوع بالتوبة كحال رجوع الملائكة بالتسليم، فيظهر فيه الجمع بين الطرفين والفضل في الحالين: حال علمه وحال توبته في مخالفته، فجعل تعالى إسكان الجنة توطئة لإظهار ذلك من أمره فقال تعالى: { {وقلنا يا آدم اسكن}، من السكن وهو الهدوء في الشيء الذي في طيه إقلاق.
{وزوجك الجنة} فأجنت لآدم ما فيها من خبء استخراج أمر معصيته ليكون ذلك توطئة لكمال باطنه بإطلاعه على سر من أسرار ربه في علم التقدير إيماناً والكمال ظاهره يكون ذلك توطئة لفضيلة توبته إسلاماً ليسن لبنيه التوبة إثر المعصية، مخالفة لإصرار إبليس بعد إبائه وشهادة عليه بجهله في ادعائه، وجعل له ذلك فيما هو متنزل عن رتبة علمه فلم تلحقه فيه فتنة حفيظة على خلافته وأنزلت معصيته إلى محل مطعمه الذي هو خصوص حال المرء من جهة أجوفية خلقه ليبدو نقص الأجوف، ويبدي ذلك إكبار الصمد الذي "يُطْعِم ولا يُطعَم"، فكان ذلك من فعله تسبيحاً بحمد ربه؛ لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيراً له انتهى.
ولما كان السياق هنا لمجرد بيان النعم استعطافاً إلى المؤالفة، كان عطف الأكل بالواو في قوله: {وكلا منها} كافياً في ذلك، وكان التصريح بالرغد الذي هو من أجل النعم عظيم الموقع فقال تعالى: {رغداً} أي واسعاً رافها طيباً هنيئاً {حيث} أي: أيّ مكان {شئتما} بخلاف سياق الأعراف فإنه أريد منه مع التذكير بالنعم التعريف بزيادة التمكين وأنها لم تمنع من الإخراج تحذيراً للمتمكنين في الأرض المتوسعين في المعايش من إحلال السطوات وإنزال المَثُلات، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم المقصود من حكاية القصص في القرآن إنما هو المعاني فلا يضر اختلاف اللفظ إذا أدى جميع المعنى أو بعضه ولم يكن هناك مناقضة، فإن القصة كانت حين وقوعها بأوفى المعاني الواردة. ثم إن الله تعالى يعبر لنا في كل سورة تذكر القصة فيها بما يناسب ذلك المقام في الألفاظ عما يليق من المعاني ويترك ما لا يقتضيه ذلك المقام.
ولما أباح لهما سبحانه ذلك كله، أتبعه بالنهي عن شجرة واحدة. قال الحرالي: وأطلق له الرغد إطلاقاً، وجعل النهي عطفاً، ولم يجعله استثناء ليكون آدم أعذر في النسيان، لأن الاستثناء أهم في الخطاب من التخصيص وقال: {ولا تقربا} ولم يقل: ولا تأكلا، نهياً عن حماها ليكون ذلك أشد في النهي -انتهى.
{هذه} ولما كان اسم الإشارة لا دلالة له على حقيقة الذات افتقر إلى بيان ذات المشار إليه فقال: {الشجرة} أي فإنكما إن قربتماها تأكلا منها {فتكونا} أي بذلك {من الظالمين} أي الواضعين الشيء في غير موضعه كمن يمشي في الظلام؛ وفي هذا النهي دليل على أن هذه السكنى لا تدوم، لأن المخلد لا يناسب أن يعرض للحظر بأن يحظر عليه شيء ولا أن يؤمر ولا ينهى، ولذلك دخل عليه الشيطان من جهة الخلد، ولا داعي لبيان نوع الشجرة لأن السياق لبيان شؤم المخالفة وبركة التوبة لا لتعيين المنهي عنه فليس بيانه حينئذ من الحكمة.
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
تنبيه: في هذه الآية مبالغتان: الأولى: تعليق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه ووجوب الاجتناب عنه وتنبيهاً على أن القرب من الشيء يورث داعية وميلاً يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع كما روى أبو داود: (حبك الشيء يعمى ويصم) أي: يخفى عليك معانيه ويصم أذنيك عن سماع مساويه فينبغي أن لا يحول ما حول ما حرّم عليهما مخافة أن يقعا فيه.
