الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (16)

{ تَتَجَافَى } أي ترتفع وتنتحي ، وهو تفاعل من الجفا ، والجفا : التبوّء والتباعد ، تقول العرب : جاف ظهرك عن الجدار ، وجفت عين فلان عن الغمض إذا لم تنم . { جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } .

أخبرني أبو عبدالله الحسين بن محمد بن الحسن قال : أخبرني أبو عمرو عثمان بن أحمد ابن سمعان الوزان ، عن عبدالله بن قحطبة بن مرزوق ، عن محمد بن موسى الحرشي ، عن الحرث بن وحيه الراسبي قال : سمعت مالك بن دينار يقول : سألت أنس بن مالك عن قول الله تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } ، فقال أنس : كان أُناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة ، فأنزل الله تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } .

أخبرني الحسين بن محمد [ عن موسى بن محمد ، عن الحسن بن محمد ، عن موسى بن محمد ] عن الحسن بن علويه ، عن إسماعيل بن عيسى ، عن المسيب ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتاده ، عن أنس بن مالك قال : نزلت فينا معاشر الأنصار : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } الآية ، كنّا نصلّي المغرب ، فلا نرجع إلى رحالنا حتّى نصلّي العشاء مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم .

وأخبرنا الحسين بن محمد عن عبدالله بن إبراهيم بن علي بن عبدالله ، عن عبدالله بن محمد بن وهب ، عن محمد بن حميد ، عن يحيى بن الضريس ، عن النضر بن حميد ، عن سعيد ، عن الشعبي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عقّب ما بين المغرب والعشاء بُني له في الجنّة قصران ( ما بينهما ) مسيرة ( مائة ) عام ، وفيهما من الشجر ، ما لو نزلها أهل المشرق وأهل المغرب لأوسعتهم فاكهة ، وهي صلاة الأوّابين وغفلة الغافلين ، وإنّ من الدعاء المستجاب الذي لا يرد الدعاء ما بين المغرب والعشاء " .

وقال عطاء : يعني يصلّون صلاة العتمة لا ينامون عنها ، يدلّ عليها ما أنبأني عبدالله بن حامد ، عن عبدالصمد بن الحسن بن علي بن مكرم ، عن السري بن سهل ، عن عبدالله بن رشيد قال : أنبأني أبو عبيدة مجاعة بن الزبير ، عن أبان قال : جاءت امرأة إلى أنس بن مالك ، فقالت : إنّي أنام قبل العشاء . فقال : لا تنامي . فإنّ هذه الآية نزلت في الذين لا ينامون قبل العشاء الآخرة { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } . وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وابن زيد : هو التهجّد وقيام الليل ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو عبدالله بن فنجويه عن أبي بكر بن مالك القطيعي ، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أَبي عن زيد بن الحبّاب ، عن حمّاد بن سلمة ، عن عاصم ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } قال : قيام العبد في الليل .

وأخبرنا عبدالله بن حامد الأصفهاني ، عن محمّد بن عبدالله بن عبد الواحد الهمداني ، عن إسحاق بن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق بن معمر ، عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل ، " عن معاذ قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت قريباً منه ونحن نسير ، فقلت : يا نبيّ الله ألا تخبرني بعمل يدخلني الجنّة ، ويباعدني من النار ؟ قال : يا معاذ ، لقد سألت عن عظيم ، وإنّه ليسير على من يسّرهُ الله عليه ، تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت . ثمّ قال : ألاَ أدلُّك على أبواب الخير . الصوم جُنّة من النار والصدقة تطفئ غضب الربّ وصلاة الرجل في جوف الليل ثمّ قرأ { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } حتّى بلغ { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ثمّ قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كلّه . فقلتُ : بلى يا رسول الله . فأخذ بلسانه . فقال : " اكفف ، عليك هذا " .

فقلت : يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم ؟ فقال : " ثكلتك أُمّك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النّار على وجوههم أو على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم " " .

وقال الضحّاك : هو أنْ يصلّي الرجل العشاء والغداة في جماعة .

أخبرني الحسين بن فنجويه عن أحمد بن الحسين بن ماجة قال : أخبرني أبو عوانة الكوفي بالري عن منجاب بن الحرث عن علي بن مسهر عن عبدالرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يُسمع الخلائق كلّهم : سيعلمُ أهل الجمع اليوم مَنْ أولى بالكرم ، ثمّ يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تَتَجافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء . فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعاً إلى الجنّة ثمّ يحاسب سائر الناس " .

{ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }