22- إنه وحده هو الذي مهد لكم الأرض بقدرته ، وبسط رقعتها ليسهل عليكم الإقامة فيها والانتفاع بها ، وجعل ما فوقكم من السماء وأجرامها وكواكبها كالبنيان المشيد ، وأمدكم بسبب الحياة والنعمة - وهو الماء - أنزله عليكم من السماء فجعله سبباً لإخراج النباتات والأشجار المثمرة التي رزقكم بفوائدها ، فلا يصح مع هذا أن تتصوروا أن لله نظراء تعبدونهم كعبادته لأنه ليس له مثيل ولا شريك ، وأنتم بفطرتكم الأصلية تعلمون أنه لا مثيل له ولا شريك ، فلا تحرفوا هذه الطبيعة .
قوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } . أي بساطاً ، وقيل مناماً وقيل وطاء ، أي ذللها ولم يجعلها حزنة لا يمكن القرار عليها ، والجعل هاهنا بمعنى الخلق .
قوله تعالى : { والسماء بناء } . وسقفاً مرفوعاً .
قوله تعالى : { وأنزل من السماء } . أي من السحاب .
قوله تعالى : { ماء } . وهو المطر .
قوله تعالى : { فأخرج به من الثمرات } . من ألوان الثمرات وأنواع النبات .
قوله تعالى : { رزقاً لكم } . طعاماً لكم وعلفاً لدوابكم .
قوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أنداداً } . أي أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله . وقال أبو عبيدة : الند الضد ، وهو من الأضداد والله تعالى بريء من المثل والضد .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
هذا أمر عام لكل{[64]} الناس ، بأمر عام ، وهو العبادة الجامعة ، لامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وتصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
ثم استدل على وجوب عبادته وحده ، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم ، فخلقكم بعد العدم ، وخلق الذين من قبلكم ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها ، وتنتفعون بالأبنية ، والزراعة ، والحراثة ، والسلوك من محل إلى محل ، وغير ذلك من أنواع{[65]} الانتفاع بها ، وجعل السماء بناء لمسكنكم ، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم ، كالشمس ، والقمر ، والنجوم .
{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء : [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء ، ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا : السحاب ، فأنزل منه تعالى ماء ، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب ، والثمار ، من نخيل ، وفواكه ، [ وزروع ] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون ، وتقوتون وتعيشون وتفكهون .
{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي : نظراء وأشباها من المخلوقين ، فتعبدونهم كما تعبدون الله ، وتحبونهم كما تحبون الله ، وهم مثلكم ، مخلوقون ، مرزوقون مدبرون ، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا ينفعونكم ولا يضرون ، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك ، ولا نظير ، لا في الخلق ، والرزق ، والتدبير ، ولا في العبادة{[66]} فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب ، وأسفه السفه .
وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته ، وبطلان عبادة من سواه ، وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية ، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير ، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك ، فكذلك فليكن إقراره بأن [ الله ] لا شريك له في العبادة ، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري ، وبطلان الشرك .
وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده ، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه ، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله ، صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى ، وكلا المعنيين صحيح ، وهما متلازمان ، فمن أتى بالعبادة كاملة ، كان من المتقين ، ومن كان من المتقين ، حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه .
ثم أضاف - سبحانه - أسباباً أخرى تحمل الناس على عبادته وطاعته فقال : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً } .
الفراش : ما يفترشه الإِنسان ليستقر عليه بنحو الجلوس أو المنام . أي : اجعلوا عبادتكم لله الذي صير الأرض لأجلكم مهاداً كالبساط المفروش ، فذللها لكم ولم يجعلها صعبة غليظة ، لكي يتهيأ لكم الاستقرار عليها . والتقلب في مناكبها ، والانتفاع بما أودع الله في باطنها من خيرات .
وتصوير الأرض بصورة الفراش لا ينافي كونها كروية ، لأن الكرة إذا عظمت جدا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الانتفاع بها .
{ والسماء بِنَآءً } يقال لسقف البيت بناء أي : جعل السماء كالسقف للأرض ، لأنها تظهر كالقبة المضروبة فوقها كما قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } وقدم خلق الأرض على خلق السماء لأن الأرض أقرب إلى المخاطبين ، وانتفاعهم بها أظهر وأكثر من انتفاعهم بالسماء . قال بعض الأدباء : " إذا تأملت هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منورة كالمصابيح ، والإِنسان كما لك البيت المتصرف فيه وضروب النبات مهيأة لمنافعه ، وضروب الحياة مصروفة لمصالحه " فهذه جملة واضحة داله على أن العالم مخلوق بتدبير كامل ، وتقدير شامل ، وحكمة بالغة ، وقدرة غير متناهية " .
