قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } . يعني الدين المرضي الصحيح كما قال ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) . وقال ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) وفتح الكسائي الألف من " إن الدين " رداً على أن الأولى تقديره ، شهد الله انه لا إله إلا هو ، وشهد أن الدين عند الله الإسلام . أو شهد الله أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو ، وكسر الباقون الألف على الابتداء ، والإسلام : هو الدخول في السلم ، وهو الانقياد والطاعة ، يقال : أسلم أي دخل في السلم واستسلم .
قال قتادة في قوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى . وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ، ودل عليه أولياءه ، فلا يقبل غيره ، ولا يجزي إلا به .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو اسحق الثعلبي ، أنا أبو عمرو الفراوي ، أنا موسى عمران بن موسى ، أنا الحسن بن سفيان ، أنا عمار بن عمرو بن المختار ، حدثني أبي عن غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش وكنت أختلف إليه ، فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة ، فإذا الأعمش قائم من الليل يتهجد فمر بهذه الآية ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي عند الله وديعة ( إن الدين عند الله الإسلام ) قالها مراراً ، قلت : لقد سمع فيها شيئاً ، فصليت الصبح معه وودعته ثم قال : إني سمعتك تقرأ آية ترددها فما بلغك فيها ؟ قال لي : أو ما بلغك ما فيها ؟قلت : أنا عند منذ سنتين لم تحدثني ، قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة ، فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة ، فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد ، قد مضت السنة . قال : حدثني أبو وائل ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : إن لعبدي هذا عندي عهداً ، وأنا أحق من وفي بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة " .
قوله تعالى : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } . قال الكلبي : نزلت في اليهود والنصارى ، حين تركوا الإسلام ، أي وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { إلا من بعد ما جاءهم العلم } . يعني بيان نعته في كتبهم . وقال الربيع بن أنس : إن موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلاً من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة ، واستخلف يوشع بن نون ، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم ، وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين ، حتى أهرقوا بينهم الدماء ، ووقع الشر والاختلاف ، وذلك من بعد ما جاءهم العلم يعني بيان ما في التوراة .
قوله تعالى : { بغياً بينهم } . أي طلباً للملك والرياسة فسلط الله عليهم الجبابرة . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت في نصارى نجران ومعناها : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ( يعني الإنجيل ) في أمر عيسى عليه السلام ، وفرقوا القول فيه ( إلا من بعد ما جاءهم العلم ) . بأن الله واجد ، وأن عيسى عبده ورسوله ( بغياً بينهم ) أي للمعاداة والمخالفة ( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) .
ولما قرر أنه الإله الحق المعبود ، بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له ، وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله ، وحثت عليها كتبه ، وهو الذي لا يقبل من أحد دينا سواه ، وهو متضمن للإخلاص له في الحب والخوف والرجاء والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك ، وهذا هو دين الرسل كلهم ، وكل من تابعهم فهو على طريقهم ، وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله ، بغيا بينهم ، وظلما وعدوانا من أنفسهم ، وإلا فقد جاءهم السبب الأكبر الموجب أن يتبعوا الحق ويتركوا الاختلاف ، وهذا من كفرهم ، فلهذا قال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } فيجازي كل عامل بعمله ، وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته ، فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الأليم .
وقوله { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى . وأصل الدين فى اللغة الجزاء والحساب . يقال دنته بما صنع أى جازيته على صنيعه ، ومنه قولهم : كما تدين تدان أى ، كما تفعل تجازى ، وفي الحديث " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " والمراد به هنا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه من عقائد وتكاليف وتشريعات ، فيكون بمعنى الملة والشرع .
أى : إن الشريعة المرضية عند الله - تعالى - هى الإسلام ، والإسلام في اللغة هو الاستسلام والانقياد يقال : أسلم أى انقاد واستسلم . وأسلم أمره لله سلمه إليه والمراد به هنا - كما قال ابن جرير : " شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله الذى شرعه لنفسه وبعث به رسله ، ودل عليه أولياءه ، لا يقبل غيره ولا يجزى بالإحسان إلا به " وهو الدين الحنيف الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن كثير : وقوله - تعالى - { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } إخبار منه تعالى - بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله تعالى - بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال - تعالى - { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ منه } الآية . وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام } وقوله : { عِندَ الله } ظرف العامل فيه لفظ الدين لما تضمنه من معنى الفعل ، أى الذى شرع عند الله الإسلام . ويصح أن يكون صفى للدين فيكون متعلقا بمحذوف أى الكائن أو الثابت عند الله الإسلام . وفى إضافة الدين إلى الله - تعالى - بقوله { عِندَ الله } وباعتبار الإسلام وحده ، هو دين الله ، كما يدل على ذلك تعريف الطرفين ، إشعار بفضل الإسلام ، لأن له ذلك الشرف الإضافى إلى خالق هذا الكون ومربيه ، فهو دين الله الذى شرعه لخلقه .
ثم بين - سبحانه - أن اختلاف أهل الكتاب في شأن الدين الحق لم يكن عن جهل منهم بالحقائق وإنما كان سببه البغى والحسد وطلب الدنيا فقال - تعالى - { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ } .
أى : وما كان خلاف الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى فيما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من بعد أن علموا بأن ما جاءهم به هو الحق الذي لا باطل معه ، فخلافهم لم يكن عن جهل منهم بأن ما جاءهم به هو الحق وإنما كان سبه البغي والحسد والظلم فيما بينهم .
وفي التعبير عنهم بأنهم { أُوتُواْ الكتاب } زيادة تقبيح لهم ؛ فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وأفحش ، إذ الكتاب ما نزل إلا لهدايتهم ، وسعادتهم فإذا تركوا بشاراته وتوجيهاته واتبعوا أهواءهم كان فعلهم هذا أشد قبحا وفحشا .
وقوله { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } زيادة أخرى في تقبيح أفعالهم ، فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القبح والعناد .
والاستثناء من أعم الأحوال أو الأوقات ، أى وما اختلفوا في حال من الأحوال أو فى وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا الحق ، والعلم بالحق وحده لا يكفي في الإيمان به ، ولكنه يحتاج إلى جانب ذلك إلى قلب مخلص متفتح لطلبه ، وكم من أناس يعرفون الحق معرفة تامة ولكنهم يحاربونه ويحاربون أهله ، لأنهم يرون أن هذا الحق يتعارض مع أهوائهم وشهواتهم وصدق الله إذ يقول . { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فهم قد اختلفوا في الحق مع عملهم بأنه حق ، لأن العلم كالمطر ، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية ، وكذلك لايستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية ، والقلوب الواعية ، والأفئدة المستقيمة .
وقوله { بَغْياً بَيْنَهُمْ } مفعول لأجله ، والعامل فيه اختلف أى وما اختلفوا إلا للبغى لا لغيره قال القرطبي : " وفي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى ، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التهديد الشديد فقال : { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } . أى : ومن يكفر بآيات الله الدالة على وحدانيته - سبحانه - فإن الله محص عليه أعماله في الدنيا وسيعاقبه بما يستحقه في الآخرة .
فقوله { فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } قائم مقام جواب الشرط وعلة له ، أي : ومن يكفر بآيات الله فإنه - سبحانه - محاسبه ومعاقبه والله سريع الحساب .
وسرعة الحساب تدل على سرعة العقاب ، وعلى العلم الكامل والقدرة التامة فهو - سبحانه - لا يحتاج إى فحص وبحث ، لأنه لا تخفى عليه خافية .
وقوله : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين ، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته ، فليس بمتقبل . كما قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ{[4902]} غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ]{[4903]} } [ آل عمران : 85 ] وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ }
ثم قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : من جحد بما أنزل{[4904]} الله في كتابه فإن الله سيجازيه على ذلك ، ويحاسبه على تكذيبه ، ويعاقبه على مخالفته كتابه{[4905]}
قد تقدم ذكر اختلاف القراء في كسر الألف من { إن الدين } وفتحها ، و{ الدين } في هذه الآية الطاعة والملة ، والمعنى ، أن الدين المقبول أو النافع أو المقرر ، و{ الإسلام } في هذه الآية هو الإيمان والطاعة ، قاله أبو العالية وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان .
قال أبو محمد رحمه الله : ومرادهما ، أنه من الأعمال ، و{ الإسلام } هو الذي سأل عنه جبريل النبي عليه السلام حين جاء يعلم الناس دينهم الحديث{[3032]} وجواب النبي له في الإيمان والإسلام يفسر ذلك ، وكذلك تفسيره قوله عليه السلام : بني الإسلام على خمس ، الحديث{[3033]} ، وكل مؤمن بنبيه ملتزم لطاعات شرعه فهو داخل تحت هذه الصفة ، وفي قراءة ابن مسعود «إن الدين عند الله للإسلام » باللام{[3034]} ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب ، أنه كان على{[3035]} علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا ، قاله ابن عمر وغيره .
و { والذين أوتوا الكتاب } لفظ يعم اليهود والنصارى ، لكن الربيع بن أنس قال ، المراد بهذه الآية اليهود{[3036]} ، وذلك أن موسى عليه السلام ، لما حضرته الوفاة ، دعا سبعين حبراً من أحبار{[3037]} بني إسرائيل فاستودعهم التوراة ، عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع بن نون فلما مضت ثلاثة قرون ، وقعت الفرقة بينهم ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المراد بهذه الآية النصارى ، وهي توبيخ لنصارى نجران ، و{ بغياً } نصب على المفعول من أجله أو على الحال من { الذين } ثم توعد عز وجل الكفار ، وسرعة الحساب يحتمل أن يراد بها سرعة مجيء القيامة والحساب إذ هي متيقنة الوقوع ، فكل آت قريب ويحتمل أن يراد بسرعة الحساب أن الله تعالى بإحاطته بكل شيء علماً لا يحتاج إلى عد ولا فكرة ، قاله مجاهد .