قوله تعالى : { تتجافى } ترتفع وتنبو ، { جنوبهم عن المضاجع } جمع مضجع ، وهو الموضع الذي يضطجع عليه ، يعني الفرس ، وهم المتهجدون بالليل ، الذين يقومون للصلاة . واختلفوا في المراد بهذه الآية ، قال أنس : نزلت فينا معشر الأنصار ، كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم . وعن أنس أيضاً قال : نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء ، وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر ، وقالا : هي صلاة الأوابين . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء ، وهي صلاة الأوابين . وقال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة . وعن أبي الدرداء ، وأبي ذر ، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم : هم الذين يصلون العشاء الآخرة والفجر في جماعة . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صلى العشاء في جماعة كان كمن قام نصف ليلة ، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً " . وأشهر الأقاويل أن المراد منه : صلاة الليل ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، ومالك ، والأوزاعي وجماعة .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنبأنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن معاذ بن جبل قال : " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه وهو يسير فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : قد سألت عن أمر عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم قرأ : تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ :جزاء بما كانوا يعملون ثم قال ألا أدلك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه الجهاد ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا نبي الله ، قال : فأخذ بلسانه فقال : اكفف عليك هذا ، فقلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم ، إلا حصائد ألسنتهم " .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن زياد الحنفي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد المخلدي ، أنبأنا محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حمد بن زنجويه ، أنبأنا أبو عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، حدثني ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وقربة لكم إلى ربكم ، وتكفير للسيئات ، ومنهاة عن الإثم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا روح بن أسلم ، أنبأنا حماد بن سلمة ، أنبأنا عطاء بن السائب ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته ، فيقول الله لملائكته : انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبةً فيما عندي وشفقاً مما عندي ، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم معه أصحابه ، فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع ، فرجع فقاتل حتى أهريق دمه ، فيقول الله لملائكته : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقاً مما عندي حتى أهريق دمه " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراح ، أنبأنا أبو العباس المحبوبي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، أنبأنا قتيبة بن سعيد ، أنبأنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن حميد بن عبد الرحمن الحيري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن ابن معانق ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا أصبغ ، أخبرني عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، أن الهيثم بن أبي سنان ، أخبره أنه سمع أبا هريرة في قصصه يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " إن أخاً لكم لا يقول الرفث ، يعني بذلك عبد الله بن رواحة " قال :
وفينا رسول الله يتلو كتابه *** إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا *** به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
وقوله عز وجل : { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } قال ابن عباس : خوفاً من النار وطمعاً في الجنة ، { ومما رزقناهم ينفقون } قيل : أراد به الصدقة المفروضة . وقيل : عام في الواجب والتطوع .
{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } أي : ترتفع جنوبهم ، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة ، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم ، وهو الصلاة في الليل ، ومناجاة اللّه تعالى .
ولهذا قال : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي : في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية ، ودفع مضارهما . { خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : جامعين بين الوصفين ، خوفًا أن ترد أعمالهم ، وطمعًا في قبولها ، خوفًا من عذاب اللّه ، وطمعًا في ثوابه .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } من الرزق ، قليلاً كان أو كثيرًا { يُنْفِقُونَ } ولم يذكر قيد النفقة ، ولا المنفق عليه ، ليدل على العموم ، فإنه يدخل فيه ، النفقة الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، ونفقة الزوجات والأقارب ، والنفقة المستحبة في وجوه الخير ، والنفقة والإحسان المالي ، خير مطلقًا ، سواء وافق غنيًا أو فقيرًا ، قريبًا أو بعيدًا ، ولكن الأجر يتفاوت ، بتفاوت النفع ، فهذا عملهم .
ثم صور - سبحانه - أحوالهم فى عبادتهم وتقربهم إلى الله ، تصويراً بديعاً فقال : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } .
والتجافى : التحرك إلى جهة أعلى . وأصله من جفا فلان السرج عن فرسه ، إذا رفعه . ويقال تجافى فلان عن مكانه ، إذا انتقل عنه .
والجنوب : جمع جنب . وأصله الجارحة ، والمراد به الشخص .
والمضاجع : جمع مضجع ، وهو مكان الاتكاء للنوم .
والمعنى : أن هؤلاء المؤمنين الصادقين ، تتنحى وترتفع أجسامهم ، عن أماكن نومهم ، وراحتهم ، حالة كونهم يدعون ربهم بإخلاص وإنابة { خَوْفاً } من سخطه عليهم ، { وَطَمَعاً } فى رضاه عنهم .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } من فضلنا وخيرنا { يُنفِقُونَ } فى وجوه البر والخير .
ثم قال [ تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } يعني بذلك : قيام الليل ، وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة . قال مجاهد والحسن في قوله تعالى ]{[23084]} : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ } يعني بذلك : قيام الليل .
