فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَقُلۡنَا يَـٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (35)

{ اسكن } أي : اتخذ الجنة مسكناً وهو محل السكون . وأما ما قاله بعض المفسرين من أن في قوله : { اسكن } تنبيهاً على الخروج لأن السكنى لا تكون ملكاً ، وأخذ ذلك من قول جماعة من العلماء أن من أسكن رجلاً منزلاً له ، فإنه لا يملكه بذلك ، وإن له أن يخرجه منه ، فهو : معنى عرفي ، والواجب الأخذ بالمعنى العربي إذا لم تثبت في اللفظ حقيقة شرعية . و { أَنتَ } تأكيد للضمير المستكن في الفعل ، ليصح العطف عليه ، كما تقرّر في علم النحو ، أنه لا يجوز العطف على الضمير المرفوع المستكنّ إلا بعد تأكيده بمنفصل . وقد يجيء العطف نادراً بغير تأكيد كقول الشاعر :

قلتُ إذَا أقْبَلتْ وزُهْرُ تَهَادى *** كَنِعاج المَلا تَعسَّفْنَ رَمْلا

وقوله ؛ { وَزَوْجُكَ } أي : حوّاء ، وهذه هي اللغة الفصيحة زوج بغير هاء ، وقد جاء بها قليلاً كما في صحيح مسلم من حديث أنس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه ، فمرّ به رجل ، فدعاه وقال : يا فلان هذه زوجتي فلانة " الحديث ، ومنه قول الشاعر :

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي *** كساع إلى أسد الشرى يستميلها

و { رَغَدًا } بفتح المعجمة ، وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها ، والرغد : العيش الهنيء الذي لا عناء فيه ، وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف . و { حَيْثُ } مبنية على الضم ، وفيها لغات كثيرة مذكورة في كتب العربية . والقرب : الدنّو . قال في الصحاح : قرب الشيء بالضم يَقْرُب قُرْباً أي دنا ، وقَرِبته بالكسر أقربه قرباناً أي : دنوت منه ، وقَرَبْتُ أقْرب قرابَةً مثل كتبت أكتب كتابة : إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة . والاسم القرب قال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما القرب ؟ قال : سير الليل لورود الغد .

والنهي عن القرب فيه سدّ للذريعة ، وقطع للوسيلة ، ولهذا جاء به عوضاً عن الأكل ، ولا يخفى أن النهي عن القرب لا يستلزم النهي عن الأكل ، لأنه قد يأكل من ثمر الشجرة من هو بعيد عنها إذا يحمل إليه ، فالأولى أن يقال : المنع من الأكل مستفاد من المقام . والشجر : ما كان له ساق من نبات الأرض ، وواحده شجرة وقرىء بكسر الشين وبالياء المثناة من تحت مكان الجيم . وقرأ ابن محيصن : «هذي » بالياء بدل الهاء وهو الأصل . واختلف أهل العلم في تفسير هذه الشجرة ، فقيل : هي الكرم . وقيل : السنبلة ، وقيل التين ، وقيل الحنطة ، وسيأتي ما روى عن الصحابة فمن بعدهم في تعيينها .

وقوله : { فَتَكُونَا } معطوف على { تَقْرَبَا } في الكشاف ، أو نصب في جواب النهي ، وهو الأظهر . والظلم أصله : وضع الشيء في غير موضعه ، والأرض المظلومة : التي لم تحفر قط ، ثم حفرت ، ورجل ظليم : شديد الظلم . والمراد هنا { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } لأنفسهم بالمعصية ، وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء واختلاف مذاهبهم في ذلك مدوّن في مواطنه ، وقد أطال البحث في ذلك الرازي في تفسيره في هذا الموضع ، فليرجع إليه فإنه مفيد .

/خ39