الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

قوله : ( وَكأَيِّن( {[10995]} ) مِّن نَّبِيءٍ قُتِلَ ) الآية [ 146 ] .

قال الخليل : من قرأ كأين بهمزة بعد ألف وهي قراءة أهل مكة فإنما قدم الياء قبل الهمزة ثم جعلها ألفاً وسكنت الياء الثانية لأنها بعد همزة مكسورة .

وأما من قرأ وكأي فإنها عند الخليل ( أي ) : دخلت عليها كاف التشبيه فصار في الكلام معنى كم ، فيجب على قوله أن تقف بغير نون في قراءة الجماعة كما تقف على ( أي ) : وهو مذهب سيبويه( {[10996]} ) وكذلك حكى عن أبي عمرو ، والكسائي وروي عنهما الوقف على النون .

فمن وقف بالنون في هذه القراءة ، فإنما ذلك لأنه اتبع السواد وهو في المصحف بالنون على قراءة من قدم الألف قبل الهمزة وهي قراءة ابن كثير ومن قرأ : " قتل " ( {[10997]} ) : فالمعنى عند عكرمة أن القتل إخبار عما فعل بالأنبياء عليهم السلام ، وأنهم قتلوا فيما مضى ، وأن من كان معهم لم يضعف بعده( {[10998]} ) ولا تضعضع .

ثم أخبر عن قولهم بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وثباتهم على دينهم ، فيكون التمام( {[10999]} ) على هذا قتل( {[11000]} ) وفيه بعد لأن ما بعده من صفة نبي ويكون معنى الآية : أن الله وبخ بذلك أصحاب النبي الذين ضعفوا يوم أحد حين قيل : قتل محمد ! فأخبرهم أن كثيراً من الأنبياء قتلوا فلم يضعف من كان معهم ليتأسوا بهم( {[11001]} ) .

وقيل : المعنى أن الله عز وجل أخبر أنه قد قتل مع الأنبياء عليهم السلام ( رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ) فما وهن من بقي ولا ضعف ولا ذل ، فيتأسى المسلمون بهذا ، فلا يضعفون لما أصاب أصحابهم من القتل يوم أحد ، فلا يكون التمام على هذا قتل لأن " الربيون " ( {[11002]} ) مرفوع( {[11003]} ) بقتل ، والأول أحسن( {[11004]} ) لأن كعب( {[11005]} ) بن مالك قال : أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد( {[11006]} ) أنه لم يقتل : أنا ، رأيت عينيه تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ( {[11007]} ) إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن : اسكت( {[11008]} ) .

وكان قد صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد فانهزم المسلمون إلا قليلاً منهم ، فأنزل الله عز وجل ( وَكَأيِّن مِّن نَّبِيءٍ قُتِلَ ) أي : كثير من الأنبياء قتلوا فلم يضعف من كان بعده ولا ذل ، فكيف أردتم أيها المؤمنون أن تضعفوا حين سمعتم الشناعة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فتأسوا أيها المؤمنون بمن كان قبلكم من أصحاب الأنبياء صلوات الله عليهم( {[11009]} ) ، الربيين( {[11010]} ) .

وعلى تأويل اختار قوم من العلماء قراءة من قرأ قتل لأنهم عوقبوا على ضعف بعضهم لما سمعوا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم .

ومن قرأ قاتل حمله على معنى أنهم وهنوا لقتل أصحابهم وجراحم ، فأنزل الله عز وجل عليهم يعلمهم أن كثيراً من الأنبياء قاتل مع أصحابه وأتباعه ، فلم يضعفوا لما أصابهم من قتل وجراح فتأسوا بهم .

واختار بعض أهل اللغة قاتل لأنه أبلغ في المدح من قتل لأن الله تعالى إذا مدح من قاتل كان من قتل أدخل في المدح لأنه لم يقتل إلا بعد القتال ، فالقاتل والمقتول ممدوحان في قراءة من قرأ قاتل وهو إذا مدح من قتل فليس من قاتل ، ولم يقتل بالممدوح ، فقاتل أبلغ في المدح للجميع( {[11011]} ) .

" والربيون " الذين يعبدون الرب نسبوا إليه لعبادتهم إياه وإقرارهم له ، وهو معنى مروي عن الحسن وغيره .

واحدهم ربي منسوب إلى الرب ولكن كسرت الراء اتباعاً للكسرة التي بعدها كما قالوا( {[11012]} ) : نسي وعصي فكسروا الأول للاتباع( {[11013]} ) ، وقيل : الربانيون الجماعات( {[11014]} ) .

وقيل( {[11015]} ) : هم العلماء الألوف( {[11016]} ) .

قال ابن عباس : ربيون جموع كثيرة( {[11017]} ) .

وقال ابن جبير : علماء كثير( {[11018]} ) .

وقال الحسن : فقهاء وعلماء .

وقال ابن المبارك( {[11019]} ) : أتقياء صُبُر( {[11020]} ) .

وقال ابن زيد : الربانيون الأتباع ، والربانيون الولاة( {[11021]} ) .

وقيل الربانيون : منسوب إلى الرب أيضاً واحد ربي وزيدت الألف والنون للمبالغة كالنسبة إلى الجهة : جهاتي ثم جمع بعد الزيادة وقد مضى ذكره .