ثم قال - تعالى - { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } :
السماء : السحاب ، والثمرات : ما ينتجه الشجر . والرزق : ما يصلح لأن ينتفع به . والباء في . ( به ) للسببية . أي : أنه جعل الماء سبباً في خروج الثمرة ، وهو القادر على أن ينشئها بلا سبب كما أنشأ الأسباب .
وأورد { مَآءً } و { رِزْقاً } في صيغة التنكير التي تستعمل عند إرادة بعض أفراد المعنى الذي وضع له اللفظ لغة ، وذلك لأن من الماء ما لم ينزل من السماء ، ومن الرزق ما لا يكون من الثمرات . فمعنى الجملة الكريمة : أنزل من السماء بعض الماء ، فأخرج به من الثمرات بعض ما يكون رزقاً لكم .
ثم قال - تعالى - { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
الأنداد : جمع ند ، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه .
وأصله من : ند البعير يند ندا ونداداً ونداً ، إذا تفرد وذهب على وجهه شارداً .
والمعنى : فلا تجعلوا لله أمثالاً ونظراء تعبدونها وتسمونها آلهة ، وتعتقدون فيها النفع والضر ، وتجعلون لها ما لله تعالى وحده ، وأنتم تعلمون أنها أشياء لا يصح جعلها أنداداً مساوية له تعالى { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : وأنتم من ذوي العلم والنظر ، فلو تأملتم أدنى تأمل لا نصرفتم بقوة إلى عبادة الله وحده .
ولتركتم الإِشراك به . وصدرت الجملة الكريمة بالفاء لترتبها على الكلام السابق ، المترتب على الأمر بعبادة الله وحده .
وسمي القرآن الشركاء المزعومين أنداداً تهكماً بالعابدين لها ، ولأن المشركين لما تركوا عبادة الله إلى عبادة الأوثان ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة ، قادرة على مخالفته ومضادته ، وذلك معنى جعلها أنداداً الذي هو مصب النهي في الآية .
وجملة { وأنتم تعلمون } ، حالية ، ومفعول تعلمون متروك ، لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول ، بل قصد إثباته لفاعله فقد فنزل منزلة اللازم ، وفي هذه الجملة مبالغة في زجرهم عن عبادة الأوثان من دون الله ، لأن ارتكاب الباطل من الجاهل قبيح ، وهو من العالم ببطلانه أشد قبحاً ، وأدعى إلى أن يقابل بأغلظ ألوان الإِنكار . كما أن فيها إثارة لهممهم ليقلعوا عن عبادة غير الله ، فإن من كان من ذوي العلم لا يصح منه أن يفعل أفعال من لا عقل له ، وهذا لون جليل من ألوان التربية ، فإن من سمات المربى الناجح أن يجمع بين القسوة في النهي عن القبيح ، وبين إثارة همة الموعوظ حتى لا يقتل همته باليأس ، لأن الإِنسان إذا ساءت ظنونه بنفسه خارت عزيمته ، وفترت همته .
هذا ، وقد استفاضت الأحاديث النبوية التي تدعو إلى توحيد الله ، وتنهى عن الإِشراك ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : " قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم عند الله ؟ " قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك " " .
قال الإِمام ابن كثير : وهذه الآية دالة على توحيده - تعالى - بالعبادة وحده لا شريك له ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانتها وطباعها ومنافعها ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب وقد سئل : ما الدليل على وجود الله - تعالى - ؟ فقال : يا سبحانه الله ! ! إن البعر ليدل على البعير ؛ وإن أثر القدم يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل هذا على وجود اللطيف الخبير .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 22 )
وقوله تعالى : { الذي جعل } نصب على إتباع( {[324]} ) الذي المتقدم ، ويصح أن يكون مرفوعاً على القطع .
وما ذكر مكي من إضمار أعني أو مفعول ب { تتقون } فضعيف .
وجعل بمعنى صير في هذه الآية لتعديها إلى مفعولين ، و { فراشاً } معناه تفترشونها( {[325]} ) وتستقرون عليها ، وما في الأرض مما ليس بفراش كالجبال والبحار فهو من مصالح ما يفترش منها ، لأن الجبال كالأوتاد والبحار يركب فيها إلى سائر منافعها ، و { السماء } قيل هو اسم مفرد جمعه «سماوات » ، وقيل هو جمع واحده «سماوة » ، وكل ما ارتفع عليك في الهواء سماء ، والهواء نفسه علواً يقال له «سماء » ، ومنه الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً »( {[326]} ) ، واللفظة من السمو وتصاريفه .
