الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ } . قرأ الحسن وأبو جعفر : ( كاين ) مقصوراً بغير همزة ولا تشديد حيث وقع .

وقرأ مجاهد وابن كثير وشيبة : ( وكأين ) مهموزاً ممدوداً مخففاً على وزن فاعل ، وهو اختيار أبي عبيد ، اعتباراً بقول أُبي بن كعب لزر بن حبيش : ( كاين ) بعد سورة الأحزاب . فقال : كذا آية .

وقرأ ابن محيصن : ( كأي ) ممدوداً بغير نون .

وقرأ الباقون : ( وكأيّن ) مشدوداً بوزن كعَيّن ، وهي لغة قريش واختيار أبي حاتم ، وكلها لغات معروفة بمعنى واحد .

وأنشد المفضل :

وكائن ترى في الحي من ذي صداقة *** و غيران يدعو ويله من حذاريا

وقال في التشديد :

كأين من أناس لم يزالوا *** أخوهم فوقهم وهم كرام

وجمع الآخر بين اللغتين ، فقال :

كأين أبدنا من عدوّ يغزنا *** وكأين أجرنا من ضعيف وخائف

ومعناه كم ، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهام ، ولم يقع التنوين صورة في الخط إلاّ في هذا الحرف خاصة .

{ قُتل } . قرأ قتادة وابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ( قتل ) : وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي حاتم .

وقرأ الآخرون : ( قاتل ) ، وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد ، فمن قرأ ( قاتل ) فلقوله : { فَمَا وَهَنُواْ } ويستحيل وصفهم بأنهم لم يُهنوا بعدما قُتلوا ، ولقول سعيد بن جبير : ما سمعنا أن نبياً قط قُتل في القتال .

وقال أبو عبيد : إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قُتل داخلا فيه ، وإذا حمد من قُتل خاصة لم يدخل فيه غيرهم ، فقاتل أعم .

ومن قرأ ( قتل ) فله ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون القتل واقعاً على النبي وحده ، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قراءة ( قتل ) فيكون في الآية اضمار معناه ومعه { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } كما يقال : قتل الأمير معه جيش عظيم ، أي ومعه ، ويقول : خرجت معي تجارة ، أي ومعي .

والوجه الثاني : أن يكون القتل نال النبي ومعه من الربيين ، ويكون وجه الكلام : قتل بعض من كان معه ، تقول العرب : قتلنا بني تميم وبني فلان ، وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله : { فَمَا وَهَنُواْ } راجعاً إلى الباقين الذين لم يقتلوا .

والوجه الثالث : أن يكون القتل للربيين لا غير .

{ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } ، قرأ ابن مسعود وأبو رجاء والحسن وعكرمة : ( رُبيون ) بضم الراء ، وهي لغة بني تميم .

الباقون : بالكسر ، وهي اللغة الفاشية [ العالية ] .

والربيون جمع الربّية وهي الفرقة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع .

السدي : جموع كثير .

قال حسان :

وإذا معشر تجافوا عن الحق *** حملنا عليهم رُبيا

ابن مسعود : الربيون الألوف ، الضحاك : الربية الواحدة ألف ، الكلبي : الربية الواحدة عشر ألف ، الحسن : فقهاً علماً صبراً ، ابن زيد : هم الأتباع ، والرابيون : هم الولاة ، والربيون : الرعية ، وقال بعضهم : هم الذين يعبدون الرب ، والعرب تنسب الشيء إلى الشيء فيغير حركته كما يقول بصريٌّ منسوب إلى بصرة ، فكذلك ربيّون منسوب إلى الربّ ، وقال بعضهم : مطيعون منيبون إلى الله فما وهنوا .

قرأه العامة : بفتح الهاء ، وقرأ قعتب أبو السماك العدوي : بكسر الهاء ، فمن فتحه فهو من وَهن يهن وهناً ، مثل وعد يعِد وعداً ، قاله المبرد وأنشد :

إن القداح إذا اجتمعن فرامَها *** بالكسر ذو جَلد وبطش أيد

عزّت ولم تكسر وإن هي بددت *** قالوهن والتكسير للمتبدد

ومن كسر فهو من وَهِن يهن ، مثل وَرِم يرم قاله أبو حاتم .

فقال الكسائي : هو من وهن يوهن وهناً ، مثل وجل يوجل وجلاً .

قال الشاعر :

طلب المعاش مفرق بين الأحبة والوطن *** ومصير جلد الرجال إلى الضّراعة والوهن

ومعنى الآية : فما ضعفوا عن الجهاد لما نالهم من ألم الجراح ، وقيل : الأصحاب وما عجزوا لقتل نبيّهم .

قال قتادة والربيع : يعني ما ارتدّوا عن بصيرتهم ودينهم ، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بالله ، السدي : وما ذلّوا ، عطاء : وما تضرّعوا ، مقاتل : وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم ، أبو العالية : وما جبنوا ، المفضل والقتيبي : وما خشعوا ، ومنه أخذ المسكين لذله وخضوعه وهو مفعيل منه ، مثل مِعطير من العِطر ومنديل من الندل ، وهو دفعه من واحد إلى آخر ، وأصل الندل السوق ، ولكنهم صبروا على أمر ربّهم وطاعة نبيّهم وجهاد عدوهم . { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }