{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً } سهلة لا يمتنع المشي فيها بالحزونة ، { فامشوا في مناكبها } قال ابن عباس وقتادة : في جبالها ، وقال الضحاك : في آكامها . وقال مجاهد : في طرقها وفجاجها . قال الحسن : في سبلها . وقال الكلبي : في أطرافها . وقال مقاتل : في نواحيها . وقال الفراء : في جوانبها ، والأصل في الكلمة الجانب ، ومنه منكب الرجل ، والريح النكباء ، وتنكب فلان . { وكلوا من رزقه } مما خلقه رزقاً لكم في الأرض . { وإليه النشور } أي : وإليه تبعثون من قبوركم .
{ 15 } { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }
أي : هو الذي سخر لكم الأرض وذللها ، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم ، من غرس وبناء وحرث ، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة ، { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } أي : لطلب الرزق والمكاسب .
{ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } أي : بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جعلها الله امتحانًا ، وبلغة يتبلغ بها إلى الدار الآخرة ، تبعثون بعد موتكم ، وتحشرون إلى الله ، ليجازيكم بأعمالكم الحسنة والسيئة .
ثم ذكر - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على عباده فقال : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور } .
والذلول : السهلة المذللة المسخرة لما يراد منها ؛ من مَشْي عليها ، أو غَرْس فيها ، أو بناء فوقها . . من الذِّل وهو سهولة الانقياد للغير ، ومنه قوله - تعالى - : { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ . . . } أي : غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض . .
والأمر في قوله : { فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا } للإباحة ، والمناكب جمع منكب ، وهو ملتقى الكتف مع العضد ، والمراد به هنا : جوانبها أو طرقها وفجاجها أو أطرافها
وهو مثل لفرط التذليل ، وشدة التسخير .
أي : هو - سبحانه - الذي جعل لكم - لفضله ورحمته - الأرض المتسعة الأرجاء ، مذللة مسخرة لكم ، لتتمكنوا من الانتفاع بها عن طريق المشي عليها ، أو البناء فوقها ، أو غرس النبات فيها .
وما دام الأمر كذلك فامشوا فى جوانبها وأطرافها وفجاجها ، ملتمسين رزق ربكم فيها ، وداوموا على ذلك ، ففي الحديث الشريف : " التمسوا الرزق في خبايا الأرض " .
والمراد بقوله : { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } الانتفاع بما فيها من وجوه النعم ، وعبر عنه بالأكل ، لأنه أهم وجوه الانتفاع .
فالآية الكريمة دعوة حارة للمسلمين لكي ينتفعوا بما في الأرض من كنوز ، حتى يستغنوا عن غيرهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم ، وسائر أمور معاشهم . . فإنه بقدر تقصيرهم في استخراج كنوزها ، تكون حاجتهم لغيرهم .
قال بعض العلماء : قال الإِمام النووي في مقدمة المجموع : إن على الأمة الإِسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجاتها حتى الإبرة ، لتستغني عن غيرها ، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإِنتاج .
وقد أعطى الله - تعالى - العالم الإِسلامى الأولوية في هذا كله ، فعليهم أن يحتلوا مكانهم ، ويحافظوا على مكانتهم ، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا .
وقد أفاض بعض العلماء في بيان معنى قوله - تعالى - : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً . . } فقال ما ملخصه : والناس لطول إلفهم لحياتهم على هذه الأرض وسهولة استقرارهم عليها . ينسون نعمة الله في تذليلها لهم وتسخيرها ، والقرآن يذكرهم هذه النعمة الهائلة ، ويبصرهم بها ، في هذا التعبير الذي يدرك منه كل أحد ، وكل جيل ، ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول .
والله - تعالى - جعل الأرض ذلولا للبشر من حيث جاذبيتها ، ومن حيث سطحها ، ومن حيث تكوينها ، ومن حيث إحاطة الهواء بها ، ومن حيث حجمها .
وقوله : { وَإِلَيْهِ النشور } معطوف على ما قبله ، لبيان أن مصيرهم إليه - تعالى - بعد قضائهم في الأرض المذللة لهم ، مدة حياتهم .
أي : وإليه وحده مرجعكم ، وبعثكم من قبوركم ، بعد أن قضيتم على هذه الأرض ، الأجل الذي قدره - سبحانه - لكم .
ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله إياها لهم ، بأن جعلها قارة ساكنة لا تمتد{[29112]} ولا تضطرب{[29113]} بما جعل فيها من الجبال ، وأنبع فيها من العيون ، وسلك فيها من السبل ، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار ، فقال : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا }
أي : فسافروا حيث شئتم من أقطارها ، وترددوا في أقاليمها وأرجائها ، في أنواع المكاسب والتجارات ، واعلموا أن سعيكم لا يجدي عليكم شيئًا ، إلا أن ييسره الله لكم ؛ ولهذا قال : { وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } ، فالسعي في السبب لا ينافي التوكل ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حَيْوَة ، أخبرني بكر بن عمرو ، أنه سمع عبد الله بن هُبَيْرة يقول : إنه سمع أبا تميم الجَيشاني يقول : إنه سمع عمر بن الخطاب يقول : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تَغْدُو خِمَاصًا وتَرُوح بِطَانًا " .
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث ابن هبيرة{[29114]} وقال الترمذي : حسن صحيح . فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق ، مع توكلها على الله ، عز وجل ، وهو المسَخِّر المسير المسبب . { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } أي : المرجع يوم القيامة .
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : { مَنَاكِبِهَا } أطرافها وفجاجها ونواحيها . وقال ابن عباس وقتادة : { مَنَاكِبِهَا } الجبال .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن حكام الأزدي ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جبير ، عن بشير بن كعب : أنه قرأ هذه الآية : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا } فقال لأم ولد له : إن علمت { مَنَاكِبِهَا } فأنت عتيقة . فقالت : هي الجبال . فسأل أبا الدرداء فقال : هي الجبال .
وهذا أيضًا من لطفه ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم ، بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره ، وهو مع هذا يحلم ويصفح ، ويؤجل ولا يعجل ، كما قال : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } [ فاطر : 45 ] .
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ، لينة يسهل لكم السلوك فيها ، فامشوا في مناكبها ، في جوانبها أو جبالها ، وهو مثل لفرط التذليل ، فإن منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلل له . فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يمشي في مناكبها ، لم يبق شيء لم يتذلل . وكلوا من رزقه ، والتمسوا من نعم الله . وإليه النشور ، المرجع فيسألكم عن شكر ما أنعم عليكم .
والذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلول . فهي كركوب وحلوب ، يقال : ذلول ، بين الذل بضم الذال ، واختلف المفسرون في معنى : المناكب ، فقال ابن عباس : أطرافها وهي الجبال ، وقال الفراء ومنذر بن سعيد : جوانبها ، وهي النواحي ، وقال مجاهد : هي الطرف والفجاج ، وهذا قول جار مع اللغة ، لأنها تنكب يمنة ويسرة ، وينكب الماشي فيها ، في مناكب{[11216]} . وهذه الآية تعديد نعم في تقريب التصرف للناس ، وفي التمتع في رزق الله تعالى ، و { النشور } : الحياة بعد الموت .
استئناف فيه عود إلى الاستدلال ، وإدماج للامتنان ، فإن خلق الأرض التي تحوي الناس على وجهها أدل على قدرة الله تعالى وعلمه من خلق الإِنسان إذ ما الإِنسان إلاّ جزء من الأرض أو كجزء منها قال تعالى : { منها خلقناكم } [ طه : 55 ] ، فلما ضَرب لهم بخلق أنفسهم دليلاً على علمه الدال على وحدانيته شفَّعه بدليل خلق الأرض التي هم عليها ، مع المنة بأنه خلقها هيّنة لهم صالحة للسير فيها مخرِجة لأرزاقهم ، وذُيّل ذلك بأن النشور منها وأن النشور إليه لا إلى غيره .
والذَّلول من الدواب المنقادة المطاوعة ، مشتق من الذل وهو الهوان والانقياد ، فَعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وتقدم في قوله تعالى : { إنها بقرة لا ذلول } الآية في سورة البقرة ( 71 ) ، فاستعير الذلول للأرض في تذليل الانتفاع بها مع صلابة خلقتها تشبيهاً بالدابة المسوسة المرتاضة بعد الصعوبة على طريقة المصرحة .
والمناكب : تخييل للاستعارة لزيادة بيان تسخير الأرض للناس فإن المنكب هو ملتقى الكتف مع العضد ، جعل المناكب استعارة لأطراف الأرض أو لسعتها .
وفُرع على هذه الاستعارة الأمر في فامشوا في مناكبها } فصيغة الأمر مستعملة في معنى الإِدامة تذكيراً بما سخّر الله لهم من المشي في الأرض امتناناً بذلك .
ومناسبة { وكلوا من رزقه } أن الرزق من الأرض . والأمر مستعمل في الإِدامة أيضاً للامتنان ، وبذلك تمت استعارة الذلول للأرض لأن فائدة تذليل الذلول ركوبها والأكل منها . فالمشي على الأرض شبيه بركوب الذلول ، والأكلُ مما تنبته الأرض شبيه بأكل الألبان والسمن وأكل العجول والخرفان ونحو ذلك . وجمع المناكب تجريد للاستعارة لأن الذلول لها منكبان والأرض ذات متسعات كثيرة .
وكل هذا تذكير بشواهد الربوبية والإِنعام ليتدبروا فيتركوا العناد ، قال تعالى : { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } [ النحل : 81 ] .
وأما عطف { وإليه النشور } فهو تتميم وزيادة عبر استطرون لمناسبة ذكر الأرض فإنها مثوى الناس بعد الموت .
والمعنى : إليه النشور منها ، وذلك يقتضي حذفاً ، أي وفيها تعودون .
وتعريف { النشور } تعريف الجنس فيعم أي كل نشور ، ومنه نشور المخاطبين فكان قوله : { وإليه النشور } بمنزلة التذييل .
والقصر المستفاد من تعريف جزأي { هو الذي جعل لكم الأرض } قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن الأصنام خلقت الأرض لأن اعتقادهم إلهيتها يقتضي إلزامهم بهذا الظن الفاسد وإن لم يقولوه .
وتقديم المجرور في جملة { وإليه النشور } للاهتمام .
ومناسبة ذكر النشور هو ذكر خلق الأرض فإن البعث يكون من الأرض .