فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (16)

{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون 16 فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون17 }

والمؤمنون المسبحون ، الخاشعون الساجدون ، لايشغلهم عن مناجاة ربهم شيء ، فحين يرقد المفرطون ، ويغفل الغافلون ، ينهض المتقون الصادقون آناء الليل ، يصلون ويدعون ، يخافون العذاب ، ورحمة ربهم يرجون ، وفي رضوانه يطمعون ، ومع وفائهم بعد الخلاق- سبحانه- فهم لخلقه راعون ، ومما تفضل عليهم به المولى يجودون ويبذلون ، فجزاهم الله على إحسانهم أحسن ما يكون ، وادخر لهم من النعيم ما لايصفه الواصفون ، وهي بشراه- عز ثناؤه- وعدها المتقون : )إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم( {[3515]} .

أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده ، وأحمد ، والنسائي- والحاكم وصححه- وابن جرير وغيرهم ، والترمذي- وصححه- عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت : يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ! قال : " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت " ثم قال : " ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم قرأ : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع . . } حتى بلغ{ يعملون } " الحديث{[3516]} .

قال ابن عطية : وكانت الجاهلية ينامون من أول الغروب ومن أي وقت شاء الإنسان ، فجاء انتظار وقت العشاء غريبا شاقا ، ومصلى الصبح في جماعة لا سيما في أول الوقت ، كما كان عليه السلام يصليها ، والعادة أن من حافظ على هذه الصلاة في أول الوقت يقوم سحرا يتوضأ ويصلي ويذكر الله عز وجل إلى أن يطلع الفجر ، فقد حصل التجافي أول الليل وآخره .

روى مسلم- رحمه الله- في صحيحه من حديث عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من صل العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله " .

وهكذا يعظم مولانا الشكور الودود المثوبة للمتهجدين والمستغفرين بالأسحار ، وشهدت بذلك الآثار{[3517]} .


[3515]:سورة الذاريات. الآيات: من 15 إلى 19.
[3516]:وعن أحمد بزيادة:" ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه"؟ فقلت: بلى يا رسول الله فقال:"رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" ثم قال:"ألا أخبرك بملاك ذلك كله"؟ فقلت بلى يا نبي الله! فأخذ بلسانه ثم قال:" كف عليك هذا" فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال:"ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم- أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم".
[3517]:عن أسماء بنت يزيد قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت تسمعه الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم ينادي الثانية ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون ثم ينادي الثالثة ستعلمون اليوم من أولى بالكرم ليقم الحامدون لله على كل حال في السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس". وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول:" ياسبحان الله يا سبحان الله يا سبحان الله ربي ماذا أنزل ربنا الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن أيقظن صواحبات الحجر فيارب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة"، ونقل عن بعض العابدين أنه استيقظ ليلة ليصلي، فإذا بحمامة قد سبقته إلى تسبيح الله، فأنشأ يقول: لقد هتفت في جنح ليل حمامة *** تسبح مولاها وإني لنائم أأزعم أني عابد ذو محبة *** وقد سبقتني في البكاء الحمائم