قوله تعالى { وقلنا يا آدم اسكن } الآية الأصح أن هذا الأمر يشتمل على ما هو إباحة لأنه كان مأذوناً في الانتفاع بجميع الجنة ، وعلى ما هو تكليف وتعبد ، فإن المنهي عنه كان حاضراً . روي عن قتادة أنه قال : إن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود ، وذلك لأنه كلفه أن يكون في الجنة يأكل منها حيث يشاء ، ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها ، فما زال به البلاء حتى وقع فيما نهي عنه . فإسكانه موضعاً يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع منعه عن تناوله من أشد التكاليف . وإنما لم يقل وهبت منك الجنة لأنه خلق لخلافة الأرض وكان إسكان الجنة كالتقدمة لذلك . فلو قال رجل لغيره أسكنتك داري . لا تصير الدار ملكاً له . وأجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة . ففي سائر القرآن ما يدل على ذلك وإنها مخلوقة منه { خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] وقال صلى الله عليه وسلم " إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها " وذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة حل فيها وحده وما كان معه من يستأنس به ، فألقى الله تعالى عليه النوم ، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحماً وخلق حواء منه ، فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة . فسألها من أنت ؟ قالت امرأة . قال : ولم خلقت ؟ قالت : لتسكن إليّ . فقالت له الملائكة امتحاناً لعلمه : ما اسمها ؟ فقال : حواء . قالوا : ولم ؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي . قيل : فلما أراد آدم مد يده إليها منعته الملائكة وقالوا : أمهرها . قال : فما صداقها ؟ قالوا : أن تصلي على محمد وآله . قال : ومن محمد ؟ قالوا : من أولادك خاتم النبيين ولولاه لما خلقت . وعن ابن عباس قال : بعث الله جنداً من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما يحمل الملوك ولباسهما النور ، على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ ، وعلى آدم منطقة مكللة بالدرّ والياقوت حتى أدخل الجنة . فهذا الخبر يدل على أن حواء خلقت قبل إدخاله الجنة ، والخبر الأول دل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بحقيقة الحال . ثم هذه الجنة كانت في الأرض أو في السماء ؟ وعلى تقدير كونها في السماء هي دار الثواب أم جنة أخرى ؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني : هي في الأرض وحملا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى { اهبطوا مصراً } [ البقرة : 61 ] قالا : لأن دار الثواب للخلد ولو كان في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } [ طه : 12 ] ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى
{ وما هم منها بمخرجين } [ الحجر : 48 ] ولأن إبليس بعد أن غضب الله عليه كيف يقدر أن يصل إلى جنة الخلد ، ولأن دار الجزاء يدخل المكلف فيها بعد العمل ولا عمل لآدم وقتئذ ، ولأنه تعالى خلقه في الأرض ولم يذكر نقله إلى السماء ولو كان قد نقله لكان ذكره أولى ، لأن ذلك النقل من أعظم النعم . وقال الجبائي : هي في السماء السابعة ، اهبط منها إلى السماء الدنيا ، ثم منها إلى الأرض . وقال الجمهور : هي دار الثواب والدليل عليه أن اللام في الجنة ليست للعموم ، لأن السكنى في جميع الجنان محال فهي للعهد ، ولا معهود بين المسلمين إلا دار الثواب ، فوجب صرف اللفظ إليها . واسكن أمر من السكنى ، والسكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار . و{ أنت } تأكيد للمستكنّ في { اسكن } ليصح العطف عليه . و{ رغداً } وصف للمصدر أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً و{ حيث } للمكان المبهم أي أيُّ مكان من الجنة شئتما ، أو أيّ زمان شئتما ، فإن { حيث } قد يعبر به عن زمان مجهول . وإنما قيل ههنا { وكلا } بالواو وفي الأعراف { فكلا } لأن كلّ فعل عطف عليه شيء وكان بينهما رابطة السببية يعطف الثاني على الأول بالفاء وإلا فبالواو كقوله تعالى في البقرة
{ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا } [ البقرة : 58 ] بالفاء ، لأن الدخول سبب الوصول إلى الأكل ، وكأنه قال : وإن دخلتموها أكلتم . وفي الأعراف { وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا } [ الأعراف : 161 ] بالواو لأن السكنى وهي طول اللبث لا يختص وجوده بوجود الأكل ، لأن المجتاز قد يأكل أيضاً ، فلهذا لم يعطف ههنا بالفاء إذ المراد اسكن من السكنى ، وأما في الأعراف فالمراد اسكن بمعنى الدخول ثم السكون فصح العطف بالفاء .
والنهي في { لا تقربا } للتنزيه أو للتحريم ، الأصح الأول لأن الصيغة وردت في كليهما والأصل عدم الاشتراك فيجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح لجانب الترك على الفعل من غير دلالة على المنع من الفعل ، أو الجواز . لكن الجواز ثابت بحكم الأصل ، فإن الأصل في الأشياء الإباحة ، فإذا ضممنا هذا الأصل إلى مدلول اللفظ صار المجموع دليلاً على التنزيه وهذا أولى ، ليرجع حاصل معصيته إلى ترك الأولى فيكون أقرب إلى عصمة الأنبياء . وقيل : نهي تحريم قياساً على قوله
{ ولا تقربوهن حتى يطهرن } [ البقرة : 222 ] وقوله { ولا تقربوا مال اليتيم } [ الأنعام : 152 ] ولقوله { فتكونا من الظالمين } ولأنه استحق الإخراج من الجنة والرجوع إلى التوبة . والجواب أن التحريم في { ولا تقربوهن } [ البقرة : 2 ] بدليل منفصل ، والظلم قد يراد به ترك الأولى ، والإخراج لم يكن بهذا السبب بل لما سيأتي إن شاء الله تعالى . ثم النهي عن القرب يفيد النهي عن الإكل بطريق الكناية ، فإن القرب إليها من أسباب الأكل منها ، ومما يدل على النهي عن الأكل صريحاً قوله { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما } [ الأعراف : 22 ] . وروي عن ابن عباس أن الشجرة هي البر والسنبلة ، وفي رواية عنه وعن ابن مسعود أنها الكرم ، وعن مجاهد وقتادة أنها التين ، وعن الربيع بن أنس كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث . قال المبرد : وأحسب أن كل ما له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجراً ، وقد لا يختص بما له ساق قال تعالى { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } [ الصافات : 146 ] وأصل هذا أنه اسم لكل ما شجر أي أخذ يمنة ويسرة والتشاجر الاختلاف . واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين ، ولا حاجة أيضاً إلى بيانه . فليس المقصود تعريف الشجرة ، وما لم يكن مقصوداً فذكره لا يجب على الحكيم بل يكون عبثاً ، كما لو أراد أحدنا أن يقيم عذره في التخلف فقال : اشتغلت بضرب غلماني لإساءتهم الأدب . كان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين الغلام واسمه وصفاته ، فلا يظنن أحد أن ههنا تقصيراً في البيان . { فتكونا } جزم عطفاً على { تقربا } ونصب جواباً للنهي . { من الظالمين } من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.