275- الذين يتعاملون بالربا لا يكونون في سعيهم وتصرفهم وسائر أحوالهم إلا في اضطراب وخلل ، كالذي أفسد الشيطان عقله فصار يتعثر من الجنون الذي أصابه ، لأنهم يزعمون أن البيع مثل الربا في أن كلا منهما فيه معاوضة وكسب . فيجب أن يكون كلاهما حلالا ، وقد رد الله عليهم زعمهم فبين لهم أن التحليل والتحريم ليس من شأنهم ، وأن التماثل الذي زعموه ليس صادقاً ، والله قد أحل البيع وحرم الربا ، فمن جاءه أمر ربه بتحريم الربا واهتدى به ، فله ما أخذه من الربا قبل تحريمه ، وأمره موكول إلى عفو الله . ومن عاد إلى التعامل بالربا باستحلاله بعد تحريمه ، فأولئك يلازمون النار خالدين فيها{[28]} .
قوله تعالى : { الذين يأكلون الربا } . أي يعاملون به ، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال .
قوله تعالى : { لا يقومون } . يعني يوم القيامة من قبورهم .
قوله تعالى : { إلا كما يقوم الذي يتخبطه } . أي يصرعه .
قوله تعالى : { الشيطان } . أصل الخبط الضرب والوطء ، وهو ضرب على غير استواء يقال : ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائمها .
قوله تعالى : { من المس } . أي الجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنوناً ، ومعناه : أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المصروع .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف ، أخبرنا عبد الله ابن يحيى ، أخبرنا يعقوب بن سفيان ، أخبرنا إسماعيل بن سالم ، أخبرنا عباد بن عباد ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال : " فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير ، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون ، وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً ، قال : فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر ، لا يسمعون ولا يعقلون ، فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا ، فتميل بهم بطونهم فيصرعون ، ثم يقوم أحدهم فيميل أحدهم فيميل به بطنه فيصرع ، فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين ، فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة قال : وآل فرعون يقولون : اللهم لا تقم الساعة أبداً ، قال ويوم القيامة يقال : ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) قلت : يا جبريل من هم هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " .
قوله تعالى : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } . أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا ، واستحلالهم إياه ، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقوم به فيقول الغريم لصاحب الحق : زدني في الأجل حتى أزيدك في المال ؟ فيفعلان ذلك ، ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح ، أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى .
قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } . واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى( وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس ) أي ليكثر . ( فلا يربو عند الله ) فطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة ، إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة ، في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا عبد الوهاب ، عن أيوب بن أبي تميمة ، عن محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ورجل آخر ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، ولا البر بالبر ، ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء ، عيناً بعين ، يداً بيد ، ولكن بيعوا الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، والتمر بالملح ، والملح بالتمر يداً بيد ، كيف شئتم ، ونقص أحدهم الملح أو التمر وزاد أحدهما : ومن زاد أو استزاد فقد أربى " . وروي هذا الحديث من طرق محمد بن سيرين ، عن مسلم بن يسار ، و عبد الله بن عتيك عن عبادة .
فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء ، وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف ، ثم اختلفوا في تلك الأوصاف ، فذهب قوم : إلى أن المعنى في جميعها واحد ، وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال ، وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف ، وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر ، واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم : ثبت في الدراهم والدنانير بوصف ، النقدية ، وهو قول مالك والشافعي ، وقال قوم : ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي ، وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها . وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل ، وهو قول أصحاب الرأي ، وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوماً كان أو غير مطعوم ، كالجص والنورة ونحوها ، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن ، فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا ، ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وقاله الشافعي رحمه الله في القديم ، وقال في الجديد : يثبت فيها الربا بوصف الطعم ، وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة أو موزونة ، لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الطعام بالطعام مثلاً بمثل " . فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمناً أو مطعوماً .
والربا نوعان : ربا الفضل ، وربا النساء ، فإذا باع مال الربا بجنسه مثلاً بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوماً بجنسه كالحنطة بالحنطة ، ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع ، فإن كان موزوناً كالدراهم والدنانير ، فيشترط المساواة في الوزن ، وإن كان مكيلاً كالحنطة والشعير ، بيع بجنسه ، فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد ، وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر : إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل أن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه ، كما لو باعه بما يوافقه في الوصف ، مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوماً بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلاً أو جزافاً ، ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلى أن قال إلا سواء بسواء " فيه إيجاب المماثلة ، وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس ، وقوله عيناً بعين فيه تحريم النساء ، وقوله يداً بيد كيف شئتم فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس ، هذا في ربا المبايعة . ومن أقرض شيئاً بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة ، وكل قرض جر منفعة فهو ربا .
قوله تعالى : { فمن جاءه موعظة من ربه } . تذكير وتخويف ، وإنما ذكر الفعل رداً إلى الوعظ .
قوله تعالى : { فانتهى } . عن أكل الربا .
قوله تعالى : { فله ما سلف } . أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له .
قوله تعالى : { وأمره إلى الله } . بعد النهي إن شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء ، وإن شاء خذله حتى يعود ، وقيل : أمره إلى الله فيما يأمره وينهاه ويحل له وحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء .
قوله تعالى : { ومن عاد } . بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلاً له .
قوله تعالى : { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر ، أخبرنا شعبة عن عوف بن أبي جحيفة ، عن أبيه أنه قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم ، وثمن الكلب وكسب البغي ، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا زهير بن حرب ، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه ، وقال : هم سواء " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا أبو محمد المخلدي ، أنا أبو حامد بن الشرقي ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا النضر بن محمد ، أخبرنا عكرمة بن عمار ، أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال : حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الربا سبعون باباً ، أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه } .
{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم ، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أي : يصرعه الشيطان بالجنون ، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين ، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال ، فكما تقلبت عقولهم و { قالوا إنما البيع مثل الربا } وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله ، أو متجاهل عظيم عناده ، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين ، ويحتمل أن يكون قوله : { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم ، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم ، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة { وأحل الله البيع } أي : لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه ، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع { وحرم الربا } لما فيه من الظلم وسوء العاقبة ، والربا نوعان : ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة ، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال ، سلم ، وربا فضل ، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا ، وكلاهما محرم بالكتاب والسنة ، والإجماع على ربا النسيئة ، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة ، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها { فمن جاءه موعظة من ربه } أي : وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ ، وإقامة للحجة عليه { فانتهى } عن فعله وانزجر عن تعاطيه { فله ما سلف } أي : ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة ، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر { وأمره إلى الله } في مجازاته وفيما يستقبل من أموره { ومن عاد } إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة ، بل أصر على ذلك { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله ، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك ، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه ، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار ، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره .
ولقد نفر القرآن الناس من تعاطي الربا تنفيراً شديداً وحذرهم من سوء عاقبته تحذيراً مؤكداً فقال - تعالى - :
{ الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ . . . }
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 275 ) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ( 276 ) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 277 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 278 ) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ( 279 ) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 ) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( 281 )
قوله - تعالى - : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس . . . } استئناف قصد به الترهيب من تعاطي الربا ، بعد الترغيب في بذل الصدقة لمستحقيها .
ولم يعطف على ما قبله لما بينهما من تضاد ، لأن الصدقة - كما يقول الفخر الرازي - عبارة عن تنقيص المال - في الظاهر - بسبب أمرالله بذلك ، والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهى الله عنه فكانا متضادين .
والأكل في الحقيقة : ابتلاع الطعام ، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص وهو المراد هنا . وعبر عن التعامل بالربا بالأكل ، لأن معظم مكاسب الناس تنفق في الأكل .
والربا في اللغة : الزيادة مطلقاً ، يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ونما ، ومنه قوله - تعالى - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ . . . } أي : زادت .
وهو في الشرع : - كما قال الآلوسي - عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال .
وقوله : { يَتَخَبَّطُهُ } : من التخبط بمعنى الخبط وهو الضرب على غير استواء واتساق . يقال : خبطته أخبطه أي ضربته ضرباً متوالبياً على أنحاء مختلفة . ويقالِ : تخبط البعير الأرض إذا ضربها بقوائمه ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه يخبط خبط عشواء . قال زهير بن أبي سلمى في معلقته :
رأيت المناي خبط عشواء من تصب . . . تمته ومن تخطى يعمر فيهرم
والمس : الخبل والجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا أصابه الجنون . وأصل المس اللمس باليد ، ثم استعير للجنون ، لأن الشيطان يمس الإِنسان فيجنه .
والمعنى : { الذين يَأْكُلُونَ } أي يتعاملون به أخذا وإعطاء { لاَ يَقُومُونَ } يوم القيامة للقاء الله إلا قياماً كقيام المتخبط المصروع المجنون حال صرعه وجنونه ، وتخبط الشيطان له ، وذلك لأنه قياماً منكراً مفزعا بسبب أخذه الربا الذي حرم الله أخذه .
فالآية الكريمة تصور المرابي بتلك الصورة المرعبة المفزعة ، التي تحمل كل عاقل على الابتعاد عن كل معاملة يشم منها رائحة الربا .
أما الأمر الأول : فهو أن جمهو المفسرين يرون أن هذا القيام المفزع للمرابين يكون يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم كما أشرنا إلى ذلك .
قال الآلوسي : وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار ، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والذنوب التي لا تغفر . الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة ، وأكل الربا فمن أكل الربا فبعثيوم القيامة مجنوناً يتخبط " ثم قرأ الآية ، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه ، ولعل الله - تعالى - جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له .
. . ثم قال . وقال ابن عطية : المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة : قد جن ، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة ولما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات " .
والذي نراه أنه لا مانع من أن تكون الآية تصور حال المرابين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا في قلق مستمر ، وانزعاج دائم ، واضطراب ظاهر بسبب جشعهم وشرهم في جمع المال ، ووساوسهم التي لا تكاد تفارقهم وهم يفكرون في مصير أموالهم . . . ومن يتتبع أحوال بعض المتعاملين بالربا يراهم أشبه بالمجانين في أقوالهم وحركاتهم . أما في الآخرة فقد توعدهم الله - تعالى - بالعقاب الشديد ، والعذاب الأليم .
وقد رجح الإِمام الرازي أن الآية الكريمة تصور حال المرابي في الدنيا والآخرة فقال ما ملخصه : " إن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله ، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً . . . وآكل الربا بلا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكا فيها ، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك حجاباً بينه وبين الله - تعالى - ، فالخبط الذي كان حاصلا له في الدينا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب ، وهذا التأويل أقرب عندي من غيره " .
وأما الأمر الثاني : فهو أن جمهور المفسرين يرون أيضاً أن التشبيه في الآية الكريمة على الحقيقة ، بمعنى أن الآية تشبه حال بحال المجنون الذي مسه الشيطان ، لأن الشسيطان قد يمس الإنسان فيصيبه بالصرع والجنون .
ولكن الزمخشري ومن تابعه ينكرون ذلك ، ويرون أن كون الصرع أو الجنون من الشيطان باطل لأنه لا يقدر على ذلك ، فقد قال الزمخشري في تفسيره : " وتخبط الشيطان من زعمات العرب ، يزعمون أن الشيطان يخبط الإِنسان فيصرع . المس والجنون ، ورجل ممسوس - أي مجنون - وهذا أيضاً من زعماتهم ، وأن الجني يممسه فيختلط عقله ، وكذلك جن الرجل معناه ضربته الجن ، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات " .
ومن العلماء الذين تصدون للرد على الزمخشري ومن تابعه الإِمام القرطبي فقد قال : " وفي هذه الآية دليل على فساد إنكار من إنكر الصرع من جهة الجن وزعم أنه من فعل الطبائع ، وأن الشيطان لا يسلك في الإِنسان ولا يكون منه مس . وقد روى النسائي عن أبي اليسر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من التردي والغرق والهدم والحريق ، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت ، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك أن أموت لديغاً " .
وقال الشيخ أحمد بن المنير : ومعنى قول الزمخشري أن تخبط الشيطان من زعمات العرب ، أي من كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها ، كما يقال في الغول والعنقاء ونحو ذلك . وهذا القول من تخبط - الشيسطان بالقدرية - أي المعتزلة - في زعماتهم المردودة بقواطع الشرع ، ثم قال : واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشارع عنها ، والقدرية ينكرون كثيراً مما يزعمونه مخالفاً لقواعدهم . . من ذلك السحر ، وخبطة الشيطان ، وينبئ عنه ظاهر الشرع في خيط طويل لهم ، والذي نراه أن ما عليه جمهور العلماء من أن التشبيه على الحقيقة هو الحق ، لأن الشيطان قد يمس الإِنسان فيصيبه بالجنون ، ولأنه لا يسوغ لنا أن نؤول القرآن بغير ظاهره بسبب اتجاه دليل عليه .
وقوله : { مِنَ المس } متعلق بيقومون أي لا يقومون من المس الذي حل بهم بسبب أكلهم الربا إلا كما المصروع من جنونه .
وقوله - تعالى - : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } بيان لزعمهم الباطل الذي سوغ لهم التعامل بالربا ، ورد عليه بما يهدمه .
واسم الإِشارة " ذلك " سيعود إلى الأكل أو إلى العقاب الذي نزل بهم . والمعنى : ذلك الأكل الذي استحلوه عن طريق الربا ، أو ذلك العذاب الذي حل بهم والذي من مظاهره قيامهم المتخبط ، سببه قولهم إن البيع الذي أحله الله يشابه الريا الذي نتعامل به في أن كلا منهما معاوضة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " هلا قيل إنما الربا لا في البيع ، فوجب أن يقال إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه وكانت شبهتهم أنهم قالوا : لو اشتري الرجل الشيء الذي لا يساوي إلا درهما بدرهمين جاز ، فكذلك إذا باع درهما بدرهمين ؟ قلت : جيء به على طريق المبالغة . وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلا وقانوناً في الحل حتى شهبوا به البيع " .
وقوله : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } جملة مستأنفة ، وهي رد من الله - تعالى - عليهم ، وإنكار لتسويتهم الربا بالبيع .
قال الآلوسي : وحاصل هذا الرد من الله - تعالى - عليهم : أن ما ذكرتم - " من أن الربا مثل البيع - قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان ، على أن بين البابين فرقاً ، وهو أن من باع ثوباً يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابلة شيء من الثوب . وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بدون عوض ، ولا يمكن جعل الإِمهال عوضا إذا الإِمهال ليس بمال في مقابلة المال " .
وقوله : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } .
تفريع على الوعيد السابق في قوله : { الذين يَأْكُلُونَ الربا . . . } إلخ .
والمجيء بمعنى العلم والبلاغ ، والموعظة : ما يعظ الله - تعالى - به عباده عن طريق زجرهم وتخويفهم وتذكيرهم بسوء عاقبة المخالفين لأوامره .
أي : فمن بلغه نهي الله - تعالى - عن الربا ، فامتثل وأطاع وابتعد عما نهاه الله عنه ، { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أي فله ما تقدم قبضه من مال الربا قبل التحريم وليس له ما تقدم الاتفاق عليه ولم يقبضه . . لأن الله - تعالى - يقول بعد ذلك { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ . . } .
وقوله : { وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أي أمر هذا المرابي الذي تعامل بالربا قبل التحريم واجتنبه بعده ، أمره مفوض إلى الله - تعالى - فهو الذي يعامله بما يقتضيه فضله وعفوه وكرمه .
قال ابن كثير : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } . . إلخ أي ما بلغه نهى الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي خاتين وأول ربا أضع ربا عمي العباس " ، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال - تعالى - : { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أي ففله ما كان قد أكل من الربا قبل التحريم .
و " من " في قوله : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ } شرطية وهو الظاهر ، ويحتمل أن تكون موصولة وعلى التقديريرن فهي في محل رفع بالابتداء ، وقوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } هو الجزاء أو الخبر ، و ( موعظة ) فاعل جاء ، وسقطت التاء من الفعل للفصل بينه وبين الفاعل أو تكون الموعظة هنا بمعنى الوعظ فهي في معنى المذكر .
وقوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } جار ومجرور متعلق بجاءه ، أو بمحذوف وقع صفة لموعظة .
وفي قوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } تفخيم لشأن الموعظة ، وإغراء بالامتثال والطاعة لأنها صادرة من الله - تعالى - المربى لعباده .
وفي هذه الجملة الكريمة بيان لمظهر من مظاهر السماحة فيما شرعه الله لعباده ، لأنه - سبحانه - لم يعاقب المرابين على ما مضى من أمرهم قبل وجود الأمر والنهي ، ولم يجعل تشريعه بأثر رجعي بل جعله للمستقبل ، إذ الإِسلام يجب ما قبله . فما أكله المرابي قبل تحريم الربا فلا عقاب عليه فيه وهو ملك له ، إلا أنه ليس له أن يتعامل به بعد التحريم ، وإذا تعامل به فلن تقبل توبته حتى يتخلص من هذا المال الناتج عنه الربا .
ولقد توعد الله - تعالى - من يعود إلى التعامل بالربا بعد أن حرمه الله - تعالى - فقال { وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
أي ومن عاد إلى التعامل بالربا بعد أن هى الله عنه فأولئك العائدون هم أصحاب النار الملازمون لها ، والماكثون فيها بسبب تعديهم لما نهى الله عنه .