وعن أنس ، وعكرمة ، ومحمد بن المُنْكَدِر ، وأبي حازم ، وقتادة : هو الصلاة بين العشاءين . وعن أنس أيضًا : هو انتظار صلاة العتمة . رواه ابن جرير بإسناد جيد . {[23085]}
وقال الضحاك : هو صلاة العشاء في جماعة ، وصلاة الغداة في جماعة .
{ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : خوفًا من وبال عقابه ، وطمعًا في جزيل ثوابه ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ، فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية ، ومقدم هؤلاء وسيدهم وفخرهم في الدنيا والآخرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال عبد الله بن رَوَاحة ، رضي الله عنه :
وَفِينَا رَسُولُ الله يَتْلُو كتَابَه *** إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الصُّبْحِ سَاطعُ
[ أرَانَا الهُدَى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنَا *** به مُوقِنَاتٌ أنَّ مَا قَال وَاقِعُ ]{[23086]}
يَبيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِه *** إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بالْمُشْرِكِين المَضَاجِعُ
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عطاء بن السائب ، عن مُرَّة الهمداني ، عن ابن مسعود{[23087]} ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «عجب ربنا من رجلين : رجل ثار من وِطَائه ولحافه ، ومن بين أهله وَحَيِّه{[23088]} إلى صلاته ، [ فيقول ربنا : أيا ملائكتي ، انظروا إلى عبدي ، ثار من فراشه ووطائه ، ومن بين حيه وأهله إلى صلاته ]{[23089]} رغبة فيما عندي ، وشفقة مما عندي . ورجل غزا في سبيل الله ، عز وجل ، فانهزموا ، فعلم ما عليه من الفرار ، وما له في الرجوع ، فرجع حتى أهريق دمه ، رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي . فيقول الله ، عز وجل للملائكة : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ، ورهبة مما عندي ، حتى أهريق دمه » .
وهكذا رواه أبو داود في " الجهاد " ، عن موسى بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به بنحوه . {[23090]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي وائل ، {[23091]} عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأصبحت يوما قريبا منه ، ونحن نسير ، فقلت : يا نبي الله ، {[23092]} أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار . قال : «لقد سألت عن عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت » . ثم قال : «ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل في{[23093]} جوف الليل » . ثم قرأ : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } ، حتى بلغ { يَعْمَلُون } . ثم قال : «ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ » فقلت : بلى ، يا رسول الله . فقال : «رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سَنَامه الجهاد في سبيل الله » . ثم قال : «ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ » فقلت : بلى ، يا نبي الله . فأخذ بلسانه ثم قال : " كُفّ عليك هذا " . فقلت : يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به . فقال : «ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يَكُب الناس في النار على وجوههم - أو قال : على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم » .
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم ، من طرق عن معمر ، به . {[23094]} وقال {[23095]} الترمذي : حسن صحيح . ورواه ابن جرير من حديث شعبة ، عن الحكم قال : سمعت عُرْوَة بن النزال {[23096]} يحدث عن معاذ بن جبل ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة ، والصدقة تكفر الخطيئة ، وقيام العبد في جوف الليل " ، وتلا هذه الآية : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } {[23097]} .
ورواه أيضًا من حديث الثوري ، عن منصور بن المعتمر ، عن الحكم ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، ومن حديث الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، والحكم عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ مرفوعا بنحوه . ومن حديث حماد بن سلمة ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن شهر ، عن معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في قوله تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } قال : «قيام العبد من الليل » . {[23098]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سَنَان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا فِطْر بن خليفة ، عن حبيب بن أبي ثابت ، والحكم ، وحكيم بن جُبَيْر ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال : «إن شئت أنبأتك بأبواب الخير : الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وقيام الرجل في جوف الليل » ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا علي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، {[23099]} عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ، جاء مناد فنادى بصوت يُسمعُ الخلائق : سيعلم أهل الجمع اليوم مَن أولى بالكرم . ثم يرجع فينادي : ليقم{[23100]} الذين كانت { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } الآية ، فيقومون وهم قليل " . {[23101]}
وقال البزار : حدثنا عبد الله بن شَبِيب ، حدثنا الوليد بن عطاء بن الأغر ، حدثنا عبد الحميد بن سليمان ، حدثني مصعب ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : قال بلال{[23102]} لما نزلت هذه الآية : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } [ الآية ]{[23103]} ، كنا نجلس في المجلس ، وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء ، فنزلت هذه الآية : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } .
ثم قال : لا نعلم روى أسلم عن بلال سواه ، وليس له طريق عن بلال غير هذه الطريق{[23104]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : تتنحّى جُنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله ، الذين وصفت صفتهم ، وترتفع من مضاجعهم التي يضطجعون لمنامهم ، ولا ينامون يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا في عفوه عنهم ، وتفضّله عليهم برحمته ومغفرته ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الله ، ويؤدّون منه حقوق الله التي أوجبها عليهم فيه . وتتجافى : تتفاعل من الجفاء والجفاء : النبو ، كما قال الراجز :
وَصَاحِبي ذَاتُ هِباب دَمْشَقُ *** وَابنُ مِلاطٍ مُتجاف أرْفَقُ
يعني : أن كرمها سجية عن ابن ملاط . وإنما وصفهم تعالى ذكره بتجافي جنوبهم عن المضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلاً بالصلاة .
واختلف أهل التأويل في الصلاة التي وصفهم جلّ ثناؤه ، أن جنوبهم تتجافى لها عن المضطجع ، فقال بعضهم : هي الصلاة بين المغرب والعشاء ، وقال : نزلت هذه الاَية في قوم كانوا يصلون في ذلك الوقت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن أبي عروبة ، قال : قال قتادة ، قال أنس ، في قوله كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللّيْل مَا يَهْجَعُونَ قال : كانوا يتنفّلون فيما بين المغرب والعشاء ، وكذلك تتجافى جنوبهم .
قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، في قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ قال : يصلون ما بين هاتين الصلاتين .
حدثني عليّ بن سعيد الكنديّ ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ قال : ما بين المغرب والعشاء .
حدثني محمد بن خلف ، قال : حدثنا يزيد بن حيان ، قال : حدثنا الحارث بن وجيه الراسبي ، قال : حدثنا مالك بن دينار ، عن أنس بن مالك ، أن هذه الاَية نزلت في رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضَاجِعِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس : تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِعِ قال : كانوا يتطوّعون فيما بين المغرب والعشاء .
قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن أنس تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِعِ قال : ما بين المغرب والعشاء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ قال : كانوا يتنفّلون ما بين صلاة المغرب وصلاة العشاء .
وقال آخرون : عنى بها صلاة المغرب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن طلحة ، عن عطاء تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِعِ قال : عن العتمة .
وذُكر عن حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال يحيى بن صَيفي ، عن أبي سلمة ، قال : العتمة .
وقال آخرون : لانتظار صلاة العتمة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأَويسي ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، عن أنس بن مالك ، أن هذه الاَية تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة .
وقال آخرون : عنى بها قيام الليل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِعِ قال : قيام الليل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ قال : هؤلاء المتهجدون لصلاة الليل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يقومون يصلون من الليل .
وقال آخرون : إنما هذه صفة قوم لا تخلو ألسنتهم من ذكر الله . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِع ، يَدْعُونَ رَبّهُم خَوْفا وَطَمَعا وهم قوم لا يزالون يذكرون الله ، إما في صلاة ، وإما قياما ، وإما قعودا ، وإما إذا استيقظوا من منامهم ، هم قوم لا يزالون يذكرون الله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ . . . إلى آخر الاَية ، يقول : تتجافى لذكر الله ، كلما استيقظوا ذكروا الله ، إما في الصلاة ، وإما في قيام ، أو في قعود ، أو على جنوبهم فهم لا يزالون يذكرون الله .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله وصف هؤلاء القوم بأن جنوبهم تنبو عن مضاجعهم ، شغلاً منهم بدعاء ربهم وعبادته خوفا وطمعا ، وذلك نبوّ جنوبهم عن المضاجع ليلاً ، لأن المعروف من وصف الواصف رجلاً بأن جنبه نبا عن مضجعه ، إنما هو وصف منه له بأنه جفا عن النوم في وقت منام الناس المعروف ، وذلك الليل دون النهار ، وكذلك تصف العرب الرجل إذا وصفته بذلك ، يدلّ على ذلك قول عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه في صفة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم :
يَبِيتُ يُجافِي جَنْبَهُ عَنْ فِراشِهِ *** إذا اسْتَثْقَلَت بالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى ذكره لم يخصص في وصفه هؤلاء القوم بالذي وصفهم به من جفاء جنوبهم عن مضاجعهم من أحوال الليل وأوقاته حالاً ووقتا دون حال ووقت ، كان واجبا أن يكون ذلك على كلّ آناء الليل وأوقاته . وإذا كان كذلك كان من صلى ما بين المغرب والعشاء ، أو انتظر العشاء الاَخرة ، أو قام الليل أو بعضه ، أو ذكر الله في ساعات الليل ، أو صلى العتمة ممن دخل في ظاهر قوله : تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ لأن جنبه قد جفا عن مضجعه في الحال التي قام فيها للصلاة قائما صلى أو ذكر الله ، أو قاعدا بعد أن لا يكون مضطجعا ، وهو على القيام أو القعود قادر . غير أن الأمر وإن كان كذلك ، فإن توجيه الكلام إلى أنه معنيّ به قيام الليل أعجب إليّ ، لأن ذلك أظهر معانيه ، والأغلب على ظاهر الكلام ، وبه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك ما :
حدثنا به ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت عروة بن الزبير يحدّث عن معاذ بن جبل ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : «ألا أدلّكَ عَلى أبْوَاب الخَيْرِ : الصّوْمُ جُنّةٌ ، والصّدَقَةُ تُكَفّرُ الخَطِيئَةَ ، وَقِيامُ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللّيْلِ . وتلا هذه الاَية : تَتَجافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِع ، يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا ، ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن سليمان ، عن حبيب بن أبي ثابت والحكم ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن الحكم بن عُتيبة ، عن ميمون بن أبي شبيب ، عن معاذ بن جبل ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنْ شِئْتَ أنبأْتُكَ بأبْوَابِ الخَيْرِ : الصّوْمُ جُنّةٌ ، والصّدَقَةُ تُكَفّرُ الخَطِيئَةَ ، وَقِيامُ الرّجُلِ في جَوْفِ اللّيْلِ » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يزيد بن حيان ، عن حماد بن سلمة ، قال : حدثنا عاصم بن أبي النجود ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ بن جبل ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قوله تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ قال : «قِيامُ العَبْدِ مِنَ اللّيْل » .
حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع قال : ثني أبي ، قال : ثني زياد بن خيثمة ، عن أبي يحيى بائع القتّ ، عن مجاهد ، قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل ، ففاضت عيناه حتى تحادرت دموعه ، فقال : تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَن المَضَاجِعِ .
وأما قوله : يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا . . . الاَية ، فإن بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا ومِمّا رَزَقْناهُم يُنْفِقُونَ قال : خوفا من عذاب الله ، وطمعا في رحمة الله ، ومما رزقناهم ينفقون في طاعة الله ، وفي سبيله .
{ تتجافى جنوبهم } ترتفع وتتنحى . { عن المضاجع } الفرش ومواضع النوم . { يدعون ربهم } داعين إياه . { خوفا } من سخطه . { وطمعا } في رحمته . وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها " قيام العبد من الليل " . وعنه عليه الصلاة والسلام " إذا جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافي جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس } وقيل كان أناس من الصحابة يصلون من المغرب إلى العشاء فنزلت فيهم . { ومما رزقناهم ينفقون } في وجوه الخير .
وجملة { تتجافى جنوبهم } حال من الموصول ، أي : الذين إذا ذُكِّروا بها خرّوا ومَن حالهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، أو استئناف . وجيء فيها بالمضارع لإفادة تكرر ذلك وتجدده منهم في أجزاء كثيرة من الأوقات المعدة لاضطجاع وهي الأوقات التي الشأن فيها النوم .
والتجافي : التباعد والمتاركة . والمعنى : أن تجافي جنوبهم عن المضاجع يتكرر في الليلة الواحدة ، أي : يكثرون السهر بقيام الليل والدعاء لله ؛ وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الرجل في جوف الليل ، كما سيأتي في حديث معاذ عند الترمذي .
و { المضاجع : الفرش جمع مضجع ، وهو مكان الضجع ، أي : الاستلقاء للراحة والنوم . وأل فيه عوض عن المضاف إليه ، أي عن مضاجعهم كقوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] . وهذا تعريض بالمشركين إذ يمضون ليلهم بالنوم لا يصرفه عنهم تفكر بل يسقطون كما تسقط الأنعام . وقد صرح بهذا المعنى عبد الله بن رواحة بقوله يصف النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد أصحاب هذا الشأن :
يبيت يجافي جنبه عن فراشه . . . إذا استثقلتْ بالمشركين المضاجع
وجملة { يدعون ربهم } يجوز أن تكون حالاً من ضمير { جنوبهم } والأحسن أن تجعل بدل اشتمال من جملة { تتجافى جنوبهم } .
وانتصب { خوفاً وطمعاً } على الحال بتأويل خائفين وطامعين ، أي : من غضبه وطمعاً في رضاه وثوابه ، أي هاتان صفتان لهم . ويجوز أن ينتصبا على المفعول لأجله ، أي لأجل الخوف من ربهم والطمع في رحمته .
ولما ذكر إيثارهم التقرب إلى الله على حظوظ لذاتهم الجسدية ذكر معه إيثارهم إياه على ما به نوال لَذات أخرى وهو المال إذ ينفقون منه ما لو أبقوه لكان مجلبة راحة لهم فقال { ومما رزقناهم ينفقون } أي : يتصدقون به ولو أيسر أغنياؤهم فقراءهم .