وقوله تعالى : { بناء } تشبيه بما يفهم( {[327]} ) ، كما قال تعالى : { والسماء بنيناها بأييد }( {[328]} ) [ الذاريات : 47 ] .
وقال بعض الصحابة : «بناها على الأرض كالقبة » .
وقوله : { وأنزل من السماء } يريد السحاب ، سمي بذلك تجوزاً لما كان يلي السماء ويقاربها وقد سموا المطر سماء للمجاورة ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ] .
إذا نزل السماء بأرض قوم . . . رعيناه وإن كانوا غضابا( {[329]} )
فتجوز أيضاً في رعيناه ، فبتوسط المطر جعل السماء عشباً ، وأصل { ماء } موه يدل على ذلك قولهم في الجمع مياه وأمواه ، وفي التصغير مويه ، وانطلق اسم الرزق على ما يخرج من الثمرات قبل التملك ، أي هي معدة أن يصح الانتفاع بها فهي رزق( {[330]} ) ، ورد بهذه الآية بعض الناس قول المعتزلة إن الرزق ما يصح تملكه ، وليس الحرام برزقه ، وواحد الأنداد ند( {[331]} ) ، وهو المقاوم والمضاهي كان مثلاً أو خلافاً أو ضداً ، ومن حيث قاوم وضاهى فقد حصلت مماثلة ما .
وقال أبو عبيدة معمر والمفضل : الضد الند ، وهذا التخصيص منهما تمثيل لا حصر .
واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية ؟ فقالت جماعة من المفسرين : المخاطب جميع المشركين : فقوله على هذا : { وأنتم تعلمون }( {[332]} ) يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق ، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار( {[333]} ) ، وقيل المراد كفار بني إسرائيل ، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم أن الله لا ند له .
وقال ابن فورك : «يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين » فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون ، وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد( {[334]} ) . وهذه الآية تعطي( {[335]} ) أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق ، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا ، فقد أخذ بطرق من جعل لله نداً ، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله ، لا رب غيره
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم دل على نفسه بصنعه ليوحدوه، وذَكَّرهم النعمَ، فقال سبحانه: اعبدوا ربكم
{الذي جعل لكم الأرض فراشا}: يعني بساطا. {والسماء بناء}: يعني سقفا. {وأنزل من السماء ماء}: يعني المطر. {فأخرج به}: فأخرج بالمطر من الأرض أنواعا {من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا}: لا تجعلوا مع الله شركاء. {وأنتم تعلمون} أن هذا الذي ذكر كله من صنعه، فكيف تعبدون غيره؟.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"الّذِي جعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشا" مردود على «الذي» الأولى في قوله: "اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ" وهما جميعا من نعت «ربكم»، فكأنه قال: اعبدوا ربكم [الخالق لكم] والخالق [الذين] من قبلكم، الجاعل لكم الأرض فراشا. يعني بذلك أنه جعل لكم الأرض مهادا وموطئا وقرارا يستقرّ عليها.
يذكّر ربنا جل ذكره بذلك من قيله زيادة نعمه عندهم وآلائه لديهم، ليذكروا أياديه عندهم فينيبوا إلى طاعته، تعطفا منه بذلك عليهم، ورأفة منه بهم، ورحمة لهم، من غير ما حاجة منه إلى عبادتهم، ولكن ليتم نعمته عليهم ولعلهم يهتدون...
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشا" فهي فراش يُمْشَى عليها، وهي المهاد والقرار...
"وَالسّماءَ بِناءً": وإنما سميت السماء سماءً لعلوّها على الأرض وعلى سكانها من خلقه، وكل شيء كان فوق شيء آخر فهو لما تحته سماءٌ. ولذلك قيل لسقف البيت سماؤه، لأنه فوقه مرتفع عليه، ولذلك قيل: سما فلان لفلان: إذا أشرف له وقصد نحوه عاليا عليه،... وإنما ذكر السماء والأرض جل ثناؤه فيما عدّد عليهم من نعمه التي أنعمها عليهم، لأن منهما أقواتهم وأرزاقهم ومعايشهم، وبهما قوام دنياهم، فأعلمهم أن الذي خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما هم فيه من النعم هو المستحقّ عليهم الطاعة، والمستوجب منهم الشكر والعبادة دون الأصنام والأوثان التي لا تضرّ ولا تنفع...
" وأنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ ماءً فأخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقا لَكُمْ": يعني بذلك أنه أنزل من السماء مطرا، فأخرج بذلك المطر مما أنبتوه في الأرض من زرعهم وغرسهم ثمرات رزقا لهم غذاءً وأقواتا. فنبههم بذلك على قدرته وسلطانه، وذكرهم به آلاءه لديهم، وأنه هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم ويكفلهم دون من جعلوه له نِدّا وعِدْلاً من الأوثان والاَلهة.