وقال ابن زيد : هذا عتاب من الله عز وجل لأصحاب النبي عليه السلام حين صاح إليهم( {[11022]} ) الشيطان يوم أُحد أن محمداً( {[11023]} ) قد قتل ، فارجعوا إلى عشائركم يؤمنوكم . وقرأ الحسن وعكرمة وأبو رجاء : رُبيون بضم الراء غُير أوله بالضم كما قالوا في النسب إلى الدهر دهري .

قوله : ( فَمَا وَهَنُوا ) أي : ما ضعفوا ، ولا عجزوا لما أصابهم من آلام الجراح ، وقتل أصحابهم : وقيل : لم يعجزوا لما أصابهم من قتل نبيهم صلى الله عليه وسلم ولا آلام جراحهم ، ولم يعجزوا عن القتال في سبيل الله تعالى بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم( {[11024]} ) .

والوهن أشد الضعف .

وكان سعيد بن جبير يقول : لم أسمع بنبي( {[11025]} ) قتل في الحرب( {[11026]} ) ، فلا يكون الوقف على قوله : قتل البتة .

قوله : ( وَمَا اسْتَكَانُوا )( {[11027]} ) أي : ما خشعوا لعدوهم بالدخول في دينهم ، ولكن مضوا على بصيرتهم في نصر دينهم وصبروا( {[11028]} ) . قال ابن اسحاق : ما وهنوا لفقد نبيهم ،

وما ضعفوا عن قتال عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الحرب( {[11029]} ) .


[10995]:- كأين هي: دخلت عليها كاف التشبيه وبنيت معها ثم كثر استعمالها فحصل من ذلك أربع لغات قرئ بها: (أ) كأين بتشديد الياء وهي قراءة الجمهور. (ب) كائن على وزن فاعل وهي قراءة أبي جعفر وابن كثير. (ج) وكأي بدون تنوين وهي قراءة أبي محيصن والأعمش (د) وكئن بدون ياء. انظر: معاني الزجاج 1/475 وإعراب النحاس 1/368 والمحتسب 1/178 ومختصر الشواذ 22 وحجة القراءات 1/175 والكشف 1/357 ومشكل الإعراب 1/175.
[10996]:- انظر: الكتاب 2/170 و3/151-338.
[10997]:- في قتل قراءتان وقتل: (أ) قاتل قراءة تنسب إلى عاصم وابن عامر وحمزة الكسائي. انظر: السبعة 217 والكشف 1/339. (ب) قتل بضم القاف فتنسب إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو ويعقوب وابن عباس وابن جبير. انظر: معاني الفراء 1/227 ومعاني الأخفش 1/423 والسبعة 217 والحجة 144.
[10998]:- (أ): بعده هم.
[10999]:- لعل الكلمة "الثبات" [المدقق].
[11000]:- اختاره الأخفش في معانيه 1/423 وهو وقف حسن عند ابن الأنباري في الإيضاح 2/585، وبه قال يعقوب ونافع وأبي عمرو. انظر: القطع 236، ومن قرأ قاتل فوقفه على ما استكانوا. انظر: القطع 237.
[11001]:- انظر: جامع البيان 4/117.
[11002]:- (أ) (د): الربيين.
[11003]:- (أ) (ب) (ج): مرفوعون.
[11004]:- أي الوقف على قتل.
[11005]:- كعب بن مالك الأنصاري الخزرجي توفي 50 هـ من شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم. أسد الغابة 4/187 وطبقات ابن سلام 1/183.
[11006]:- ساقط من (أ) (ج).
[11007]:- (ب) (د): أومي وهي لغة في أومأ اللسان 1/201 و15-415.
[11008]:- انظر: سيرة ابن هشام 2/83.
[11009]:- (أ) (ب) (د): صلى الله عليه وسلم.
[11010]:- كذا في كل النسخ.
[11011]:- انظر: حجة القراءات 175، والكشف 1/359.
[11012]:- (أ): قال.
[11013]:- في ربيون ثلاث قراءات (أ) ربيون بالكسر وهي قراءة الجمهور. (ب) ربيون بالفتح وهي قراءة ابن عباس فيما رواه قتادة. (ج) ربيون بالضم وهي قراءة علي وابن مسعود وعكرمة والحسن وأبو رجاء وهي لغة تميم. انظر: مختصر الشواذ 22 والمحتسب 1/173 واللسان 14/399.
[11014]:- هو اختيار الطبري. انظر: في جامع البيان 4/117.
[11015]:- هو اختيار الطبري المصدر السابق.
[11016]:- (أ): الألف.
[11017]:- انظر: جامع البيان 4/117-118.
[11018]:- انظر: المصدر السابق.
[11019]:- هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن المبارك المروازي توفي 181 هـ رجل صالح ثقة ثبت في الحديث حج وجاهد وألف وتاجر. انظر: تاريخ الثقات 275 طبقات الداودي 1/250.
[11020]:- صبر بضم الصاد والباء جمع صبور.
[11021]:- انظر: جامع البيان 419 في الجامع: قال: الربيون: الأتباع، والربانيون: الولاة. [المدقق].
[11022]:- كذا في جميع النسخ والصواب صح الشيطان وهي رواية الطبري. انظر: المصدر السابق.
[11023]:- (ج): محمد وهو خطأ.
[11024]:- انظر: جامع البيان 4/119.
[11025]:- (أ) (ج) (د): نبي.
[11026]:- انظر جامع البيان 4/119.
[11027]:- الاستكانة استفعال من السكون وهي الذلة والخضوع، اللسان 13/280.
[11028]:- انظر: تفسير الغريب 113 وانظر: جامع البيان 4/119.
[11029]:- انظر: جامع البيان 4/120.