تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تتجافى جنوبهم عن المضاجع} نزلت في الأنصار {تتجافى جنوبهم} كانوا يصلون بين المغرب والعشاء.
{يدعون ربهم خوفا} من عذابه، {وطمعا} ورجاء في رحمته.
{ومما رزقناهم} من الأموال {ينفقون} في طاعة الله عز وجل،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: تتنحّى جُنوب هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله، الذين وصفت صفتهم، وترتفع من مضاجعهم التي يضطجعون لمنامهم، ولا ينامون "يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا "في عفوه عنهم، وتفضّله عليهم برحمته ومغفرته، "ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ" في سبيل الله، ويؤدّون منه حقوق الله التي أوجبها عليهم فيه. وتتجافى: تتفاعل من الجفاء والجفاء: النبو... وإنما وصفهم تعالى ذكره بتجافي جنوبهم عن المضاجع لتركهم الاضطجاع للنوم شغلاً بالصلاة.
واختلف أهل التأويل في الصلاة التي وصفهم جلّ ثناؤه، أن جنوبهم تتجافى لها عن المضطجع؛
فقال بعضهم: هي الصلاة بين المغرب والعشاء، وقال: نزلت هذه الآية في قوم كانوا يصلون في ذلك الوقت...
وقال آخرون: عنى بها صلاة المغرب...
وقال آخرون: لانتظار صلاة العتمة... وقال آخرون: عنى بها قيام الليل...
وقال آخرون: إنما هذه صفة قوم لا تخلو ألسنتهم من ذكر الله... والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله وصف هؤلاء القوم بأن جنوبهم تنبو عن مضاجعهم، شغلاً منهم بدعاء ربهم وعبادته خوفا وطمعا، وذلك نبوّ جنوبهم عن المضاجع ليلاً، لأن المعروف من وصف الواصف رجلاً بأن جنبه نبا عن مضجعه، إنما هو وصف منه له بأنه جفا عن النوم في وقت منام الناس المعروف، وذلك الليل دون النهار، وكذلك تصف العرب الرجل إذا وصفته بذلك، يدلّ على ذلك قول عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه في صفة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم:
يَبِيتُ يُجافِي جَنْبَهُ عَنْ فِراشِهِ *** إذا اسْتَثْقَلَت بالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره لم يخصص في وصفه هؤلاء القوم بالذي وصفهم به من جفاء جنوبهم عن مضاجعهم من أحوال الليل وأوقاته حالاً ووقتا دون حال ووقت، كان واجبا أن يكون ذلك على كلّ آناء الليل وأوقاته. وإذا كان كذلك كان من صلى ما بين المغرب والعشاء، أو انتظر العشاء الآخرة، أو قام الليل أو بعضه، أو ذكر الله في ساعات الليل، أو صلى العتمة ممن دخل في ظاهر قوله: "تَتَجافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ" لأن جنبه قد جفا عن مضجعه في الحال التي قام فيها للصلاة قائما صلى أو ذكر الله، أو قاعدا بعد أن لا يكون مضطجعا، وهو على القيام أو القعود قادر. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن توجيه الكلام إلى أنه معنيّ به قيام الليل أعجب إليّ، لأن ذلك أظهر معانيه، والأغلب على ظاهر الكلام، وبه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك ما: حدثنا به ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت عروة بن الزبير يحدّث عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «ألا أدلّكَ عَلى أبْوَاب الخَيْرِ: الصّوْمُ جُنّةٌ، والصّدَقَةُ تُكَفّرُ الخَطِيئَةَ، وَقِيامُ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللّيْلِ. وتلا هذه الآية: تَتَجافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِع، يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفا وَطَمَعا، ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ»...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يدعون ربهم خوفا وطمعا} أي يعبدون ربهم. ويحتمل حقيقة الدعاء.