الثانية: جعل قربانهما إلى الشجرة سبباً لأن يكونا من الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{(35) وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (36) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (37) فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} مجمل الآيات أن هذا العالم لما استعد لوجود هذا النوع الإنساني، واقتضت الحكمة الإلهية إيجاده واستخلافه في الأرض، آذن الله تعالى الأرواح المنبثة في الأشياء لتدبيرها ونظامها بذلك، وأن تلك الأرواح فهمت من معنى كون الإنسان خليفة أنه يفسد النظام ويسفك الدماء، حتى أعلمها الله تعالى بأن علمها لم يحط بمواقع حكمته، ولا يصل إلى حيث يصل علمه تعالى. ثم أوجد آدم وفضله بتعليمه الأسماء كلها، على أن كل صنف من تلك الأرواح لا يعلم إلا طائفة منها، ولذلك أخضع له تلك الأرواح إلا روحا واحدا هو مبعث الشر ومصدر الإغواء فقد أبى الخضوع، واستكبر عن السجود، لما كان في طبيعته من الاستعداد لذلك. والاستعداد في الشيء إنما يظهر بظهور متعلقه.
فلا يقال: إذا كان لكل روح من هذه الأرواح والقوى الغيبية علم محدود، فكيف ظهر من الروح الإبليسي ما لم يسبق له، وهو مخالفة الأمر بالسجود لآدم والتصدي لإغوائه؟ لا يقال ذلك لأنه كان مستعدا لهذا العصيان والإباء فلما أمر عصى. ولما وجد خلقا مستعدا للوسوسة اتصل به ووسوس إليه. كما أن ألوان ورق الشجر والزهور موجودة كامنة في البذرة ولكنها لا تظهر إلا عند الاستعداد لها ببلوغ الطور المحدود من النمو. ومجمل الآيات اللاحقة: أن الله تعالى أمر آدم وزوجه بسكنى الجنة والتمتع بها ونهاهما عن الأكل من شجرة مخصوصة وأخبرهما أن قربها ظلم. وأن الشيطان أزلهما عنها فأخرجهما مما كان فيه من النعيم إلى ضده. ثم إن آدم تاب إلى الله من معصيته فقبله. ثم جعل سعادة هذا النوع بإتباع هدى الله وشقاءه بتركه... وقد تقدم أن الآيات كلها قد سيقت للاعتبار ببيان الفطرة الإلهية التي فطر عليها الملائكة والبشر. وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما يلاقى من الإنكار. وتقدم وجه ذلك في الآيات السابقة. وأما وجهه في هذه الآيات فظاهر، وهو أن المعصية من شأن البشر. كأنه يقول: فلا تأس يا محمد على القوم الكافرين ولا تبخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [فقد كان الضعف في طباعهم ينتهي إليهم من أول سلف لهم. تغلب عليهم الوساوس. وتذهب بصرهم الدسائس. انظر ما وقع لآدم وما كان منه وسنة الله مع ذلك لا تتبدل. فقد عوقب آدم على خطيئته بإهباطه مما كان فيه. وإن كان قد قبل توبته. وغفر هفوته] فالمعصية دائما مجلبة الشقاء. وقد استقر أمر البشر على أن سعادتهم في اتباع الهداية الإلهية وشقاءهم في الانحراف عن سبلها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والآن. لقد انكشف ميدان المعركة الخالدة. المعركة بين خليقة الشر في إبليس، وخليفة الله في الأرض. المعركة الخالدة في ضمير الإنسان. المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربه، وينتصر فيها الشر بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهوته. ويبعد عن ربه:
(وقلنا: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، وكلا منها رغدا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فتكونا من الظالمين)..
لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة.. إلا شجرة.. شجرة واحدة، ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الأرض. فبغير محظور لا تنبت الإرادة، ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق، ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط. فالإرادة هي مفرق الطريق. والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة، ولو بدوا في شكل الآدميين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فتكونا من الظالمين} أي من المعتدين. وأشهر معاني الظلم في استعمال العرب هو الاعتداء، والاعتداء إما اعتداء على نهي الناهي، إن كان المقصود من النهي الجزْم بالترك. وإما اعتداء على النفس والفضيلة، إن كان المقصود من النهي عن الأكل من الشجرة بقاء فضيلة التنعُم لآدم في الجنة. فعلى الأول الظلم لأنفسهما بارتكاب غضب الله وعقابه، وعلى الثاني الظلم لأنفسهما بحرمانها من دوام الكرامة...
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
وقد يقول قائل: إن آدم عليه السلام فشل في هذا الامتحان لأن الشيطان بلغ منه قصده، فقد تمكن من إنسائه عهد الله، وقدر على التأثير عليه حتى ارتكب ما نُهي عنه.
والجواب أن هذا لا يعد فشلا مع تدارك الأمر بالتوبة والانقلاب من الغفلة والغي والمعصية إلى أضدادها من الذكر والرشد والطاعة، وقد أراد الله لآدم أن يكون إمام التائبين من ذريته فإنهم جميعا خطاؤون وخير الخطَّائين التوابون، ولهم في أبيهم آدم -الذي ثاب إليه رشده فتعجل التوبة إلى الله- أسوة حسنة، أما الذي يُخلد إلى هواه ويصر على غيه ويركب رأسه في عناده لله فله في الشيطان -الذي أصر واستكبر استكبارا- أسوة سيئة.