وفي هذه الجملة الكريمة تأكيد للعقاب النازل بأولئك العائدين بوجوه من المؤكدات منها : التعبير فيها بأولئك التي تدل على البعيد فهم بعيدون عن رحمة الله ، والتعبير بالجملة الاسمية التي تفيد الدوام والاستمرار والتعبير ، بكلمة أصحاب الدالة على الملازمة والمصاحبة ، وبكلمة { خَالِدُونَ } التي تدل على طول المكث
نَظَم القرآنُ أهمّ أصول حفظِ مال الأمَّة في سِلك هاته الآيات . فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها ، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدْلاً مما كان فضلاً عن الغنى فقرضه على الناس ، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم ، سواء في ذلك ما كان مفروضاً وهو الزكاة أو تطوّعاً وهو الصدقة ، فأطنب في الحثّ عليه ، والترغيب في ثوابه ، والتحذير من إمساكه ، ما كان فيه موعظة لمن اتّعظ ، عَطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم ، وهي المعاملة بالربا الذي لقّبه النبي صلى الله عليه وسلم ربَا الجاهليةِ ، وهو أن يعطي المدين مالاً لدائنه زائداً على قدر الدين لأجل الانتظار ، فإذا حلّ الأجل ولم يدفع زَاد في الدين ، يقولون : إمّا أن تَقْضيَ وإمّا أن تُربِي . وقد كان ذلك شائعاً في الجاهلية كذا قال الفقهاء . والظاهر أنّهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلّما طلبَ النظرة أعطى ربا آخر ، وربّما تسامح بعضهم في ذلك . وكان العباس بنُ عبد المطلب مشتهراً بالمراباة في الجاهلية ، وجاء في خطبة حجّة الوداع " ألا وإنّ ربا الجاهلية موضوع وإنّ أول ربا أبْدَأ به ربا عمّي عباس بن عبد المطلب " .
وجملة { الذين يأكلون الربوا } استئناف ، وجيء بالموصول للدلالة على علّة بناء الخبر وهو قوله : { لا يقومون } إلى آخره .
والأكل في الحقيقة ابتلاعُ الطعام ، ثم أطلق على الانتفاع بالشيء وأخذه بحرص ، وأصله تمثيل ، ثم صار حقيقة عرفية فقالوا : أكل مال الناس { إن الذين يأكلون أموال اليتامى } [ النساء : 10 ] { ألا تأكلوا أموالكم } [ الصافات : 91 ، 92 ] ، ولا يختصّ بأخذ الباطل ففي القرآن { فإن طبْن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } [ النساء : 4 ] .
والربا : اسم على وزن فِعَل بكسر الفاء وفتح العين لعلّهم خفّفوه من الرباء بالمد فصيّروه اسم مصدر ، لفعل رَبَا الشيء يربو رَبْواً بسكون الباء على القياس كما في « الصحاح » وبضم الراء والباء كعُلُو وربّاء بكسر الراء وبالمد مثل الرِّماء إذا زاد قال تعالى : { فلا يربو عند الله } [ الروم : 39 ] ، وقال : { اهتَزّتْ ورَبَتْ } [ الحج : 5 ] ، ولكونه من ذوات الواو ثني على رِبَوانِ . وكتب بالألف ، وكتبه بعض الكوفيين بالياء نظراً لجواز الإمالة فيه لمكان كسرة الراء{[197]} ثم ثنّوه بالياء لأجل الكسرة أيضاً قال الزجاج : ما رأيت خطأ أشنع من هذا ، ألا يكفيَهم الخَطأ في الخطّ حتى أخطؤوا في التثنية كيف وهم يقرؤون { وما آتيتم من رِبا لتُربُوَ } [ الروم : 39 ] بفتحة على الواو { في أموال الناس } [ الروم : 39 ] يشير إلى قراءة عاصم والأعمش ، وهما كوفيان ، وبقراءتهما يقرأ أهل الكوفة .
وكُتب الربا في المصحف حيثما وقع بواو بعدها ألف ، والشأن أن يكتب ألفاً ، فقال صاحب « الكشاف » : كتبت كذلك على لغة من يفخّم أي ينحو بالألف منحى الواو ، والتفخيم عكس الإمالة ، وهذا بعيد ؛ إذ ليس التفخيم لغة قريش حتى يكتب بها المصحف .
وقال المبرّد : كتب كذلك للفرق بين الربا والزنا ، وهو أبعد لأنّ سياق الكلام لا يترك اشتبَاهاً بينهما من جهة المعنى إلاَّ في قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنا } [ الإسراء : 32 ] . وقال الفراء : إنّ العرب تعلّموا الخطّ من أهل الحيرة وهم نبط يقولون في الربا : رِبَوْ بواو ساكنة فكتبت كذلك ، وهذا أبعد من الجميع .
والذي عندي أنّ الصحابة كتبوه بالواو ليشيروا إلى أصله كما كتبوا الألفات المنقلبة عن الياء في أواسط الكلمات بياءات عليها ألفات ، وكأنَّهم أرادوا في ابتداء الأمر أن يجعلوا الرسم مشيراً إلى أصول الكلمات ثم استعجلوا فلم يطّرد في رسمهم ، ولذلك كتبوا الزكاة بالواو ، وكتبوا الصلاة بالواو تنبيهاً على أنّ أصلها هو الركوع من تحريك الصَّلْوَيْن لا من الاصطلاء . وقال صاحب « الكشاف » : وكتبوا بعدها ألفاً تشبيهاً بواو الجمع . وعندي أنّ هذا لا معنى للتعليل به ، بل إنّما كتبوا الألف بعدها عوضاً عن أن يضعوا الألف فوق الواو ، كما وضعوا المنقلب عن ياء ألفاً فوق الياء لئلاّ يقرأها الناس الربُو .