... {خوفا} أي يخافون التقصير في العبادة {وطمعا} أي يطمعون في إحسانه، وإحسانه في العفو والتجاوز. وهكذا عمل المؤمن بين الخوف والطمع؛ يخاف التقصير فيه، ويطمع في إحسانه.
{ومما رزقناهم ينفقون} يحتمل الزكاة المفروضة، ويحتمل صدقة التطوع، وجائز أن يكون قوله: {ومما رزقناهم} من القوى والأسباب البلية {ينفقون} أي يعملون.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{يدعون ربهم خوفا} من النار {وطمعا} في الجنة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تتجافى} ترتفع وتتنحى {عَنِ المضاجع} عن الفرش ومواضع النوم، داعين ربهم عابدين له؛ لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته، وهم المتهجدون.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الآية السالفة من خوفهم: {تتجافى} أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء -بما أشار إليه الإظهار، وبشر بكثرتهم بالتعبير بجمع الكثرة فقال: {جنوبهم} بعد النوم {عن المضاجع} أي الفرش الموطأة الممهدة التي هي محل الراحة والسكون والنوم، فيكونون عليها كالملسوعين، لا يقدرون على الاستقرار عليها، في الليل الذي هو موضع الخلوة ومحط اللذة والسرور بما تهواه النفوس.
.. ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة، بين أنه لها، فقال مبيناً لحالهم: {يدعون} أي على سبيل الاستمرار، وأظهر الوصف الذي جرأهم على السؤال فقال: {ربهم} أي الذي عودهم بإحسانه: ثم علل دعاءهم بقوله: {خوفاً} أي من سخطه وعقابه، فإن أسباب الخوف من نقائصهم كثيرة سواء عرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا، فهم لا يأمنون مكره لأن له أن يفعل ما يشاء {وطمعاً} أي في رضاه الموجب لثوابه، وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب، وإذا كانوا يرجون رحمته بغير سبب فهم مع السبب أزجى، فهم لا ييأسون من روحه.
ولما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا، فربما دعت نفس العابد إلى التسمك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عند الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق، حث على الإنفاق منه اعتماداً على الخلاق الرزاق الذي ضمن الخلف ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك} [طه: 132]، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده: {ومما رزقناهم} أي بعظمتنا، لا بحول منهم ولا قوة {ينفقون} من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{وممَّا رَزَقناهم} من المال وصحة البدن والعلم والجاه {يُنفقون} في كل وجه من وجوه الخير بحسب ما أمكن لهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي: في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، ودفع مضارهما {خَوْفًا وَطَمَعًا} أي: جامعين بين الوصفين، خوفًا أن ترد أعمالهم، وطمعًا في قبولها، خوفًا من عذاب اللّه، وطمعًا في ثوابه. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الرزق، قليلاً كان أو كثيرًا {يُنْفِقُونَ} ولم يذكر قيد النفقة، ولا المنفق عليه، ليدل على العموم، فإنه يدخل فيه، النفقة الواجبة، كالزكوات، والكفارات، ونفقة الزوجات والأقارب، والنفقة المستحبة في وجوه الخير، والنفقة والإحسان المالي، خير مطلقًا، سواء وافق غنيًا أو فقيرًا، قريبًا أو بعيدًا، ولكن الأجر يتفاوت، بتفاوت النفع، فهذا عملهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم مشهدهم المصور لهيئتهم الجسدية ومشاعرهم القلبية في لمحة واحدة. في التعبير العجيب الذي يكاد يجسم حركة الأجسام والقلوب:
(تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا)..
