فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَقُلۡنَا يَـٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (35)

{ وقلنا } هو من خطاب الأكابر والعظماء أخبر سبحانه عن نفسه بصيغة الجمع لأنه ملك الملوك { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } أي اتخذ الجنة مأوى ومنزلا ومسكنا وهو محل السكون ، وأما ما قاله بعض المفسرين أن قوله { أسكن } تنبيه على الخروج لأن السكنى لا يكون ملكا ، وأخذ ذلك من قول جماعة من العلماء أن من أسكن رجلا منزلا له فإنه لا يملكه بذلك وإن له أن يخرجه منه ، فهو معنى عرفي ، والواجب الأخذ بالمعنى العربي إذا لم يثبت في اللفظ حقيقة شرعية .

والزوج هي حواء بالمد وهي في اللغة الفصيحة بغير هاء وقد جاء بها قليلا كما في صحيح مسلم قال يا فلان { هذه زوجتي فلانة } الحديث ، وكان خلق حواء من ضلعه الأيسر فلذا كان كل إنسان ناقصا ضلعا من الجانب الأيسر ، فجهة اليمين أضلاعها ثمانية عشر ، وجهة اليسار أضلاعها سبعة عشر ، وقصة خلقها مبسوطة في كتب السنة لا نطول بذكرها هنا فيه دلالة عن أن الجنة مخلوقة الآن .

واختلفوا في الجنة التي أمر آدم بسكناها فقيل إنها جنة كانت في الأرض ، وقيل هي دار الجزاء والثواب ، لأنها معهودة ، وقيل هي جنة أرض فلسطين أو بين فارس وكرمان ، خلقها الله امتحانا لآدم ، وحمل الإهباط على النقل منها إلى أرض الهند كما في قوله تعالى { اهبطوا مصر } لما أن خلق آدم كان في الأرض بلا خلاف ولم يذكر في هذه القصة رفعه إلى السماء ولو وقع ذلك لكان أولى بالذكر والتذكير ، لما أنه من أعظم النعم ، ولأنها لو كانت دار الخلد لما دخلها إبليس وقيل أنها كانت في السماء السابعة بدليل { اهبطوا } ثم أن الإهباط الأول كان منها إلى السماء الدنيا ، والثاني منها إلى الأرض ، وقيل الكل ممكن والأدلة النقلية متعارضة فوجب التوقف وترك القطع قاله أبو السعود .

قلت وقد استوعب الحافظ ابن القيم في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأقراح دلائل الفريقين من غير تصريح برجحان أحد القولين والله تعالى أعلم .

{ وكلا منها } أي اجمعا بين الإستقرار والأكل من رزق الجنة { رغدا } رغد العيش اتسع ولان أي رزقا واسعا لينا ، وأرغد القوم أخصبوا الرغيدة الزبد { حيث شئتما } أي في أي مكان من الجنة شئتما ، وسع الأمر عليهما إزاحة للعلة والعذر في التناول من الشجرة المنهى عنها من بين أشجارها التي لا تنحصر { ولا تقربا هذه الشجرة } يعني للأكل ، والقرب الدنو .

قال الأصمعي : والنهي عن القرب فيه سد للذريعة وقطع للوسيلة ولهذا جاء به عوضا عن الأكل ، ولا يخفى أن النهي عن القرب لا يستلزم النهي عن الأكل لأنه قد يأكل من ثمرة الشجرة من هو بعيد عنها إذا حمل إليه ، فالأولى أن يقال المنع من الأكل مستفاد من المقام ، والشجر ما كان له ساق من نبات الأرض وواحده شجرة .

واختلف أهل العلم في تعيين هذه الشجرة فقيل هي الكرم وقيل هي السنبلة قاله ابن عباس ، وله عنه طريق صحيحة ، وقيل التين ، وقيل الحنطة ، وقيل اللوز ، وقيل النخلة ، وقيل هي شجرة القلم ، وقيل الكافور ، وقيل الأترج ، وقيل شبه البر وتسمى الدعة ، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة فمن بعدهم ، وقيل عن جنس من الشجرة ، وقيل ليس في ظاهر الكلام ما يدل على التبيين إذ لا حاجة إليه لأنه ليس المقصود تعرف عين تلك الشجرة وما لا يكون مقصودا لا يجب بيانه .

{ فتكونا من الظالمين } يعني إن أكلتما من هذه الشجرة ظلمتما أنفسكما فمن جوز ارتكاب الذنوب على الأنبياء قال ظلم نفسه بالمعصية ، والظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه ، ومن لم يجوز ذلك على الأنبياء حمل الظلم على أنه فعل ما كان الأولى أن لا يفعله ، وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء واختلاف مذاهبهم في ذلك مدون في مواطنه ، وقد أطال البحث في ذلك الرازي في تفسيره في هذا الموضع فليرجع إليه فإنه مفيد .