وأريد بالذين يأكلون الربا هنا من كان على دين الجاهلية ؛ لأن هذا الوعيد والتشنيع لا يناسب إلاّ التوجّه إليهم لأنّ ذلك من جملة أحوال كفرهم وهم لا يرعوون عنها ما داموا على كفرهم . أما المسلمون فسبق لهم تشريع بتحريم الربا بقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } في سورة آل عمران ( 130 ) ، وهم لا يقولون إنّما البيع مثل الربا ، فجعل الله هذا الوعيد من جملة أصناف العذاب خاصاً للكافرين لأجل ما تفرّع عن كفرهم من وضع الربا .
وتقدم ذلك كلّه إنكارُ القرآن على أهل الجاهلية إعطاءهم الربا ، وهو من أول ما نعاه القرآن عليهم في مكة ، فقد جاء في سورة الروم ( 39 ) : وما آتيتم من ربا لتُربوا في أموال الناس فلا يَربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المُضعفون وهو خطاب للمشركين لأنّ السورة مكية ولأنّ بعد الآية قوْلُه : الله خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } .
ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفّار إغلاظاً عليهم ، وتعريضاً بتخويف المسلمين ، ليكرّه إياهم لأحوال أهل الكفر . وقد قال ابن عباس : كلّ ما جاء في القرآن من ذمّ أحوال الكفار فمراد منه أيضاً تحذير المسلمين من مثله في الإسلام ، ولذلك قال الله تعالى : { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ البقرة : 275 ] وقال تعالى : { والله لا يحب كلّ كفّار أثيم } [ البقرة : 276 ] .
ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله } [ البقرة : 278 ] الآيات ، ولعلّ بعض المسلمين لم ينكفّ عن تعاطي الربا أو لعلّ بعضهم فتن بقول الكفار : إنّما البيع مثل الربا . فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم ، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبياناً لكيفية تدارك ما سلف منه .
والربا يقع على وجهين : أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف ، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل ، يعني فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتّفقان عليها عند حلول كل أجل .
وقوله : { لا يقومون } حقيقة القيام النهوض والاستقلال ، ويطلق مجازاً على تحسّن الحال ، وعلى القوة ، من ذلك قامت السوق ، وقامت الحرب . فإن كان القيام المنفي هنا القيام الحقيقي فالمعنى : لا يقومون يوم يقوم الناس لرب العالمين إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان ، أي إلاّ قياماً كقيام الذي يتخبّطه الشيطان ، وإن كان القيامَ المجازي فالمعنى إما على أنّ حرصهم ونشاطهم في معاملات الربا كقيام المجنون تشنيعاً لجشعهم ، قاله ابن عطية ، ويجوز على هذا أن يكون المعنى تشبيه ما يعجب الناس من استقامة حالهم ، ووفرة مالهم ، وقوة تجارتهم ، بما يظهر من حال الذي يتخبّطه الشيطان حتى تخاله قوياً سريع الحركة ، مع أنّه لا يملك لنفسه شيئاً . فالآية على المعنى الحقيقي وعيد لهم بابتداء تعذيبهم من وقت القيام للحساب إلى أن يدخلوا النار ، وهذا هو الظاهر وهو المناسب لقوله : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا } ، وهي على المعنى المجازي تشنيع ، أو توعّد بسوء الحال في الدنيا ولُقِّيَ المتَاعب ومرارة الحياة تحت صورة يخالها الرائي مستقيمة .
والتخبّط مطاوع خَبَطه إذا ضربه ضرباً شديداً فاضطرب له ، أي تحرّك تحرّكاً شديداً ، ولما كان من لازم هذا التحرّك عدم الاتّساق ، أطلق التخبّط على اضطراب الإنسان من غير اتّساق . ثم إنّهم يعمدون إلى فعل المطاوعة فيجعلونه متعدّياً إلى مفعول إذا أرادوا الاختصار ، فعِوضاً عن أنّ يقولوا خبطه فتخبّط يقولون تخبّطه كما قالوا : اضطَرّه إلى كذا . فتخبُّط الشيطان المرءَ جَعْله إياه متخبّطاً ، أي متحرّكاً على غير اتّساق .
والذي يتخبّطه الشيطان هو المجنون الذي أصابه الصرع . فيضطرب به اضطرابات ، ويسقط على الأرض إذا أراد القيام ، فلما شبهت الهيأة بالهيأة جيء في لفظ الهيأة المشبه بها بالألفاظ الموضوعة للدلالة عليها في كلامهم وإلاّ لَما فهمت الهيأة المشبّه بها ، وقد عُرِف ذلك عندهم . قال الأعشى يصف ناقته بالنشاط وسرعة السير ، بعد أن سارت ليلاً كاملاً :
وتُصبح عن غِب السري وكأنّها *** ألمّ بها من طائف الجنِّ أوْلَقُ{[198]}
والمسّ في الأصل هو اللمس باليد كقولها{[199]} : « المَسُّ مَس أرنب » ، وهو إذا أطلق معرّفاً بدون عهدِ مسَ معروف دل عندهم على مسّ الجن ، فيقولون : رجل ممسوس أي مجنون ، وإنّما احتيج إلى زيادة قوله من المسّ ليظهر المراد من تخبّط الشيطان فلا يظنّ أنّه تخبّط مجازي بمعنى الوسوسة .
و ( مِن ) ابتدائية متعلقة بيتخبّطه لا محالة .
