المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

146- وكم من الأنبياء قاتل مع كل منهم كثيرون من المؤمنين المخلصين لربهم ، فما جبنت قلوبهم ولا فترت عزائمهم ، ولا خضعوا لأعدائهم بسبب ما أصابهم في سبيل الله ، لأنهم في طاعته ، والله يثيب الصابرين على البلاء .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

قوله تعالى : { و كأين من نبي قاتل معه ربيون كثير } . قرأ ابن كثير وكائن بالمد والهمزة على وزن كاعن ، وبتليين الهمزة أبو جعفر ، وقرأ الآخرون " و كأين " بالهمزة والتشديد على وزن كعين ، ومعناه : وكم ، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهامية ، ولم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة ، ويقف بعض القراء على وكأين بلا نون ، والأكثرون على الوقوف بالنون ، قوله قاتل : قرأ ابن كثير ، و نافع ، وأهل البصرة ، بضم القاف ، وقرأ الآخرون ( قاتل ) فمن قرأ ( قاتل ) فلقوله : فما وهنوا . ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعدما قتلوا ، لقول سعيد بن جبير :ما سمعنا أن نبياً قتل في القتال ، ولأن قاتل أعم . قال أبو عبيد : إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه غيرهم ، فكان قاتل أعم . ومن قرأ قتل فله ثلاثة أوجه : أحدهما أن يكون القتل راجعاً إلى النبي وحده ، فيكون تمام الكلام عند قوله قتل ، ويكون في الآية إضمار معناه ومعه ربيون كثير ، كما يقال : قتل فلان معه جيش كثير ، أي ومعه . والوجه الثاني : أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين ، ويكون المراد : بعض من معه ، تقول العرب قتلنا بني فلان ، وإنما قتلوا بعضهم ، ويكون قوله ( فما وهنوا ) راجعاً إلى الباقين . والوجه الثالث : أن يكون القتل للربيين لا غير . وقوله ( ربيون كثير ) قال ابن عباس ومجاهد وقتاده : جموع كثيرة ، وقال ابن مسعود : الربيون الألوف وقال الكلبي : الربية الواحدة عشرة آلاف ، وقال الضحاك : الربية الواحدة : ألف ، وقال الحسن : فقهاء علماء وقيل :هم الأتباع ، والربانيون والربيون ولاة الرعية وقيل : منسوب إلى الرب ، وهم الذين يعبدون الرب .

قوله تعالى : { فما وهنوا } . أي فما جبنوا .

قوله تعالى : { لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا } . عن الجهاد بما نالهم من ألم الجراح ، وقتل الأصحاب . قوله تعالى : { وما استكانوا } . قال مقاتل : وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم ، وقال السدي : وما ذلوا ، وقال عطاء : وما تضرعوا ، وقال أبو العالية : وما جبنوا ولكن صبروا على أمر ربهم ، وطاعة نبيهم ، وجهاد عدوهم .

قوله تعالى : { والله يحب الصابرين } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

هذا تسلية للمؤمنين ، وحث على الاقتداء بهم ، والفعل كفعلهم ، وأن هذا أمر قد كان متقدما ، لم تزل سنة الله جارية بذلك ، فقال : { وكأين من نبي } أي : وكم من نبي { قاتل معه ربيون كثير } أي : جماعات كثيرون من أتباعهم ، الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة ، فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك .

{ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا } أي : ما ضعفت قلوبهم ، ولا وهنت أبدانهم ، ولا استكانوا ، أي : ذلوا لعدوهم ، بل صبروا وثبتوا ، وشجعوا أنفسهم ، ولهذا قال : { والله يحب الصابرين }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

ثم بين - سبحانه - ما كان عليه أتباع الأنبياء السابقين من إيمان عميق ، وعزم وثيق ، حتى يتأسى بهم كل ذى عقل سليم ، فقال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا } .

وكلمة { وَكَأَيِّن } مركبة من كاف التشبيه وأى الاستفهامية المنونة ، ثم هجر معنى جزأيها وصارت كلمة واحدة بمعنى كم الخبرية الدالة على الكثير .

ويكنى بها عن عدد مبهم فتفتقر إلى تمييز بعدها وهى مبتدأ : وجملة { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ } خبرها .

والربيون جمع ربى ، وهو العالم بربه ، الصادق فى إيمانه به ، الملخص له فى عبادته نسبة إلى الرب كالربانى .

