فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

وقوله : { وَكَأَيّن } قال الخليل ، وسيبويه : هي ، " أي " دخلت عليها كاف التشبيه ، وثبتت معها ، فصارت بعد التركيب بمعنى " كم " ، وصوّرت في المصحف " نوناً " ، لأنها كلمة نقلت عن أصلها ، فغير لفظها لتغيير معناها ، ثم كثر استعمالها ، فتصرّفت فيها العرب بالقلب ، والحذف ، فصار فيها أربع لغات قرئ بها : أحدها : كائن مثل كاعن ، وبها قرأ ابن كثير ، ومثله قول الشاعر :

وَكَائِن بِالأبَاطِح مِن صَديق *** تراه لَوْ أصِبْتُ هو المُصَابَا

وقال آخر :

وَكائِن رَدَدْنا عنكم مِن مُدَجَّج *** بحي أمَامَ الرَّكْب يَرِدي مُقَنَّعا

وقال زهير :

وَكَائِنُ تَرى مِن مُعْجَبٍ لَكَ شَخْصه *** زَيَادته أوْ نَقْصه فِي التَّكلُمِ

{ وكأين } بالتشديد مثل كعين ، وبه قرأ الباقون ، وهو الأصل . والثالثة : كأين مثل كعين مخففاً . والرابعة كيئن بياء بعدها همزة مكسورة ، ووقف أبو عمرو بغير نون ، فقال كأي : لأنه تنوين ، ووقف الباقون بالنون . والمعنى : كثير من الأنبياء قتل معه ربيون قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب " قتل " على البناء للمجهول ، وهي قراءة ابن عباس ، واختارها أبو حاتم ، وفيه وجهان : أحدهما أن يكون في «قتل » ضمير يعود إلى النبيّ ، وحينئذ يكون قوله : { مَعَهُ رِبّيونَ } جملة حالية ، كما يقال : قتل الأمير معه جيش ، أي : ومعه جيش ، والوجه الثاني : أن يكون القتل ، واقعاً على ربيون ، فلا يكون في قتل ضمير ، والمعنى : قتل بعض أصحابه ، وهم الربيون .

وقرأ الكوفيون ، وابن عامر : { قاتل } وهي قراءة ابن مسعود ، واختارها أبو عبيد ، وقال : إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل ، ولم يقتل ، فقاتل أعمّ ، وأمدح ، ويرجح هذه القراءة الأخرى . والوجه الثاني من القراءة الأولى قول الحسن : ما قتل نبيّ في حرب قط ، وكذا قال سعيد بن جبير ، " والربيون " بكسر الراء قراءة الجمهور ، وقرأ عليّ بضمها ، وابن عباس بفتحها ، وواحده ربي بالفتح منسوب إلى الرب ، والربي بضم الراء ، وكسرها منسوب إلى الربة بكسر الراء ، وضمها ، وهي الجماعة ، ولهذا ، فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة ، وقيل : هم الأتباع ؛ وقيل : هم العلماء . قال الخليل : الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء ، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله ، والعبادة ، ومعرفة الربوبية . وقال الزجاج : الربيون بالضم : الجماعات . قوله : { فَمَا وَهَنُوا } عطف على قاتل ، أو قتل . والوهن : انكسار الجدّ بالخوف . وقرأ الحسن : «وهنوا » بكسر الهاء ، وضمها . قال أبو زيد : لغتان وهن الشيء يهن ، وهناً : ضعف ، أي : ما وهنوا لقتل نبيهم ، أو لقتل من قتل منهم . { وما ضعفوا } أي : عن عدوّهم { وَمَا استكانوا } لما أصابهم في الجهاد . والاستكانة : الذلة ، والخضوع ، وقرئ : «وما وهنوا وما ضعفوا » بإسكان الهاء ، والعين . وحكى الكسائي " ضعفوا " بفتح العين ، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم أُحد ، وذلّ ، واستكان ، وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان ، ولم يصنع ، كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل .

/خ148