وهذا عند المعتزلة جارٍ على ما عهده العربي مثل قوله : « طَلْعُها كأنّه رُؤوس الشياطين » ، وقول امرىء القيس :
* ومسنونةٌ زُرقٌ كأنيابِ أغوال *
إلاّ أنّ هذا أثره مشاهد وعلته مُتخيَّلة والآخران متخيَّلان لأنّهم ينكرون تأثير الشياطين بغير الوسوسة . وعندنا هو أيضاً مبني على تخييلهم والصرع إنّما يكون من علل تعتري الجسم مثل فيضان المِرّة عند الأطبّاء المتقدمين وتشنّج المجموع العصبي عند المتأخرين ، إلاّ أنّه يجوز عندنا أن تكون هاته العلل كلّها تنشأ في الأصل من توجّهات شيطانية ، فإنّ عوالم المجرّدات كالأرواح لم تنكشف أسرارها لنا حتى الآن ولعلّ لها ارتباطات شعاعية هي مصادر الكون والفساد .
وقوله : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا } الإشارة إلى { كما يقوم } لأنّ ما مصدرية ، والباء سببية .
والمحكيّ عنهم بقوله : { قالوا إنما البيع مثل الربوا } ، إن كان قولاً لسانياً فالمراد به قول بعضهم أو قول دُعاتهم وهم المنافقون بالمدينة ، ظنّوا بسوء فهمهم أنّ تحريم الربا اضطراب في حيننِ تحليل البيع ، لقصد أن يفتنوا المسلمين في صحة أحكام شريعتهم ؛ إذ يتعذّر أن يكون كل من أكل الربا قال هذا الكلام ، وإن كان قولاً حالياً بحيث يقوله كل من يأكل الربا لو سأله سائل عن وجه تعاطيه الربا ، فهو استعارة . ويجوز أن يكون { قالوا } مجازاً لأنّ اعتقادهم مساواة البيع للربا يستلزم أن يقوله قائل ، فأطلق القول وأريد لازمه ، وهو الاعتقاد به .
وقولهم : { إنما البيع مثل الربوا } قصر إضافي للردّ على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع ، ولمّا صُرح فيه بلفظ مِثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع ، ولا يقال : إنّ الظاهر أن يقولوا إنّما الربا مثل البيع لأنّه هو الذي قصد إلحاقه به ، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة ؛ لأنّا نقول : ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع ، فهما في الخطور بأذهانهم سواء ، غير أنّهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيعُ حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا ، أو أنّهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضاً بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسمّاة في الأصول بقياس العكس{[200]} ؛ لأنّ قياس العكس إنّما يُلتجأ إليه عند كفاح المناظرة ؛ لا في وقت استنباط المجتهد في خاصّة نفسه .
وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله .
وقوله : { وأحل الله البيع وحرم الربوا } من كلام الله تعالى جواب لهم وللمسلمين ، فهو إعراض عن مجادلتهم إذ لا جدوى فيها لأنّهم قالوا ذلك كفراً ونفاقاً فليسوا ممّن تشملهم أحكام الإسلام .
وهو إقناع للمسلمين بأنّ ما قاله الكفار هو شبهة محضة ، وأنّ الله العليم قد حرّم هذا وأباح ذاك ، وما ذلك إلاّ لحكمة وفروق معتبرة لو تدبّرها أهل التدبّر لأدركوا الفرق بين البيع والربا ، وليس في هذا الجواب كشف للشبهة فهو ممّا وكله الله تعالى لمعرفة أهل العلم من المؤمنين ، مع أنّ ذكر تحريم الربا عقب التحريض على الصدقات يومىء إلى كشف الشبهة .
واعلم أنّ مبنى شبهة القائلين { إنما البيع مثل الربوا } أنّ التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجّل ، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلاً على أنّه يرجعها له أحد عشر درهماً ، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه ؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله ، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله .
وكشف هاته الشبهة قد تصدّى له القفال فقال : « من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابَلاً بالعشرين ، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صارت العشرون عوضاً للثوب في المالية فلم يأخذ البائع من المشتري شيئاً بدون عوض ، أما إذا أقرضه عشرة بعشرين فقد أخذ المقرض العشرة الزائدة من غير عوض . ولا يقال إنّ الزائد عوض الإمهال لأنّ الإمهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة » . ومرجع هذه التفرقة إلى أنّها مجرّد اصطلاح اعتباري فهي تفرقة قاصرة .
وأشار الفخر في أثناء تقرير حكمة تحريم الربا إلى تفرقة أخرى زادها البيضاوي تحريراً ، حاصلها أنّ الذي يبيع الشيء المساوي عشرة بأحد عشر يكون قد مكّن المشتري من الانتفاع بالمبيع إما بذاته وإما بالتجارة به ، فذلك الزائد لأجل تلك المنفعَة وهي مسيس الحاجة أو توقع الرّواج والربح ، وأما الذي دفع درهماً لأجل السلف فإنّه لم يحصّل منفعة أكثر من مقدار المال الذي أخذه ، ولا يقال : إنّه يستطيع أن يتَّجر به فيربح لأنّ هذه منفعة موهومة غير محقّقة الحصول ، مع أنّ أخذ الزائد أمر محقّق على كل تقدير .
وهذه التفرقة أقرب من تفرقة القفال ، لكنّها يردّ عليها أنّ انتفاع المقترض بالمال فيه سدّ حاجاته فهو كانتفاع المشتري بالسلعة ، وأما تصدِّيهِ للمتاجرة بمال القرض أو بالسلعة المشتراة فأمر نادر فيها .
فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أنّ مرجعها إلى التعليل بالمظنّة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري ، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنّهم كانوا يعدّون التداين همّاً وكرباً ، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وحال التاجر حال التفضّل . وكذلك اختلاف حالي المُسْلِف والبائع ، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقاً ؛ لأنّ المُتسلّف مظنّة الحاجة ، ألا تراه ليس بيده مال ، وحال بائع السلعة تجارةً حالُ من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال .
فالتجارة معاملة بين غنيّين : ألا ترى أنّ كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذٌ ما يحتاج إليه ، فالمتسلّف مظنّة الفقر ، والمشتري مظنّة الغِنى ، فلذلك حرم الربا لأنّه استغلال لحاجة الفقير وأحلّ البيع لأنّه إعانة لطالب الحاجات . فتبيّن أنّ الإقراض من نوع المواساةِ والمعروف ، وأنّها مؤكّدة التعيُّن على المواسي وجوباً أو ندْباً ، وأيَّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجراً على عمل المعروف . فأما الذي يستقرض مالاً ليتجَّر به أو ليوسع تجارته فليس مظنّة الحاجة ، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين ، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوّع بمعروف . وكفى بهذا تفرقة بين الحالين .
وقد ذكر الفخر لحكمة تحريم الربا أسباباً أربعة :
أولها أنّ فيه أخذ مال الغير بغير عوض ، وأورد عليه ما تقدم في الفرق بينه وبين البيع ، وهو فرق غير وجيه .
الثاني أنّ في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاقّ الاشتغال في الاكتساب ؛ لأنّه إذا تعوّد صاحب المال أخذ الربا خفّ عنه اكتساب المعيشة ، فإذا فشا في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق لأنّ مصلحة العالم لا تنتظم إلاّ بالتجارة والصناعة والعمارة .
الثالث أنّه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض .
الرابع أنّ الغالب في المقرِض أن يكون غنياً ، وفي المستقرض أن يكون فقيراً ، فلو أبيح الربا لتمكّن الغني من أخذ مال الضعيف .
وقد أشرنا فيما مرّ في الفرق بين الربا والبيع إلى علة تحريمه وسنبسط ذلك عند قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } من سورة آل عمران ( 130 ) .
هذا وقد تعرّضت الآية إلى حكم هو تحليل البيع وتحريم الربا ؛ لأنّها من قول الله تعالى لإعلان هذا التشريع بعد تقديم الموعظة بين يديه .
و ( أل ) في كل من البيع والربا لتعريف الجنس ، فثبت بها حكم أصلين عظيمين في معاملات الناس محتاج إليهما فيها : أحدهما يسمّى بيعاً والآخر يسمّى ربا . أولهما مباح معتبر كونه حاجياً للأمة ، وثانيهما محرّم ألغيت حاجيته لما عارضها من المفسدة . وظاهر تعريف الجنس أنّ الله أحل البيع بجنسه فيشمل التحليلُ سائر أفراده ، وأنّه حرم الربا بجنسه كذلك . ولما كان معنى { أحل الله البيع } أذِنَ فيه كان في قوة قضية موجَبة ، فلم يقتض استغراق الجنس بالصيغة ، ولم تقم قرينة على قصد الاستغراق قيامَها في نحو الحمدُ لله ، فبقي محتملاً شمول الحِلّ لسائر أفراد البيع . ولما كان البيع قد تعتريه أسباب توجب فساده وحرمته تتبّعت الشريعة أسباب تحريمه ، فتعطّل احتمال الاستغراق في شأنه في هذه الآية .
أما معنى قوله : { وحرم الربوا } فهو في حكم المنفي لأنّ حرم في معنى منع ، فكان مقتضياً استغراق جنس الربا بالصيغة ؛ إذ لا يطرأ عليه ما يصيّره حلالاً .
ثم اختلف علماء الإسلام في أنّ لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة ، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع .
فذَهَب ابن عباس وابن عمر ومعاوية إلى أنّه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية ، أعني الزيادة لأجل التأخير ، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة ، قال الفخر : « ولعلّه لا يرى تخصيص القرآن بخبر الآحاد » ، يعني أنّه حمل { أحل الله البيع } على عمومه .
وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أنّ الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلّت عليه أحاديث كثيرة ، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أنّ لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبيَّن جميعُ المراد منه فكأنّه عنده ممّا يشبه المجمل ، فقد حَكى عنه ابن رشد في المقدمات أنّه قال : « كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها ، وإنّكم تزعمون أنّا نعلم أبواب الربا ، ولأنْ أكون أعلَمُها أحبُ إليّ من أن يكون لي مثل مصر وكورها » قال ابن رشد : ولم يرُد عمر بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا ، وإنّما أراد والله أعلم أنّه لم يعمّ وجوه الربا بالنص عليها . وقال ابن العربي : بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثاً .
والوجهُ عندي أن ليس مراد عمر أنّ لفظ الربا مجمل لأنّه قابله بالبيان وبالتفسير ، بل أراد أنّ تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يَعمَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص ؛ لأنّ المتقدمين لا يتوخّون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية ، فهؤلاء الحنفية سمّوا المخصّصات بيانَ تغيير . وذكر ابن العربي في العواصم أنّ أهل الحديث يتوسّعون في معنى البيان . وفي تفسير الفخر عن الشافعي أنّ قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربوا } من المجملات التي لا يجوز التمسك بها ، أي بعمومَيْها : عموم البيعِ وعمومِ الربا ؛ لأنّه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أيّ بيع وأيّ زيادة ، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلاّ وفيه زيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع ، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام . والذي حمل الجمهورَ على اعتبار لفظ الربا مستعملاً في معنى جديد أحاديثُ وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام ، وأصولها ستة أحاديث :
الحديث الأول حديث أبي سعيد الخِدْري : « الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتَّمر بالتمر والمِلح بالمِلح مِثْلاً بِمثْلٍ يداً بيد ، فمن زاد وازداد فقد أربى ، الآخِذ والمعطي في ذلك سواء » .
الثاني حديث عبادة بن الصامت : « الذهبُ بالذهب تِبْرُها وعَيْنُها والفضّة بالفضّة تِبْرها وعَينها والبُرّ بالبُرّ مُدّاً بمدّ وَالشعير بالشعير مُداً بمد والتمر بالتمر مُداً بمد والمِلْح بالملح مداً بمد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضّة والفضّة بالذهب أكثرهما يداً بيد ، وأما النسيئة فلا » رواه أبو داود ، فسمّاه في هذين الحديثين ربا .