إنهم يقومون لصلاة الليل. صلاة العشاء الآخرة. الوتر. ويتهجدون بالصلاة، ودعاء الله. ولكن التعبير القرآني يعبر عن هذا القيام بطريقة أخرى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع).. فيرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام. ولكن هذه الجنوب لا تستجيب. وإن كانت تبذل جهدا في مقاومة دعوة المضاجع المشتهاة. لأن لها شغلا عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ. شغلا بربها. شغلا بالوقوف في حضرته. وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء. الخوف من عذاب الله والرجاء في رحمته. والخوف من غضبه والطمع في رضاه. والخوف من معصيته والطمع في توفيقه. والتعبير يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة، حتى لكأنها مجسمة ملموسة: (يدعون ربهم خوفا وطمعا).. وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة، والصلاة الخاشعة، والدعاء الحار يؤدون واجبهم للجماعة المسلمة طاعة لله وزكاة.. (ومما رزقناهم ينفقون)..
التجافي يعني الترك، لكن الترك قد يكون معه شوق ويصاحبه ألم، كما تودع حبيبا وتتركه وأنت غير زاهد فيه ولا قال له، أما الجفوة فترك في كراهية للمتروك، فهؤلاء المؤمنون الذين يتركون مضاجعهم كأن جنوبهم تكره المضجع وتجفوه، لأنها تتركه إلى لذة أبقى وأعظم هي لذة الاتصال بالله ومناجاته؛ فالمضاجع آخر مرحلة في اليقظة، ولم تأت إلا بعد عدة مراحل من التعب، ومع ذلك شوق المؤمنين إلى ربهم ورغبتهم في الوقوف بين يديه سبحانه ينسيهم هذه الراحة، ويزهدهم فيها، فيجفونها ليقفوا بين يدي الله.
"يَدْعُونَ رَبَّهُمْ".. أي: يدعون ربهم وهم على حال التعب، كأن الدعاء مجرد الدعاء يريحهم، لماذا ولم يجابوا بعد؟ قالوا: لأنهم وضعوا حاجاتهم وطلبهم عند قادر على الإنفاذ، ثم إن حلاوة لقائهم بربهم في الصلاة تنسيهم التعب الذي يعانون.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} لأنهم لا يخافون إلا من عقابه، ولا يطمعون إلا برحمته ونعمته من دون إحساسٍ بالذلّ في السؤال، لأن الذل أمام الله من موقع العبودية، هي قاعدة العزة أمام الآخرين؛ وكيف يحس الإنسان بالذل في سؤاله لربه، وكل وجوده تجسيد لعبوديته له وخضوعه له، ما يفرض عليه أن يؤكد ارتباطه به، ليؤكد انفصاله عن غيره، فليس للآخرين إلا دور الأداة في قضاء حاجاته.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} لأنهم لا يشعرون بأنانية الامتلاك في ما يملّكهم الله إيّاه، بل بمسؤولية القضاء في ذلك كله، على أساس أن الملك ليس حالة امتياز، بل وظيفة ومسؤولية يحركها الإنسان في حاجاته، ويستعين بها على قضاء حاجات غيره، ممّن أوكل الله أمرهم إليه، وحمّله مسؤولية الإنفاق عليهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والخلاصة: عند توفّر أفضل الظروف لحضور القلب، فإنّهم يتّجهون بكلّ وجودهم إلى معبودهم، ويطأطئون رؤوسهم عند أعتاب معشوقهم، ويخبرونه بما في قلوبهم، فهم أحياء بذكره، وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه.
وهنا تذكر الآية صفتين اُخريين لهؤلاء هما: «الخوف» و «الرجاء»، فنعم.. إنّ أوصاف هؤلاء مجموعة من العقيدة الرصينة الثابتة، والإيمان القويّ والعشق الملتهب لله، والعبادة والطاعة، والسعي والحركة الدؤوبة، ومعونة عباد الله في كلّ المجالات. لا يأمنون غضب الله عزّ وجلّ، ولا ييأسون من رحمته، والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه، والحاكم على وجودهم دائماً، لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط، وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة، وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه.
(وممّا رزقناهم ينفقون) فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب، بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري، فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير. إنّهم ينبوع من الخير والبركة، وعين فوّارة من ماء الصالحات العذب الصافي الذي يروي العطاشى، ويغني المحتاجين بحسب استطاعتهم.