تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{وَقُلۡنَا يَـٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (35)

قد عُلم مما تقدم أن حقيقة كل أمور التكوين والخلق ونشأة الإنسان أمرٌ يفوضه السلَفُ إلى الله تعالى ، ويكتفون بظاهر اللفظ فيه .

أما الخلف فيلجأون إلى التأويل ، وأمثلُ طرقه في هذا المقام التمثيل .

وقد مضت سنّة الله في كتابه أن يُبرز لنا الأشياء المعنوية في قوالب العبارة اللفظية ، ويبين لنا المعارف المعقولة بالصور المحسوسة ، تقريباً للأفهام . ومن ذلك أنه عرّفنا قيمة أنفسنا ، وما أُودعته فطرتُنا مما تمتاز به على سائر المخلوقات . فعلينا والحال هذه أن نجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا الله مستعدّين لها من دون الملائكة وسائر الخلق . . بذلك تظهر حكمته فينا ، ونشرف ، على معنى إعلام الله الملائكةَ بفضلِنا عليهم ، ومعنى سجودهم لأصلنا .

فمجمل الآيات السابقة أن هذا العالَم لما استعدّ لوجود هذا النوع الانساني ، واقتضت الحكمة الإلَهية استخلافه في الأرض- أعلم الله تعالى الملائكةَ بذلك ، وقدّر الملائكة أنه يفسد النظام ويسفك الدماء ، حتى أعلمهم الله أن علمهم لم يحط بمواقع حكمته . ثم أوجد آدم وفضّله بتعليمه الأسماء كلها ، فيما كلُّ صنف من الملائكة لا يعلم إلا طائفة محدودة منها . لذلك أمرهم الله بالخضوع لآدم فأطاعوه ، إلا روحاً واحداً هو مبعث الشر ، أبى الخضوع ، واستكبر عن السجود . فكان بذلك من الكافرين .

ومجمل الآيات هنا : أن الله تعالى لما خلق آدم وزوجته ، أسكنهما الجنة ، وقال لهما : اسكنا فيها ، وكُلا منها ما تشاءان ، من أي مكان وأي ثمر ، ولا تقربا شجرة معينة ، لتأكلا منها ، وإلا كنتما من الظالمين العاصين .

والجنة المرادة هنا أمرٌ اختلف فيه المفسرون . فقال بعضهم : إنها جنة الخُلد ، أي : دار الثواب التي أعدها الله للمؤمنين يوم القيامة . قال ابن تيمية «وهذا قول أهل السنّة والجماعة ، ومن قال غير ذلك فهو من الملحِدة » ، ولا أدري كيف يجرؤ غفر الله له على هذا القول ويجعل من قال به ملحِدا ، وعلى رأس القائلين بذلك إمامان جليلان هما : أبو حنيفة ، والماتريدي ، وكثيرون غيرهم .

وقال كثيرون : إن تلك الجنة بستان في الأرض وليست هي جنة الخلد . وعلى هَذا جرى أبو حنيفة ، وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره حيث قال : «نحن نعتقد أن هذه الجنة بستان من البساتين ، كان آدم وزوجته منعمين فيها ، وليس علينا تعيينها ، ولا البحث عن مكانها » .

وقال الألوسي في تفسيره روح المعاني : ومما يؤيد هذا الرأي :

01 -أن الله خلق آدم في الأرض ، ليكون خليفة فيها هو وذريته .

02 - أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلْق آدم في الأرض عرج به إلى السماء ، ولو حصل لذُكر ، لأنه أمر عظيم .

03- أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلاَّ المتقون المؤمنون ، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة !

04- أنها دار للنعيم والراحة ، لا دار تكليف ، - وقد كُلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة .

05- أنه لا يُمنع من في الجنة من التمتع بما يريد منها .

06- أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة ، لأنها دار طهر ، ولا دار رجس .

وعلى الجملة ، فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على هذه الجنة التي سكنها آدم ، وطرد منها . . . . » .

أما الشجرة التي نُهي آدم وزوجه أن يأكلا منها ، فلم يبيّن الله في كتابه نوعها ، ولم يَرد في السنّة الصحيحة تعيينها ، فلا نستطيع أن نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع .

وقال الأستاذ العقاد في كتابه المرأة في القرآن : «إن قصة الشجرة الممنوعة التي أكل منها آدم وحواء ، هي الصورة الإنسانية لوسائل الذكَر والأنثى في الصلة الجنسية بين عامة الأحياء ، الرجل يريد ويطلب ، والمرأة تتصدى وتغري . وتتمثل في القصة بداهة النوع في موضعها ، أي حيث ينبغي أن تتمثل أول علاقة بين اثنين من نوع الإنسان .

وقد وردت القصة في القرآن في ثلاثة مواضع . ووردت في الإصحاح الثالث من سِفر التكوين . وفي الإصحاح الحادي عشر من العهد الجديد في كتاب كورنثوس الثاني ، والإصحاح الثاني في تيموثاوس .

وهي تعبّر برموزها السهلة عن بداهة النوع المتأصلة في إدراكه للمقابلة بين الجنسين ، وعن دور كل منهما في موقفه من الجنس الآخر ، على الوجه الوحيد الذي تتم به إرادة النوع ، والمحافظة على بقائه .

وخلاصة القول : إن ثمرات هذه الشجرة هي ثمرات التكليف بجميع لوازمه ونتائجه ، وما كان الفارق بين آدم قبل الأكل منها وبعد الأكل ، إلا الفارق بين الحياة في دعة وبراءة ، والحياة المكلّفة التي لا تخلو من المشقة والشقاق ، والامتحان بالفتنة ، ومعالجة النقائص والعيوب . وكلّما تكررت القصة في الآيات القرآنية كان في تكرارها تثبيت لهذا المعنى على وجه من وجوهه المتعددة . يبدو ذلك جلياً من المقابلة بين ما تقدم ، وما جاء عن هذه القصة في سورة الأعراف ، وذلك حيث يُذكر التصوير بعد الخلق ، أو إعطاء الصورة بعد إعطاء الوجود . . .