وقد نادى الله آدم باسمه العلم إيناسا وتكريما له وإشعارا بمنزلته في ذلك العالم العلوي.
والأمر بسكنى آدم وزوجه الجنة وُجه إليه ولم يُوجه إليهما معا لأن المرأة تابعة للرجل، وقد سكت القرآن عن وقت خلق حواء، فما لنا إلا أن نسكت عنه وإن كان في ذلك مجال رحب للذين يسوغون لأنفسهم أن يقولوا ما لا يعلمون...
ونجد النهي عن تلك الشجرة لم يقتصر على الأكل منها بل شمل القرب منها لأجل سد ذرائع المعصية، فإن الدنو منها مفض [إلى] ارتكابها، ونحوه قوله عز وجل: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإِسراء: 32]، ومن ثم حُجر على الإنسان ممارسة أي سبب يُفضي إلى معصية الله كما يدل عليه حديث النعمان بن بشير عند الشيخين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعرفهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه" وفي ذلك داعية إلى نفرة المسلم العاقل من كل المعاصي بعدم الحوم حول حماها، والقرب من الأمر يهون خَطبه ويدعو إلى ألفته، والنفس ميالة بطبعها إلى ما فيه مضرتها إن لم يتعهدها صاحبها بالرعاية ويستمد من الله التوفيق والعون...
هذا وإني لأعجب ممن يقول إن إبليس لم يتسلط على آدم إلا من طريق حواء مع أن القرآن صريح بأنه -لعنه الله- كان خطابه لآدم فقد قال تعالى: {قَالَ يآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا} [طه: 120-121]، فإن ذلك واضح في أن أكلهما ناشئ عن هذا الخطاب الموجه إلى آدم، وهو لا ينافي أن يكون خاطبهما معا كما يدل عليه قوله سبحانه: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] وإنما حكى الله تارة خطابه لهما معا، وتارة خطابه لآدم وحده لأن حواء تبع له كما سبق.
هذا وقد بين الله لهما عاقبة مخالفتهما أمره بقربهما من تلك الشجرة التي نُهيا عنها حيث قال لهما: {فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} وأصل الظلم وضع الشيء في غر موضعه، ومنه استحسان ما ليس بمستحسن، وقد استحسنا الأكل من تلك الشجرة بتزيين إبليس لهما ذلك مع ما فيه من مخالفة أمر الله...
وإطلاق الظلم على فعلهما لا يستلزم أن يكون من الكبائر لمنافاة ذلك عصمة النبوة، وللعلم بأنهما لم يأتيا ما أتياه لأجل الوقوع في مخالفة أمره سبحانه وتعالى، وإنما كان ذلك إما نسيانا وإما خطأ كما سيأتي قريبا إن شاء الله، وليس تهويل هذه المخالفة إلا لعلو قدرهما وعظم شأنهما، وما أحسن قول من قال: "حسنات الأبرار سيئات المقربين"...، فلا غرابة في إطلاق اسم الظلم على صنيع صفي الله آدم عليه السلام وإن كان بالنسبة إلى غير صغيرا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يستفاد من آيات القرآن أن آدم خُلق للعيش على هذه الأرض. لكنّ الله شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنّة، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم، وخالية من كل ما يزعج آدم.
[و] لعل مرحلة مكوث آدم في الجنّة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض وصعوبة تحمّل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسؤوليات المستقبل، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإِلهية في تحقيق سعادته، ولإِعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع إهمال هذه التكاليف، وللتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض...كان من الضروري أيضاً أن يعلم آدم بإمكان العودة إلى الله بعد المعصية. فمعصية الله لا تسدّ إلى الأبد أبواب السعادة أمامه، بل يستطيع أن يرجع ويعاهد الله أن لا يعود لمثلها، وعند ذاك يعود إلى النعم الإِلهية.
[ف] ينبغي أن ينضج آدم (عليه السلام) في هذا الجوّ إلى حد معيّن، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه، ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض. نعم، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض. كانت هذه مقدمات تأهيلية يحتاجها آدم وأبناء آدم في حياتهم الجديدة. ولعل الفترة التي قضاها آدم في الجنّة أن ينهض بمسؤولية الخلافة على الأرض كانت تدريبية أو تمرينية. وهنا رأى «آدم» نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة، لكن الشيطان أبى إلاّ أن ينفذ قسمه في إغواء آدم وذريته، فطفق يوسوس لآدم ويعده وزوجه كما يبدو من سائر آيات القرآن الكريم بالخلود وباتخاذ شكل الملائكة وأقسم أنه لهما من الناصحين. (الأعراف، 20 و 21)