قال القرطبى ما ملخصه : والربيون - بكسر الراء - قراءة الجمهور . وقرأها بعضهم بضم الراء وقرأها بعضهم بفتحها والربيون : الجماعة الكثيرة نسبة إلى الربة - بكسر الراء وضمها - وهى الجماعة . . ومنه يقال للخرقة التى تجمع فيها القداح : ربة . وربة والرباب : قبائل تجمعت .

وقال ابن عباس : ربيون - بفتح الراء - منسوب إلى الرب .

وقال الخليل : الربى - بكسر الراء - الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء ، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله - تعالى - . وقوله { فَمَا وَهَنُواْ } من الوهن وهو اضطراب نفسى ، وانزعاج قلبي ، يبتدىء من داخل الإنسان ، فإذا وصل إلى الخارج كان ضعفاً وتخاذلا .

والمعنى : وكثير من الأنبياء قاتل معهم مؤمنون صادقو الإيمان من أجل إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه وأصيبوا وهم يقاتلون بما أصيبوا من جراح وآلام ، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } أى فما عجزوا أو جبنوا بسبب ما أصابهم من جراح ، أو ما أصاب أنبياءهم وإخوانهم من قتل واستشهاد . لأن الذى أصابهم إنما هو فى سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ، ونصرة رسله .

وقوله { وَمَا ضَعُفُواْ } أى : عن قتال أعدائهم وعن الدفاع عن الذى آمنوا به وقوله { وَمَا استكانوا } أى ما خضعوا وذلوا لأعدائهم .

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد نفى عن هؤلاء المؤمنين الصادقين ثلاثة أوصاف لا تتفق مع الإيمان .

نفى عنهم - أولا - الوهن وهو اضطراب نفسى ، وهلع قلبى ، يستولى على الإنسان فيفقده ثباته وعزيمته .

ونفى عنهم - ثانيا - الضعف الذى هو ضد القوة ، وهو ينتج عن الوهن .

ونفى عنهم - ثالثاً - الاستكانة وهى الرضا بالذل والخضوع للاعداء ليفعلوا بهم ما يريدون .

وقد نفى - سبحانه - هذه الأوصاف الثلاثة عن هؤلاء المؤمنين الصادقين مع أن واحداً منها يكفى نفيه لنفيها لأنها متلازمة - وذلك لبيان قبح ما يقعون فيه من أضرار فيما لو تمكن واحد من هذه الأوصاف من نفوسهم .

وجاء ترتيب هذه الأوصاف فى نهاية الدقة بحسب حصولها فى الخارج ، فإن الوهن الذى هو خور فى العزيمة إذا تمكن من النفس أنتج الضعف الذى هو لون من الاستسلام والفشل .

ثم تكون بعدهما الاستكانة التى يكون معها الخضوع لكل مطالب الأعداء وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة فى حياته كان الموت أكرم له من هذه الحياة .

وقوله { والله يُحِبُّ الصابرين } تذييل قصد به حض المؤمنين على تحمل المكاره وعلى مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره من أجل إعلاء دينهم حتى يفوزوا برضا الله ورعايته كما فاز أولئك الأنقياء الأوفياء .

أى والله - تعالى - يحب الصابرين على آلام القتال ، ومصاعب الجهاد ، ومشاق الطاعات ، وتبعات التكاليف التى كلف الله - تعالى - بها عباده .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

ثم قال تعالى - مسليًا للمسلمين{[5800]} عما كان وقع في نفوسهم يوم أُحُد - : { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } قيل : معناه : كم من نبي قُتِل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير . وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، فإنه قال : وأما الذين قرؤوا : { قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } فإنهم قالوا : إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم ، وإنما نفي الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل .

قال : ومن قرأ { قَاتَلَ } فإنه اختار ذلك لأنه قال : لو قتلوا{[5801]} لم يكن لقوله : { فَمَا وَهَنُوا } وجه معروف ؛ لأنهم يستحيل أن يُوصَفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا .

ثم اختار قراءة من قرأ { قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } ؛ لأن الله [ تعالى ] {[5802]} عاتب بهذه الآيات والتي{[5803]} قبلها من انهزم يوم أحد ، وتركوا القتال أو سمعوا الصائح يصيح : " إن{[5804]} محمدا قد قتل " . فعذلهم الله على فرارهم وترْكِهم القتال فقال لهم : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ } أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم ؟ .

وقيل : وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير{[5805]} .

وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولا آخر ، [ فإنه ]{[5806]} قال : أي وكأين من نبي أصابه القتل ، ومعه ربيون ، أي : جماعات فما وهنوا بعد نبيهم ، وما ضعفوا عن عدوهم ، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم ، وذلك الصبر ، { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } .

فجعل قوله : { مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } حالا وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه ، وله اتجاه لقوله : { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ } الآية ، وكذلك حكاه الأموي في مغازيه ، عن كتاب محمد بن إبراهيم ، ولم يقل {[5807]} غيره .

وقرأ بعضهم : { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } قال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن ابن

مسعود { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي : ألوف .

وقال ابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جُبَير ، وعِكْرِمة ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، والرَّبِيع ، وعطاء الخراساني : الربيون : الجموع الكثيرة .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن الحسن : { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي : علماء كثير ، وعنه أيضًا : علماء صبر أبرار أتقياء .

وحكى ابن جرير ، عن بعض نحاة البصرة : أن الربيين هم الذين يعبدون الرب ، عز وجل ، قال : ورد بعضهم عليه قال : لو كان كذلك لقيل رَبيون ، بفتح الراء .

وقال ابن زيد : " الربيون : الأتباع ، والرعية ، والربابيون :{[5808]} الولاة .

{ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا } قال قتادة والربيع بن أنس : { وَمَا ضَعُفُوا } بقتل نبيهم { وَمَا اسْتَكَانُوا } يقول : فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم ، أنْ قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله .

وقال ابن عباس { وَمَا اسْتَكَانُوا } تَخَشَّعوا . وقال السُّدِّي وابن زيد : وما ذلوا لعدوهم .

وقال محمد بن إسحاق ، وقتادة والسدي : أي ما أصابهم ذلك حين قُتِل نبيهم . { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }


[5800]:في جـ، ر، أ، و: "للمؤمنين".
[5801]:في جـ: "لأنه لو قتلوا"، وفي ر: "فإنه قال لو قتلوا".
[5802]:زيادة من و.
[5803]:في و: "الذي".
[5804]:في ر: "بأن".
[5805]:في و: "وقيل: وكم من نبي قتل معه ربيون كثير".
[5806]:زيادة من جـ.
[5807]:في جـ، أ، و: "ولم يحك".
[5808]:في جـ، ر: "الربانيون".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

{ وكأين } أصله أي دخلت الكاف عليها وصارت بمعنى كم والنون تنوين أثبت في الخط على غير قياس . وقرأ ابن كثير " وكائن " ككاعن ووجهه أنه قلب قلب الكلمة الواحدة كقولهم وعملي في لعمري ، فصار كأين ثم حذفت الياء الثانية للتخفيف ثم أبدلت الياء الأخرى ألفا كما أبدلت من طائي { من نبي } بيان له . { قاتل معه ربيون كثير } ربانيون علماء أتقياء ، أو عابدون لربهم . وقيل جماعات والربى منسوب إلى الربة وهي الجماعة للمبالغة . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب { قتل } ، وإسناده إلى { ربيون } أو ضمير النبي و{ معه ربيون } حال منه ويؤيد الأول أنه قرئ بالتشديد وقرئ { ربيون } بالفتح على الأصل وبالضم وهو من تغييرات النسب كالكسر . { فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله } فما فتروا ولم ينكسر جدهم لما أصابهم من قتل النبي أو بعضهم . { وما ضعفوا } عن العدو أو في الدين . { وما استكانوا } وما خضعوا للعدو وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده ، والألف من إشباع الفتحة أو استكون من الكون لأنه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له ، وهذا تعريف بما أصابهم عند الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام { والله يحب الصابرين } فينصرهم ويعظم قدرهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

عطف على قوله : { ومن ينقلب على عقبيه } [ آل عمران : 144 ] الآية وما بينهما اعتراض ، وهو عطف العبرة على الموعظة فإنّ قوله : { ومن ينقلب عقبيه } موعظة لمن يَهِمّ بالانقلاب ، وقولَه : { وكأين من نبي قاتل } عبرة بما سلف من صبر أتباع الرسل والأنبياء عند إصابة أنبيائهم أو قتلهم ، في حرب أو غيره ، لمماثلة الحالين . فالكلام تعريض بتشبيه حال أصحاب أحُد بحال أصحاب الأنبياء السالفين لأنّ مَحَلّ المثل ليس هو خصوص الانهزام في الحرب بل ذلك هو الممثل . وأمَّا التَّشبيه فهو بصير الأتباع عند حلول المصائب أو موت المتبوع .

