الجملة من قوله : { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } معطوفة على جملة " إذْ قُلْنَا " لا على " قلنا " وحده لاختلاف زمنيهما .
و " أنت " توكيد للضمير المُسْتَكِنّ في " اسكن " ليصح العطف عليه{[1127]} " وزوجك " عطف عليه ، هذا هو مذهب البَصْريين ، أعني اشتراط الفعل بين المُتَعَاطفين إذا كان المعطوف عليه ضميراً مرفوعاً متصلاً ، ولا يشترط أن يكون الفاصل توكيداً ؛ بل أي فصل كان ، نحو : { مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] .
وأما الكوفيون فيجيزون ذلك من غير فاصل ؛ وأنشدوا : [ الخفيف ]
قُلْتُ إذْ أَقْبَلَتْ وَزُهْرٌ تَهَادَى *** كَنِعَاجِ الفَلاَ تَعَسَّفْنَ رَمْلا{[1128]}
وهذا عند البصريين ضرورة لا يقاس عليه ، وقد منع بعضهم أن يكون " زوجك " عطفاً على الضمير المستكن في " اسكن " ، وجعله من عطف الجُمَلِ ، بمعنى أن يكون " زوجك " مرفوعاً بفعل محذوف ، أي : وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ ، فحذف لدلالة " اسكن " عليه{[1129]} ، ونظيره قوله : { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } [ طه : 58 ] وزعم أنه مذهب سيبويه ، وكان شبهته في ذلك أن من حَقّ المعطوف حلوله محل المعطوف عليه ، ولا يصح هنا حلول " زوجك " محلّ الضمير لأنّ فاعل فعل الأمر الواحد المذكور نحو : " قُمْ واسْكُن " لا يكون إلا ضميراً مستتراً وكذلك فاعل يفعل ، فكيف يصح وقوع الظاهر المضمر الذي قبله ؟ وهذا الذي يزعم ليس بشيء ؛ لأنَّ مذهب سيبويه بنصّه يخالفه ؛ ولأنه لا خلاف في صحّة " تقوم هند وزيد " ولا يصحّ مُبَاشرة " زيد " لا " تقوم " لتأنيثه .
و " السُّكُون " و " السُّكْنَى " : الاستقرار ، ومنه " المِسْكِينُ " لعدم حركته وتصرّفه ، والسِّكين لأنها تقطع حركة المَذْبوح ، والسَّكينة لأن بها يذهب القَلَقُ .
وسكّان السفينة عربي لأنه يسكنها عن الاضطراب ، والسّكن : النار .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** قَدْ قُوِّمَتْ بِسَكَنٍ وَأَدْهَانْ{[1130]}
و " الجَنّ " : مفعول به لا ظرف ، نحو : " سكنت الدَّار " .
وقيل : هي ظَرْف على الاتساع ، وكان الأصل تعديته إليها ب " في " لكونها ظرف مكان مختصّ ، وما بعد القول منصوب به .
فصل في بيان هل الأمر في الآية للإباحة أو لغير ذلك
اختلفوا في قوله : " اسكن " هل هو أمر أو إباحة ؟
فروي عن قتادة : أن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابْتَلَى الملائكة بالسُّجود ، وذلك لأن كلفه بأن يكون في الجنّة يأكل منها حيث شاء ، ونهاه عن شجرة واحدة .
والصحيح أن ذلك الإسكان مشتمل على إباحة ، وهي الانتفاع بجميع نعم الجنة وعلى تكليف ، وهو النهي عن أَكْلِ الشجرة .
قال بعضهم : قوله : " اسكن " تنبيه عن الخُرُوجِ ؛ لأن السُّكْنَى لا تكون ملكاً ؛ لأن من أسكن رجلاً مَسْكناً له فإنه لا يملكه بالسُّكنى ، وأن له أن يخرجه منه إذا انقضت مدة الإسكان ، وكان " الشَّعْبِيّ " يقول : إذا قال الرجل : داري لك سُكْنَى حتى تموت ، فهي له حياته وموته ، وإذا قال : داري هذه اسْكُنْهَا حتى تموت ، فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مَاتَ ، ونحو السُّكنى العُمْرَى ، إلا أن الخلاف في العُمْرَى أقوى منه في السُّكنى .
قال " الحربي " : سمعت " ابن الأعرابي " يقول : لم يختلف العَرَبُ في أنّ هذه الأشياء على ملك أربابها ، ومنافعها لمن جعلت له العُمْرَى والرُّقْبَى والإفقار والإخْبَال والمِنْحَة والعَرِيّة والسُّكْنَى والإطْرَاق .
اختلفوا في الوَقْتِ الذي خلقت زوجته فيه ، فذكر " السّدي " عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وناس من الصَّحابة رضي الله عنهم : أن الله - تعالى - لما أخرج " إبليس " من الجنة ، وأسكن آدم بقي فيها وَحْدَهُ ما كان معه مَنْ يستأنس به ، فألقى الله - تعالى - عليه النَّوم ، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقِّهِ الأيسر ، ووضع مكانه لحماً ، وخلق حواء منه ، فلما استيقظ وَجَدَ عند رأسه امرأةً قاعدةً فسألها ما أنت ؟ قالت : امرأة . قال : ولم خُلِقْتِ ؟ قالت لتسكن إليَّ فقالت الملائكة : لنجرب علمه من عنده ، قال : امرأة ، قيل : ولم سميت امرأة ؟ قال : لأنها من المرأء أخذت ، فقالوا له : ما اسمها ؟ قال : حَوّاء ، قالوا : ولم سميت حواء ؟ قال : لأنها خلقت من حََيّ{[1131]} .
وعن " ابن عباس " رضي الله عنهما قال : " بعث الله جنداً من الملائكة ، فحملوا آدم وحَوّاء - عليهما الصَّلاة والسَّلام - على سَرِيْرٍ من ذهب كما يحمل الملوك ، ولباسهما النور حتى أدخلا الجنّة " .
فهذا الخبر يدلّ على أن حواء خلقت قبل إدخالهما الجنة .
روى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنَّ المرأة خلقت من ضِلع الرَّجُل ، فإذا أردت تَقْوِيمَهَا كَسَرْتَهَا ، وإن تركتها انْتَفَعْتَ بها واسْتَقَامَتْ " {[1132]} ، وهذا القول منقول " عن أبي بن كعب ، وابن عباس ، ووهب بن منبه ، وسفيان بن عُيَيْنَةَ " .
واختاره ابن قتيبة في " المَغَازي " ، [ والقاضي منذر بن سعيد البلوطي ]{[1133]} وحكاه عن " أبي حنيفة " وأصحابه ، وهو نصّ التوراة التي بأيدي أهل الكتاب .
وفي رواية : " وإن أَعْوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أَعْلاَهُ ؛ لن تستقيم لك على طَرِيقَةٍ واحدة ، فإن اسْتَمْتََعْتَ بها ، استمتعت وبها عِوَجٌ ، وإن ذهبت تُقِيمُهَا كَسْرَتَهَا ، وكَسْرُهَا طَلاَقُهَا " ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
هِيَ الضِّلَعُ العَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُهَا *** أَلاَ إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انْكِسَارُهَا
أَتَجْمَعُ ضَعْفاً وَاقْتِداراً عَلَى الفَتَى *** أَلَيْسَ عَجِيباً ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا{[1134]}
فصل في بيان خلافهم في الجنة المقصودة
اختلفوا في هذه الجنة هل كانت في الأرض أو في السماء ؟ وبتقدير أنها كانت في السَّمَاء ، فهل هي دار ثواب أو جنّة الخُلْدِ ؟
فقال أبو القاسم البَلْخِيّ ، وأبو مسلم الأصفهاني : هذه الجنة كانت في الأرض وحملا الإهباط على الانتقال من بُقْعَةٍ إلى بُقْعَةٍ كما في قوله : { اهْبِطُواْ مِصْراً } [ البقرة : 61 ] واحتجّا عليه بوجوه :
أحدها : أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد ، ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغُرُورُ من " إبليس " ولما صحّ قوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [ الأعراف : 20 ] .
وثانيها : أن من دخل هذه الجَنَّة لا يخرج منها لقوله تعالى : { وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [ الحجر : 48 ] .
وثالثها : أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله أن يصل إلى جنة الخلد .
ورابعها : أن جنة الخلد لا يفنى نعيمها لقوله : { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا } إلى أن قال : { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] أي : غير مقطوع .
