غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَقُلۡنَا يَـٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (35)

34

قوله تعالى { وقلنا يا آدم اسكن } الآية الأصح أن هذا الأمر يشتمل على ما هو إباحة لأنه كان مأذوناً في الانتفاع بجميع الجنة ، وعلى ما هو تكليف وتعبد ، فإن المنهي عنه كان حاضراً . روي عن قتادة أنه قال : إن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود ، وذلك لأنه كلفه أن يكون في الجنة يأكل منها حيث يشاء ، ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها ، فما زال به البلاء حتى وقع فيما نهي عنه . فإسكانه موضعاً يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع منعه عن تناوله من أشد التكاليف . وإنما لم يقل وهبت منك الجنة لأنه خلق لخلافة الأرض وكان إسكان الجنة كالتقدمة لذلك . فلو قال رجل لغيره أسكنتك داري . لا تصير الدار ملكاً له . وأجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة . ففي سائر القرآن ما يدل على ذلك وإنها مخلوقة منه { خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] وقال صلى الله عليه وسلم " إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها " وذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة حل فيها وحده وما كان معه من يستأنس به ، فألقى الله تعالى عليه النوم ، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحماً وخلق حواء منه ، فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة . فسألها من أنت ؟ قالت امرأة . قال : ولم خلقت ؟ قالت : لتسكن إليّ . فقالت له الملائكة امتحاناً لعلمه : ما اسمها ؟ فقال : حواء . قالوا : ولم ؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي . قيل : فلما أراد آدم مد يده إليها منعته الملائكة وقالوا : أمهرها . قال : فما صداقها ؟ قالوا : أن تصلي على محمد وآله . قال : ومن محمد ؟ قالوا : من أولادك خاتم النبيين ولولاه لما خلقت . وعن ابن عباس قال : بعث الله جنداً من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما يحمل الملوك ولباسهما النور ، على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ ، وعلى آدم منطقة مكللة بالدرّ والياقوت حتى أدخل الجنة . فهذا الخبر يدل على أن حواء خلقت قبل إدخاله الجنة ، والخبر الأول دل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بحقيقة الحال . ثم هذه الجنة كانت في الأرض أو في السماء ؟ وعلى تقدير كونها في السماء هي دار الثواب أم جنة أخرى ؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني : هي في الأرض وحملا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى { اهبطوا مصراً } [ البقرة : 61 ] قالا : لأن دار الثواب للخلد ولو كان في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } [ طه : 12 ] ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى

{ وما هم منها بمخرجين } [ الحجر : 48 ] ولأن إبليس بعد أن غضب الله عليه كيف يقدر أن يصل إلى جنة الخلد ، ولأن دار الجزاء يدخل المكلف فيها بعد العمل ولا عمل لآدم وقتئذ ، ولأنه تعالى خلقه في الأرض ولم يذكر نقله إلى السماء ولو كان قد نقله لكان ذكره أولى ، لأن ذلك النقل من أعظم النعم . وقال الجبائي : هي في السماء السابعة ، اهبط منها إلى السماء الدنيا ، ثم منها إلى الأرض . وقال الجمهور : هي دار الثواب والدليل عليه أن اللام في الجنة ليست للعموم ، لأن السكنى في جميع الجنان محال فهي للعهد ، ولا معهود بين المسلمين إلا دار الثواب ، فوجب صرف اللفظ إليها . واسكن أمر من السكنى ، والسكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار . و{ أنت } تأكيد للمستكنّ في { اسكن } ليصح العطف عليه . و{ رغداً } وصف للمصدر أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً و{ حيث } للمكان المبهم أي أيُّ مكان من الجنة شئتما ، أو أيّ زمان شئتما ، فإن { حيث } قد يعبر به عن زمان مجهول . وإنما قيل ههنا { وكلا } بالواو وفي الأعراف { فكلا } لأن كلّ فعل عطف عليه شيء وكان بينهما رابطة السببية يعطف الثاني على الأول بالفاء وإلا فبالواو كقوله تعالى في البقرة

{ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا } [ البقرة : 58 ] بالفاء ، لأن الدخول سبب الوصول إلى الأكل ، وكأنه قال : وإن دخلتموها أكلتم . وفي الأعراف { وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا } [ الأعراف : 161 ] بالواو لأن السكنى وهي طول اللبث لا يختص وجوده بوجود الأكل ، لأن المجتاز قد يأكل أيضاً ، فلهذا لم يعطف ههنا بالفاء إذ المراد اسكن من السكنى ، وأما في الأعراف فالمراد اسكن بمعنى الدخول ثم السكون فصح العطف بالفاء .

والنهي في { لا تقربا } للتنزيه أو للتحريم ، الأصح الأول لأن الصيغة وردت في كليهما والأصل عدم الاشتراك فيجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح لجانب الترك على الفعل من غير دلالة على المنع من الفعل ، أو الجواز . لكن الجواز ثابت بحكم الأصل ، فإن الأصل في الأشياء الإباحة ، فإذا ضممنا هذا الأصل إلى مدلول اللفظ صار المجموع دليلاً على التنزيه وهذا أولى ، ليرجع حاصل معصيته إلى ترك الأولى فيكون أقرب إلى عصمة الأنبياء . وقيل : نهي تحريم قياساً على قوله

{ ولا تقربوهن حتى يطهرن } [ البقرة : 222 ] وقوله { ولا تقربوا مال اليتيم } [ الأنعام : 152 ] ولقوله { فتكونا من الظالمين } ولأنه استحق الإخراج من الجنة والرجوع إلى التوبة . والجواب أن التحريم في { ولا تقربوهن } [ البقرة : 2 ] بدليل منفصل ، والظلم قد يراد به ترك الأولى ، والإخراج لم يكن بهذا السبب بل لما سيأتي إن شاء الله تعالى . ثم النهي عن القرب يفيد النهي عن الإكل بطريق الكناية ، فإن القرب إليها من أسباب الأكل منها ، ومما يدل على النهي عن الأكل صريحاً قوله { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } [ الأعراف : 22 ] . وروي عن ابن عباس أن الشجرة هي البر والسنبلة ، وفي رواية عنه وعن ابن مسعود أنها الكرم ، وعن مجاهد وقتادة أنها التين ، وعن الربيع بن أنس كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث . قال المبرد : وأحسب أن كل ما له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجراً ، وقد لا يختص بما له ساق قال تعالى { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } [ الصافات : 146 ] وأصل هذا أنه اسم لكل ما شجر أي أخذ يمنة ويسرة والتشاجر الاختلاف . واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين ، ولا حاجة أيضاً إلى بيانه . فليس المقصود تعريف الشجرة ، وما لم يكن مقصوداً فذكره لا يجب على الحكيم بل يكون عبثاً ، كما لو أراد أحدنا أن يقيم عذره في التخلف فقال : اشتغلت بضرب غلماني لإساءتهم الأدب . كان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين الغلام واسمه وصفاته ، فلا يظنن أحد أن ههنا تقصيراً في البيان . { فتكونا } جزم عطفاً على { تقربا } ونصب جواباً للنهي . { من الظالمين } من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله .

/خ39