« وكأيّن » كلمة بمعنى التكثير ، قيل : هي بسيطة موضوعة للتكثير ، وقيل : هي مركّبة من كاف التَّشبيه وأي الاستفهامية وهو قول الخليل وسيبويه ، وليست ( أيّ ) هذه استفهاماً حقيقيّاً ، ولكنّ المراد منها تذكير المستفهم بالتكثير ، فاستفهامها مجازي ، ونونها في الأصل تنوين ، فلمّا ركّبت وصارت كلمة واحدة جعل تنوينها نوناً وبُنيت . والأظهر أنَّها بسيطة وفيها لغات أرْبع ، أشهرها في النثر كأيِّن بوزن كعَيِّن ( هكذا جرت عادة اللغويين والنحاة إذا وزنوا الكلمات المهموزة أن يعوّضوا عن حرف الهمزة بحرف العين لئلا تلتبس الهمزة بالألف أو الياء الَّتي تكتب في صورة إحداهما ) ، وأشهرها في الشِعْر كائن بوزن اسم فاعل كان ، وليست باسم فاعل خلافاً للمبرّد ، بل هي مخفّف كأيِّن .

ولهم في كيفية تخفيفها توجيهات أصلها قول الخليل لمّا كثر استعمالها تصرّف فيها العرب بالقلب والحذف في بعض الأحوال . قلت : وتفصيله يطول . وأنا أرى أنَّهم لمّا راموا التَّخفيف جعلوا الهمزة ألفاً ، ثمّ التقى ساكنان على غير حدّه ، فحذفوا الياء الساكنة فبقيت الياء المكسورة فشابهت اسم فاعل ( كان ) فجعلوها همزة كالياء الَّتي تقع بعد ألف زائدة ، وأكثر ما وقع في كلام العرب هو كاين لأنَّها أخف في النظم وأسعد بأكثر الموازين في أوائل الأبيات وأواسطها بخلاف كائن ، قال الزجاج : اللغتان الجيّدتان كايِّن وكائن . وحكى الشَّيخ ابن عرفة في تفسيره عن شيخه ابن الحباب قال : أخبرنا شيخنا أحمد بن يوسف السلمي الكناني ، قال : قلت لشيخنا ابن عصفور : لِم أكثرت في شرحك للإيضاح من الشواهد على كائن ؟ فقال : لأنِّي دخلت على السلطان الأمير المستنصر ( يعني محمد المستنصر ابن أبي زكرياء الحفصي والظاهر أنَّه حينئذ ولّي العهد ) فوجدت ابن هشام ( يعني محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي نزيل تونس ودفينها المتوفّى سنة 646 ) فأخبرني أنَّه سأله عمَّا يحفظ من الشواهد على قراءة كايِّن فلم يستحضر غير بيت الإيضاح :

وكائن بالأباطح من صديق *** يراني لو أُصِبت هو المصابا

قال ابن عصفور : فلمَّا سألني أنا قلت : أحفظ فيها خمسين بيتاً فلمَّا أنشدته نحو عشرة قال : حسبك ، وأعطاني خمسين ديناراً ، فخرجت فوجدت ابن هشام جالساً بالباب فأعطيته نصفها .

وقرأ الجمهور { وكأيِّن } بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء تحتية مشدّدة بعد الهمزة ، على وزن كلمة { كصَيِّب } وقرأه ابن كثير { كَائن } بألف بعد الكاف وهمزة مكسورة بعد الألف بوزن كَاهِن .

والتكثير المستفاد من { كأيّن } واقع على تمييزها وهو لفظ ( نبيء ) فيحتمل أن يكون تكثيراً بمعنى مطلق العدد ، فلا يتجاوز جمع القلّة ، ويحتمل أن يكون تكثيراً في معنى جمع الكثرة ، فمنهم من علمناه ومنهم من لم نعلمه ، كما قال تعالى : { ومنهم من لم نقصص عليك } ، ويحضرني أسماء ستة مِمَّن قتل من الأنبياء : أرمياء قتلته بنو إسرائيل ، وحزقيال قتلوه أيضاً لأنَّه وبّخهم على سوء أعمالهم ، وأشعياء قتله منسا بن حزقيال ملك إسرائيل لأنَّه وبّخه ووعظه على سوء فعله فنشره بمنشار ، وزكرياء ، ويحيى ، قتلتهما بنو إسرائيل لإيمانهما بالمسيح ، وقتل أهلُ الرسّ من العرب نبيئهم حنظلة بن صفوان في مدّة عدنان ، والحواريّون اعتقدوا أنّ المسيح قُتل ولم يهنوا في إقامة دينه بعده ، وليس مراداً هنا وإنَّما العبرة بثبات أتباعه على دينه مع مفارقته لهم إذ العبرة في خلوّ الرسول وبقاء أتباعه ، سواء كان بقتل أو غيره . وليس في هؤلاء رسول إلاّ حنظلة بن صفوان ، وليس فيهم أيضاً من قُتِل في جِهادٍ ، قال سعيد بن جبير : ما سمعنا بنبيء قتل في القتال .