ثم زجرهم عن أن يجعلوا له ندّا مع علمهم بأن ذلك كما أخبرهم، وأنه لا ندّ له ولا عدل، ولا لهم نافعٌ ولا ضارّ ولا خالقٌ ولا رازق سواه...
"فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا": والأنداد، جمع ندّ، والندّ: العِدْل والمِثْل. عن قتادة: "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا" أي عدلاء.
عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا" قال: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله... قال ابن زيد في قول الله: "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادا" قال: الأنداد: الاَلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له.
[و] عن ابن عباس في قوله: "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا" قال: أشباها.
فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئا، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له ندا وعدلاً في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتي التي أنعمتها عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكا وندّا من خلقي، فإنكم تعلمون أن كل نعمة عليكم منّي...
اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بهذه الآية،
فقال بعضهم: عني بها جميع المشركين، من مشركي العرب وأهل الكتاب.
وقال بعضهم: عني بذلك أهل الكتابين: التوراة، والإنجيل.
عن ابن عباس، قال: نزل ذلك في الفريقين جميعا من الكفار والمنافقين. وإنما عَنَى بقوله: "فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أنْدَادا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضرّ، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحقّ لا شك فيه...
[و] عن مجاهد: "وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" يقول: وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له في التوراة والإنجيل.
قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي دعا مجاهدا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنه خطاب لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم، الظنّ منه بالعرب أنها لم تكن تعلم أن الله خالقها ورازقها بجحودها وحدانية ربها، وإشراكها معه في العبادة غيره. وإن ذلك لقولٌ ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها أنها كانت تقرّ بوحدانيته، غير أنها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها، فقال جل ثناؤه: "وَلِئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ"... فالذي هو أولى بتأويل قوله: "وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" إذ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنه مبدع الخلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين. ولم يكن في الآية دلالة على أن الله جل ثناؤه عنى بقوله: "وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" أحد الحزبين، بل مخرج الخطاب بذلك عام للناس كافة لهم، لأنه تحدّى الناس كلهم بقوله: "يا أيّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ" أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه يشرك معه في عبادته غيره، كائنا من كان من الناس، عربيا كان أو أعجميا، كاتبا أو أميا، وإن كان الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين كانوا حوالي دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل النفاق منهم وممن بين ظهرانيهم ممن كان مشركا فانتقل إلى النفاق بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قدّم سبحانه من موجبات عبادته وملزمات حق الشكر له:
خلقهم أحياء قادرين أوّلاً؛ لأنه سابقة أصول النعم ومقدمتها، والسبب في التمكن من العبادة والشكر وغيرهما،
ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرّهم الذي لا بدّ لهم منه، وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلبه ومفترشه،
ثم خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار،
ثم ما سوّاه عزّ وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها. والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان من ألوان الثمار رزقاً لبني آدم، ليكون لهم ذلك معتبراً: ومتسلقاً إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف؛ ونعمة يتعرفونها فيقابلونها بلازم الشكر، ويتفكرون في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وتحتهم، وأن شيئاً من هذه المخلوقات كلها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقنوا عند ذلك أن لا بدّ لها من خالق ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات له أنداداً وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر.
ومعنى جعلها فراشاً وبساطاً ومهاداً للناس: أنهم يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلب أحدهم على فراشه وبساطه ومهاده...
فإن قلت: ما معنى إخراج الثمرات بالماء وإنما خرجت بقدرته ومشيئته؟ قلت: المعنى أنه جعل الماء سبباً في خروجها ومادّة لها، كماء الفحل في خلق الولد، وهو قادر على أن ينشئ الأجناس كلها بلا أسباب ولا موادّ كما أنشأ نفوس الأسباب والموادّ، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجاً لها من حال إلى حال، وناقلاً من مرتبة إلى مرتبة حكماً ودواعي يجدد فيها لملائكته والنظار بعيون الاستبصار من عباده عبرا وأفكاراً صالحة، وزيادة طمأنينة، [وسكونا] إلى عظيم قدرته وغرائب حكمته، ليس ذلك في إنشائها بغتة من غير تدريج وترتيب...
فإن قلت: كانوا يسمون أصنامهم باسمه ويعظمونها بما يعظم به من القرب، وما كانوا يزعمون أنها تخالف الله وتناويه. قلت: لما تقرّبوا إليها وعظموها وسموها آلهة، أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة مثله، قادرة على مخالفته ومضادّته، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم. كما تهكم بهم بلفظ الندّ، شنع عليهم واستفظع شأنهم بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصح أن يكون له ندّ قط.