وخامسها : لا نزاع في أن الله - تعالى - خلق آدم في الأَرْضِ ، ولم يذكر في هذه القصّة أنه نقله إلى السماء ، ولو كان - تعالى - قد نقله إلى السَّماء لكان أولى بالذكر ؛ لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم ، فدلّ على أن ذلك لم يحصل ، وذلك يوجب أن هذه الجنّة غير جنّة الخلد .
وقال " الجُبَّائي " : أن تلك الجَنّة كانت في السَّمَاء السَّابعة ، والدليل عليه قوله : " اهْبِطُوا مِنْهَا " ثم إنّ الإهباط الأول كان من السَّماء السَّابعة إلى السماء الأولى ، والإهباط الثاني كان مِنَ السماء إلى الأرض .
وقال أكثر العلماء : إنها دَارُ الثواب ؛ لأنَّ الألف واللام في لفظ الجَنّة لا يفيدان العموم ؛ لأن سكون جميع الجِنَان مُحَال ، فلا بد من صرفها إلى المَعْهُود السّابق ، وجنّة الخلد هي المعهودة بين المسلمين ، فوجب صرف اللفظ إليها .
وقال بعضهم : الكُلّ ممكن ، والأدلّة النقلية ضعيفة ومتعارضة ، فوجب التوقُّف وترك القطع ، والله أعلم .
قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } هذه الجملة عطف على " اسْكُن " ، فهي في محلّ نصب بالقول ، وأصل " كُلْ " : " اؤكل " بهمزتين : الأولى همزة وصل ، والثانية فاء الكلمة ، فلو جاءت هذه الكلمة على الأصل لقيل : أوكُل بإبدال الثانية حرفاً مجانساً لحركة ما قبلها ، إلاّ أن العرب حذفت فاءه في الأمر تخفيفاً ، فاستغنت حينئذ عن همزة الوَصْلِ ، فوزنه " عُلْ " ومثله : " خُذْ " و " مُرْ " ، ولا يقاس على هذه الأفعال غيرها ، فلا تقول : من " أَجَرَ - جُر " ولا تَرَدُّ العرب هذه الفاء في العَطْفِ ، بل تقول : " قم وخذ وكل " إلاَّ " مُرْ " ، فإن الكثير رَدّ فاءه بعد الواو والفاء ، قال تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ } [ طه : 132 ] ، وعدم الرد قليل .
وحكى سيبويه " اؤكل " على الأصل ، وهو شاذّ .
وقال " ابن عطية " {[1135]} : حذفت النون من " كُلا " للأمر .
وهذه العِبَارَةُ موهمةٌ لمذهب الكوفيين من أنّ الأمر عندهم معرب على التدريج ، وهو عند البصريين محمول على المجزوم ، فإن سكن المجزوم سكن الأمر منه ، وإن حذف منه حرف حذف من الأمر .
و " منها " متعلّق به ، و " من " للتبعيض ، ولا بُدّ من حذف مضاف أي : من ثمارها ويجوز أن تكون " من " لابتداء الغاية ، وهو حسن .
فإن قيل : ما الحكمة في عطفه هنا " وَكُلاَ " بالواو ، وفي " الأعراف " بالفاء ؟
والجواب : كلّ فعل عطف عليه شيء ، وكان الفعل بمنزلة الشَّرط ، وذلك الشَّيء بمنزلة الجزاء ، عطف الثَّاني على الأوّل بالفاء دون الواو ، كقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا }
[ البقرة : 58 ] فعطف " كلوا " على " ادخلوا " بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها فكأنه قال : إن دخلتموها أكلتم منها ، فالدُّخول موصل إلى الأَكْل ، والأكل متعلّق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله في سورة " الأعراف " : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ } [ الأعراف : 161 ] فعطف " كلوا " على قوله : " اسكنوا " بالواو دون الفاء ؛ لأن " اسكنوا " من السُّكْنَى ، وهو المقام مع طول اللّبْث والأكل لا يختص وجوده بوجوده ؛ لأن من دخل بستاناً قد يأكل منه ، وإن كان مجتازاً ، فلما لم يتعلّق الثاني بالأول تعلّق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء . إذا ثبت هذا فقوله : " اسكن " يقال لمن أراد منه ، الزم المَكَان الذي دخلته ، فلا تنفك عنه ، ويقال أيضاً لمن لم يدخله : اسكن هذا المكان يعني : ادخله واسكن فيه ، فقوله في سورة البقرة : { اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ } إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنّة ، فكان المُرَادُ منه اللُّبْث والاستقرار ، وقد بَيَّنَّا أن الأكل لا يتعلّق به ، فلهذا ورد بلفظ الواو ، وفي سورة " الأعراف " هذا الأمر إنما ورد قبل دخول الجَنّة ، فكان المراد منه دخول الجنة ، وقد بينا أن الأَكْلَ متعلّق به ، فلهذا ورد بلفظ الفاء ، والله أعلم .