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو بكر عن عاصم : ( قُتل ) بصيغة المبنى للمجهول ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف ، وأبو جعفر : ( قَاتَلَ ) بصيغة المفاعلة فعلى قراءة ( قُتل ) بالبناء للمجهول فمرفوع الفعل هو ضمير نبيء ، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون مرفوع الفعلين ضميرَ نبيء فيكون قوله : { معه ربيون } جملة حاليَّة من ( نبيء ) ويجوز أن يكون مرفوع الفعلين لفظ ( ربّيّون ) فيكون قوله ( معه ) حالاً من ( ربّيّون ) مقدّماً .

وجاءت هذه الآية على هذا النظم البديع الصالح لحمل الكلام على تثبيت المسلمين في حال الهزيمة وفي حال الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الوجهين في موقع جملة { ومعه ربّيّون } يختلف حُسن الوقف على كلمة ( قتل ) أو على كلمة ( كثير ) .

و ( الرّبيُّون ) جمع ربيّ وهو المتّبع لشريعة الرّب مثل الربّاني ، والمراد بهم هنا أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء . ويجوز في رَائه الفتح ، على القياس ، والكسر ، على أنَّه من تغييرات النسب وهو الذي قرىء به في المتواتر .

ومحلّ العبرة هو ثبات الربّانيّين على الدّين مع موت أنبيائهم ودعاتهم .

وقوله : { كثير } صفة { ربّيّون } وجيء به على صيغة الإفراد ، مع أنّ الموصوف جمع ، لأنّ لفظ كثير وقليل يعامل موصوفهما معاملة لفظ شيءٍ أو عدد ، قال تعالى : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } [ النساء : 1 ] وقال : { ود كثير من أهل الكتاب } [ البقرة : 109 ] وقال : { اذكروا إذ أنتم قليل } [ الأنفال : 26 ] وقال : { إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً } [ الأنفال : 43 ] .

وقوله : { فما وهنوا } أي الربّيّون إذ من المعلوم أنّ الأنبياء لا يهنون فالقدوة المقصودة هنا ، هي الاقتداء بأتباع الأنبياء ، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء ، أجدر بالعزم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم

وجمع بين الوهن والضّعف ، وهما متقاربان تقارباً قريباً من الترادف ؛ فالوهن قلَّة القدرة على العمل ، وعلى النُّهوض في الأمر ، وفعله كوعَد وورِث وكرُم . والضّعف بضم الضّاد وفتحها ضدّ القوّة في البدن ، وهما هنا مجازان ، فالأوّل أقرب إلى خور العزيمة ، ودبيب اليأس في النُّفوس والفكر ، والثَّاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة . وأمّا الاستكانة فهي الخضوع والمذلّة للعدوّ . ومن اللطائف ترتيبها في الذّكر على حسب ترتيبها في الحصول : فإنَّه إذا خارت العزيمة فَشِلت الأعضاء ، وجاء الاستسلام ، فتبعته المذلّة والخضوع للعدوّ .

واعلموا أنَّه إذا كان هذا شأن أتباع الأنبياء ، وكانت النُّبوءة هدياً وتعليماً ، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم ، وأتباع الحقّ ، أن لا يوهنهم ، ولا يضعفهم ، ولا يخضعهم ، مقاومة مقاوم ، ولا أذى حاسد ، أو جاهل ، وفي الحديث الصّحيح ، في « البخاري » : أن خَبَّاباً قال للنَّبيء صلى الله عليه وسلم " لقد لقينا من المشركين شدّة ألاَ تدعُو الله " فقعد وهو محمّر وجهه فقال : " لقد كان مَن قبلكم لَيُمشَط بِمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضَع المنشار على مَفْرِق رأسه فيُشَقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه " الحديث .