الثالث حديث أبي سعيد : أنّ بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْنِيَ ، فقال له : من أين هذا فقال بلال : تَمر كان عندنا رديء فبعتُ منه صاعين بصاع لطَعم النبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أوّهْ عين الربا ، لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا » فسمّى التفاضل ربا .
الرابع حديث « الموطأ » و« البخاري » عن ابن سعيد وأبي هريرة أنّ سواد بن غَزِيَّةِ جاء في خيبر بتمر جَنِيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أكُلُّ تمرِ خيبرَ هكذا " فقال : « يا رسول الله إنّا لنأخُذُ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تَفْعَلْ ، بع الجمعْ بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جَنِيبا " .
الخامس حديث عائشة في « صحيح البخاري » : قالت " لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي ثم حَرّم التجارة في الخمر " فظاهره أنّ تحريم التجارة في الخمر كان عملاً بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معنى الربا المعروف عندهم وإنّما هو بيع فاسد .
السادس حديث الدارقطني ورواه ابن وهب عن مالك أنّ العالية بنت أيْنَع وفدت إلى المدينة من الكوفة ، فلقيت عائشة فأخبرتْها أنّها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء ، ثم إنّ زيداً باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقداً ، فقالت لها عائشة : « بئسما شَرَيْتِ وما اشتريتِ ، أبْلِغِي زيداً أنّه قد أبطل جِهاده مع رسول الله إلاّ أن يتوب » ، قالت : فقلت لها : « أرأيتِ إن لم آخذ إلاّ رأس مالي » قالت : « فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف » فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية .
فلأجل هذه الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع :
الأول ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير .
الثاني ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعُبادة بن الصامت .
الثالث ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخّراً . وزاد المالكية نوعاً رابعاً : وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا ، وترجمُه في المدوّنة ببيوع الآجال ، ودليل مالك فيه حديث العالية . ومن العلماء من زعم أنّ لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث في تحريم تجارة الخمر ، وإليه مال ابن العربي .
وعندي أنّ أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس ، وأنّ أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ليجمع بين الحديثين ، وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعُبادة بن الصامت دليل على ما قلناه ، وأنّ ما راعاه مالك من إبطال ما يفضي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن ، وما عداه إغراق في الاحتياط ، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في « الموطأ » وغيره أنّ انتفاء التهمة لا يبطل العقد .
ولا متمسّك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأنّ المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية ، فكان حالهم مقتضياً لسدّ الذرائع .
وفي « تفسير القرطبي » : كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أنّ النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة متفاضلاً إنّما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال : غزونا وعَلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنيَة من ذهب ، فأمر معاوية رجالاً ببيعها في أعطياتتِ الناس ، فتنازع الناس في ذلك ، فبلغ ذلك عُبادة بن الصامت فقام فقال : « سمعتُ رسول الله ينهَى عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة إلاّ سواء بسواء عيْناً بعين ، من زاد وازداد فقد أربَى » فبلغ ذلك معاويةَ فقام خطيباً فقال : « ألا ما بال أقوام يتحدّثون عن رسول الله أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه » فقال عبادة بن الصامت : « لنحدّثن بما سمعنا من رسول الله وإن كَرِه معاوية » .
والظاهر أنّ الآية لم يُقصد منها إلاّ ربا الجاهلية ، وأنّ ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مُندرجة في أدلة أخرى .
وقوله : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى } الآية تفريع على الوعيد في قوله : { الذين يأكلون الربوا } .
والمجيء بمعنى العلم والبلاغ ، أي من علم هذا الوعيد ، وهذا عذر لمن استرسل على معاملة الربا قبل بلوغ التحريم إليه ، فالمراد بالموعظة هذه الآية وآية آل عمران .
والانتهاء مطاوع نهاه إذا صدّه عمّا لا يليق ، وكأنّه مشتق من النُّهَى بضم النون وهو العقل . ومعنى « فله ما سلف » ، أي ما سلف قبْضُه من مال الربا لا ما سلف عقده ولم يُقبض ، بقرينة قوله الآتي
{ وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم } [ البقرة : 279 ] .
وقوله : { وأمره إلى الله } فرَضَوا فيه احتمالات يرجع بعضها إلى رجوع الضمير إلى « من جاءه » وبعضها إلى رجوعه إلى ما سلف ، والأظهر أنّه راجع إلى من جاءه لأنّه المقصود ، وأنّ معنى { وأمره إلى الله } أنّ أمر جزائه على الانتهاء موكول إلى الله تعالى ، وهذا من الإيهام المقصود منه التفخيم . فالمقصود الوعد بقرينة مقابلته بالوعيد في قوله : { ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } .
وجُعل العائد خالداً في النار إما لأنّ المراد العود إلى قوله : { إنما البيع مثل الربوا } ، أي عاد إلى استحلال الربا وذلك نِفاق ؛ فإنّ كثيراً منهم قد شقّ عليهم ترك التعامل بالربا ، فعلم الله منهم ذلك وجعَل عدم إقلاعهم عنه أمارة على كذب إيمانهم ، فالخلود على حقيقته . وإما لأنّ المراد العود إلى المعاملة بالربا ، وهو الظاهر من مقابلته بقوله : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى } والخلود طول المكث كقول لبيد :
فوقفْتُ أسألُها وكيفَ سؤالُنا *** صُمّاً خَوَالِدَ ما يَبِين كلامُها
وتمسك بظاهر هاته الآية ونحوها الخوارج القائلون بتكفير مرتكب الكبيرة كما تمسكوا بنظائرها . وغفلوا عن تغليظ وعيد الله تعالى في وقت نزول القرآن ؛ إذ الناس يومئذ قريبٌ عهدهم بكفر . ولا بد من الجمع بين أدلّة الكتاب والسنة .