و " رَغَداً " نعت لمصدر مَحْذوف ، وقد تقدم أن مذهب سيبويه في هذا ونحوه أن ينتصب حالاً .
وقيل : هو مصدرٌ في موضع الحال أي : كُلاَ طَيِّبَيْنِ مُهَنَّأَيْنِ .
وقرأ النَّخَعِي{[1136]} : وابن وَثّاب : " رَغْداً " بسكون الغَيْن ، وهي لغة " تميم " .
وقال بعضهم : كل فعل حَلْقي العَيْن صحيح اللاّم يجوز فَتْح عينه وتسكينها ، نحو : " نَهْرَ وبَحْرَ " وهي لغة " تميم " .
وهذا فيه نظر ، بل المنقول أن " فَعْلاً " بسكون العين إذا كانت عينه حَلْقية لا يجوز فتحها عند البصريين ؛ إلاّ أن يسمع فيقتصر عليه ، ويكون ذلك على لُغتين ؛ لأن إحداهما مأخوذة من الأخرى .
وأما الكوفيون فبعض هذا عندهم ذو لُغَتَيْنِ ، وبعضه أصله السّكون ، ويجوز فتحه قياساً ، أما أن " فَعَلاً " المفتوح العين الحَلْقِيها يجوز فيه التسكين ، فيجوز في السَّحَر : السَّحْر ، فهذا لا يجيزه أحد .
و " الرّغد " الواسع الهنيء ؛ قال امرؤ القيس : [ الرمل ]
بَيْنَمَا المَرْءُ تَرَاهُ نَاعِماً *** يَأْمَنُ الأَحْدَاثُ في عَيْشٍ رَغَدْ{[1137]}
ويقال : رَغُِدَ عيشهم - بضم الغَيْن وبكسرها - وأرغد القوم : صاروا في رَغَدٍ .
" حَيْثُ شِئْتُما " حيث : ظرف مكان ، والمشهور بناؤها على الضم لشبهها بالحرف في الافتقار إلى جملة ، وكانت حركتها ضمة تشبيهاً ب " قَبْلُ وبَعْدُ " .
ونقل " الكسائي " إعرابها عن " قيس " وفيها لغات : " حَيْث " بتثليث الثاء ، و " حَوْث " بتثليثها أيضاً ، ونقل : " حَاثَ " بالألف .
وهي لازمة الظرفية لا تتصرف ، وقد تجر ب " من " كقوله تعالى :
{ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } [ البقرة : 222 ] { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 182 ] وهي لازمة للإضافة إلى جملة مطلقاً ، ولا تضاف إلى المفرد إلا نادراً ؛ قالوا : [ الرجز ]
أَمَا تَرَى حَيْثُ سُهَيْلٍ طَالِعَا{[1138]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَنَطْعَنُهُمْ تَحْتَ الحُبَى بَعْدَ ضَرْبِهِمْ *** بِبيضِ المَوَاضِي حَيْثُ لَيِّ العَمَائِمِ{[1139]}
وقد تزاد عليها " ما " فتجزم فعلين شرطاً وجزاءً ك " إن " ، ولا يجزم بها دون " ما " خلافاً لقوم ، وقد تُشْرَبُ معنى التعليل ، وزعم الأخفش أنها تكون ظرف زمان ، وأنشد : [ المديد ]
لِلْفَتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ *** حَيْثُ تَهْدِي سَاقَهُ قَدَمُهْ{[1140]}
ولا دليل فيه ، لأنها على بابها . والعامل فيها هنا " كُلاَ " أي : " كلا أي مكان شئتما " توسعه عليهما .