فإن قلت: ما معنى {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}. قلت: معناه: وحالكم وصفتكم أنكم من صحة تمييزكم بين الصحيح والفاسد، والمعرفة بدقائق الأمور وغوامض الأحوال، والإصابة في التدابير، والدهاء والفطنة، بمنزل لا تدفعون عنه. وهكذا كانت العرب، خصوصاً ساكنو الحرم من قريش وكنانة، لا يصطلي بنارهم في استحكام المعرفة بالأمور وحسن الإحاطة بها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
واختلف المتأولون من المخاطب بهذه الآية؟ فقالت جماعة من المفسرين: المخاطب جميع المشركين: فقوله على هذا: {وأنتم تعلمون} يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق وأنزل الماء وأخرج الرزق، ولم تنف الآية الجهالة عن الكفار.
وقيل المراد كفار بني إسرائيل، فالمعنى تعلمون من الكتب التي عندكم أن الله لا ند له.
وقال ابن فورك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين. فالمعنى لا ترتدوا أيها المؤمنون، وتجعلوا لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد.
وهذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان بنعمه هذه عن كل مخلوق، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله بسبب الحرص والأمل والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرق من جعل لله نداً، عصمنا الله تعالى بفضله وقصر آمالنا عليه بمنه وطوله، لا رب غيره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهو تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنا مريحا وملجأ واقيا كالفراش.. والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه. ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش، وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع. ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة. ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة. ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت لهم الحياة!
فيها متانة البناء وتنسيق البناء. والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض، وبسهولة هذه الحياة. وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية اجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها، تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها. فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقدرة الخالق، وفضل الرازق، واستحقاق المعبود للعبادة من العبيد المخاليق.
(وأنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم)..
وذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به، ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله، والتذكير بنعمته كذلك.. والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعا. فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها (وجعلنا من الماء كل شيء حي).. سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض، أو كون الأنهار والبحيرات العذبة، أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية، التي تتفجر عيونا أو تحفر آبارا، أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى.
وقصة الماء في الأرض، ودوره في حياة الناس، وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها.. كل هذا أمر لا يقبل المماحكة، فتكفي الإشارة إليه، والتذكير به، في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب.
وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي: وحدة الخالق لكل الخلائق (الذي خلقكم والذين من قبلكم).. ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء. وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم).. فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان، وسماؤه مبنية بنظام، معينة بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس.. والفضل في هذا كله للخالق الواحد:
(فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)..
تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم. وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء. وأنه لم يكن له شريك يساعد، ولا ند يعارض. فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق!
والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة، قد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون. فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية. قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة، وفي الخوف من غير الله في أي صورة. وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة.. عن ابن عباس قال:"الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي. ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت! وقول الرجل: لولا الله وفلان.. هذا كله به شرك"... وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله [ص] ما شاء الله وشئت. قال: "أجعلتني لله ندا؟ "!
هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله.. فلننظر نحن أين نحن من هذه الحساسية المرهفة، وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.والمعنى لا تثبتوا لله أنداداً تجعلونها جعلاً وهي ليست أنداداً. وسماها أنداداً تعريضاً بزعمهم لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون إن الآلهة شفعاء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية: « لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك» لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادة الله، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة بالفعل لا بالقول. وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال.
جواهر التفسير للخليلي 2001 هـ :
... وما أدق هذه التفاسير المأثورة عن السلف الصالح رضي الله عنهم في معنى الأنداد، وما أعزب فهم كثير من الناس عنها، فلعلهم يتصورون ان اتخاذهم الأنداد لا يعدو عبادة الأصنام المنحوتة من الأحجار، ولا يدركون أن الأمر أعم منه، فقد تكون أصنام البشر أضر من أصنام الحجر إذا ما عُظِّم الطواغيت وانقادت لهم الناس، وخضعوا لأحكامهم الجائرة، وآثروا ضلالهم على هدى الله، ورددوا شعاراتهم الزائفة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يقصد بها إلا نقض عرى الدين وهدم صرح التوحيد، وإذا كان من شأن عقيدة التوحيد تطهير النفوس من الأوهام، وتزكية الأعمال بإخلاصها لله، فإن من شأنها أيضا تحرير الإِنسانية حتى لا تخضع لغير الله ولا تتحاكم إلى غير شرعه ولا تنقاد إلا لحكمه، ولا تذعن لغير طاعته، فلله الخلق ولله الأمر، وكل من تطاول فأمر بما يخالف أمره تعالى فهو متطاول على سلطان الله...