وأجاز " أبو البقاء " {[1141]} أن تكون بدلاً من " الجنة " قال : " لأنّ الجنة مفعول بها ، فيكون حيث مفعولاً به " وفيه نظر ؛ لأنها لا تتصرّف كما تقدّم إلا بالجر ب " من " .
و " شئتما " الجملة في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه . وهل الكسرة التي على الشين أصل كقولك : جئتما وخفتما ، أو محوّلة من فتحة لتدلّ على ذوات الياء نحو : يعتمد ؟
قولان مبنيان على وزن شاء ما هو ؟ فمذهب المبرد أنه : " فَعَل " بفتح العين ، ومذهب سيبويه " فَعِل " بكسرها ، ولا يخفى تصريفهما .
قوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } " لا " ناهية و " تَقْرَبَا " مجزوم بها حذفت نونه .
وقرئ{[1142]} : " تِقْرَبَا " بكسر حرف المُضَارعة ، و " الألف " فاعل ، وتقول : " قَرِبْتُ " الأمر " أَقْرَبُهُ " - بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع أي : التبست به .
وقال " الجَوْهَرِيّ " " قَرُبَ " - بالضم - " يَقْرُبُ " - " قُرْباً " أي دنا . و " قَرِبْتُه " - بالكسر - " قِرْبَاناً " دنوت منه .
وَقَرَبت - أَقْرُبُ - قِرَابَةً - مثل : كَتَبت - أَكْتُبُ - كِتَابَةً - إذا سِرْتَ إلى الماء وبينك وبينه ليلة .
وقيل : إذا قيل : لا تَقْرَب - بفتح الرَّاء كان معناه - لا تلتبس بالفِعْلِ ، وإذا قيل : لا تَقْرُب - بالضَّم - لا تَدْنُ منه .
و " هذه " مفعول به اسم إشارة للمؤنث ، وفيها لُغات : هَذِي وَهَذِهِ وهَذِهِ بكسر الهاء بإشباع [ ودونه ] " وَهَذِهْ " بسكونها و " ذِهْ " بكسر الذال فقط ، والهاء بدل من الياء لقربها منها في الخفاء .
قال " ابن عطية " ونقل أيضاً عن النَّحاس{[1143]} وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير " هذه " ، وفيه نظر ؛ لأن تلك الهاء التي تدلُّ على التأنيث ليست هذه ؛ لأن " تيك " بدل من تاء التأنيث في الوقف ، وأما هذه الهاء فلا دلالة لها على التأنيث ، بل الدَّال عليه مجموع الكلمة كما لا يقال : الياء في " هذي " للتأنيث ، وحكمها في القرب والبعد والتوسُّط ، ودخول هاء التنبيه وكاف الخطاب حكم " ذا " وقد تقدم .
ويقال فيها أيضاً : " تِيكَ " و " تِيلك " و " تَالِكَ " ؛ قال : [ الوافر ]
تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْدَ الغَيِّ رُشْدَاً *** وأَنَّ لِتَالِكَ العُمْرِ انْكِسَارَا{[1144]}
قال هشام : ويقال : " تَا فَعَلَتْ " ؛ وأنشد [ الطويل ]
خَلِيلَيَّ لَوْلاَ سَاكِنُ الدَّارِ لَمْ أقِمْ *** بِتَا الدَّارِ إِلاَّ عَابِرَ ابْنِ سَبِيلِ{[1145]}
وقيل : نعت لها لتأويلها بمشتقٍّ ، أي : بهذه الحاضرة من الشجر . والمشهور أنَّ اسم الإشارة إذا وقع بعده مشتقّ كان نعتاً له ، وإن كان جامداً كان بدلاً منه .
و " الشجرة " واحدة " الشجر " : اسم جنس ، وهو ما كان على ساقٍ ، وله أغصان ، وقيل : لا حاجة إلى ذلك لقوله تعالى : { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } مع أنها كالزرع والبِطِّيخ ، فلم يخرجه ذهابه على وجه الأرض من أن يكون شجراً .
قال المبرد : " وأحسب كلّ ما تفرعت له عِيْدَان وأغصان ، فالعرب تسميه شجراً في وقت تشعبه " .
وأصل هذا أنه كلما تشجر ، أي : أخذ يَمْنَةً ويسرة ، يقال : رأيت فلاناً قد شجرته الرّماح ، قال تعالى : { حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] وتَشَاجَرَ الرجُلاَنِ في أمر كذا .
وقرئ{[1146]} : " الشِّجِرَة " بكسر الشين والجيم ، وبإبدالها ياءً مع فتح الشِّين ، وكسرها ؛ لقربها منها مخرجاً ؛ كما أبدلت الجيم منها في قوله : [ الرجز ]
يَا رَبِّ إِنْ كُنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتجْ *** فَلاَ يَزَالُ شَاحجٌ يَأْتِيكَ بِجْ{[1147]}
خَالِي عُوَيْفٌ وَأَبُو عَلِجْ *** أَلمُطْعِمَانِ اللَّحْمَ بالعَشِجّ{[1148]}
يريد : أبو عَلِيّ ، وبالْعَشِيّ .
وقال الشاعر في " شيَرَة " : [ الطويل ]
إذَا لَمْ يَكُنْ فِيكُنَّ ظِلٌّ وَلاَ جَنًى *** فَأَبْعَدَكُنَّ اللهُ مِنْ شِيرَاتِ{[1149]}
وقال أبو عمرو : " إنما يقرأ بها برابر مكة وسودانها ، وجمعت " الشَّجَرَة " على " شَجْرَاء " ، ولم يأت جمع على هذه الزِّنَةِ إلا قَصَبة وقَصْبَاء ، وطَرَفَة وطَرْفَاء ، وحَلَفَة وحَلْفَاء .
وكان الأصمعي يقول : " حَلِفَة - بكسر اللام " وعند سيبويه أن هذه الألفاظ واحدة وجمع .
و " المشجرة " : موضع الأشجار ، وأرض مشجرة ، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجراً ، قاله الجوهري .
اختلف العلماء في هذه الشجرة المنهي عنها ، فروي عن بعض العلماء أنه نهى عن جنس من الشجر .
وقال آخرون : إنما نهى عن شَجَرٍ بعينه ، واختلفوا في تلك الشجرة .
روى السُّدي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وجَعْدَة بن هُبَيْرَةَ هي الكَرْمُ ، ولذلك حرمت علينا الخَمْرُ{[1150]} .
وقال ابن عباس أيضاً : وأبو مالك وقتادة ، ورواه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن النّبي صلى الله عليه وسلم هي السُّنبلة ، والحَبَّة منها كشكل البقر ، أحلى من العَسَلِ ، وألين من الزّبد ، قاله وهب بن منبّه{[1151]} .
ونقل ابن جريج عن بعض الصحابة أنها التين ، وهو مروي أيضاً عن مجاهد وقتادة{[1152]} ، ولذلك تعبر في الرُّؤيا بالندامة لآكلها ، ذكره السهيلي .
وروي عن قتادة أيضاً هي شجرة العلم ، وفيها من كل شيء .
فصل في الإشعار بأن سكنى آدم لا تدوم .
قال بعض أرباب المعاني في قوله : " ولا تقربا " إشعار بالوقوع في الخَطِيئَةِ ، والخروج من الجنة ، وأنَّ سُكْنَاهُ فيها لا يدوم ، لأن المخلد لا يخطر عليه شيء ، والدليل على هذا قوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] فدلّ على خروجه منها .
فصل في المراد بالنهي عن الأكل من الشجرة
هذا النهي{[1153]} نهي تحريم ، أو تنزيه ؟ فيه خلاف .
قال قوم : هذا نهي تَنْزيه ؛ لأن هذه الصِّيغة وردت في التنزيه والتحريم ، والأصل عدم الاشتراك فلا بُدّ من جعل اللفظ حقيقةً في القَدْرِ المشترك بين القسمين ، وما ذلك إلاَّ أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل ، من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل ، أو الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل ، فإن الأصل في المَنَافع الإباحة ، فإذا ضممنا مَدْلُولَ اللفظ إلى هذا الأصل صار المجموع دليلاً على التنزيه ، قالوا : وهذا هو الأولى بهذا المَقَام ؛ لأنّ على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم - عليه الصلاة والسَّلام - إلى ترك الأولى ، ومعلوم أن كل مذهب أفضى إلى عِصْمَةِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كان أولى .
وقال آخرون : بل هذا نهي تحريم ، واحتجوا عليه بأمور :
أحدها : أن قوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } كقوله : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } [ البقرة : 222 ] وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ } [ الإسراء : 34 ] فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول .
وثانيها : قوله : { فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ } أي : إن أكلتما منها ظلمتما أنفسكما ألا ترى لما أكلا { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] .
وثالثها : لو كان للتنزيه لما استحقّ آدم بفعله الإخراج من الجنة ، ولما وجبت التوبة عليه .
قال ابن الخطيب : الجواب عن الأول : أن النهي وإن كان في الأَصْلِ للتنزيه ، لكنه قد يحمل على التحريم بدليل منفصل .
وعن الثاني : أن قوله تعالى : { فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ } أي : فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه ؛ لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنّة التي لا تظمَآن فيها ، ولا تَضْحَيَان ولا تَجُوعان ولا تَقْرُبَان إلى موضع ليس فيه شيء من هذا .
وعن الثالث : أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنّة كان لهذا السبب .
قال قوم قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } يفيد بِفَحْوَاهُ النهي عن الأكل ؛ وفيه نظر لأن النهي عن القُربان لا يستلزم النهي عن الأَكْلِ ؛ إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع أنه لو حمل إليه لجاز له أكله ، بل الظاهر [ إنما ] يتناول النهي عن القرب .
وأما النهي عن الأكل ، فإنما عرف بدلائل أخرى وهي قوله تعالى :
{ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } [ الأعراف : 22 ] ولأنه حدث الكلام بالأكل فقال : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } فصار ذلك كالدّلاَلَةِ على أنه تعالى نَهَاهُمَا عن أكل ثمرة الشَّجرة ، لكن النهي بهذا القول يعم الأكل ، وسائر الانتفاعات ، ولو كان نصّ على الأكل ما كان يعمّ ذلك ، ففيه مزيد فائدة .
قوله : { فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ } فتكونا : فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مجزوماً عطفاً على " تَقْربا " ؛ كقوله : [ الطويل ]
فَقُلْتُ لَهُ : صَوِّبْ وَلاَ تَجْهَدَنَّهُ *** فَيُدْرِكُ مِنْ أَعْلَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ{[1154]}
والثَّاني : أنه منصوب على جواب النَّهْي لقوله تعالى : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ } [ طه : 81 ] والنصب بإضمار " أن " عند البَصْريين ، وبالفَاءِ نفسها عند الجرمي ، وبالخلاف عند الكوفيين . وهكذا كل ما يأتي مثل هذا .
و " الظَّالِمِينَ " خبر " كان " .
و " الظلم " : وضْع الشَّيْء في غَيْر موضعه ، ومنه قيل للأرض الَّتي لم تستحقَّ الحَفْر ، فتحفر : مَظْلُومة ، قال النابغة : [ البسيط ]
إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْياً مَا أُبَيِّنُهَا *** وَالنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بَالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ{[1155]}
وقيل : سميت مظلومةً ؛ لأنَّ المَطَر لم يأتها ، قال عَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ : [ الكامل ]
ظَلَمَ البِطَاحَ بِهَا انْهِلاَلُ حَرِيصَةٍ *** فَصَفَا النِّطَافُ بِهَا بُعَيْدَ المُقْلَعِ{[1156]}
وقالوا : " مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ " ؛ قال : [ الرجز ]
بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيُّ في الكَرَمْ *** وَمَنْ يُشَابِهُ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ{[1157]}
والمراد من الآية هو أنكما إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما ؛ لأن الأكل من الشجرة لا يقتضي ظُلْمَ الغير ، وقد يكون ظالماً بأن يظلم نفسه ، وبأن يظلم غيره ، فظلم النفس أعم وأعظم . والظلم على وجوه :
الأول : ظلم الظَّالم لنفسه بالمعصية كهذه الآية أي : فتكونا من العاصين .
الثاني : الظَّالمون المشركون ، قال تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ هود : 18 ] يعني : المشركين .
الثالث : الظلم : الضرر ، قال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] ، أي : ما ضررناهم ، ولكن كانوا أنفسهم يضرون .
الرابع : الظلم : الجحود ، قال تعالى : { وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }
[ الأعراف : 51 ] ومثله : " فَظَلَمُوا بِهَا " أي : فجحدوا بها .