فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (16)

{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } استئناف ، أو حال ، أي ترتفع وتنبو وتتنحى يقال جفا الشيء عن الشيء وتجافى عنه إذا لم يلزمه ، ونبا عنه وتنحى قال الزجاج ، والرماني ، التجافي والتجفي إلى جهة فوق ؛ وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه ، والجنوب جمع جنب ، أي متجافية جنوبهم عن مضاجعهم ، والمضاجع جمع مضجع ، وهو الموضع الذي يضطجع فيه ، وهم المتهجدون في الليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش ، وبه قال الحسن ومجاهد وعطاء ، والجمهور .

والمراد بالصلاة التنقل بالليل من غير تقييد ، وقال قتادة ، وعكرمة هو النفل ما بين المغرب والعشاء وبه قال أبو حازم ، ومحمد بن المنكدر ، وقيل هي صلاة الأوابين ، وقيل صلاة العشاء فقط وهو رواية عن الحسن وعطاء . وقال الضحاك صلاة العشاء والصبح في جماعة ، وقيل هم الذين يقومون لذكر الله ، سواء كان في صلاة أو غيرها .

عن أنس بن مالك أن هذه الآية نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى : العتمة ، وعنه قال : نزلت في صلاة العشاء ، وعنه قال : كانوا لا ينامون حتى يصلوا العشاء ، وعنه قال : كنا نجتنب الفراش قبل صلاة العشاء .

وعنه قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم راقدا قط قبل صلاة العشاء ولا متحدثا بعدها : فإن هذه الآيات نزلت في ذلك .

وعن ابن عباس في الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هم الذين لا ينامون قبل صلاة العشاء ) ، فأثنى عليهم ، فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه ، فوقتها قبل أن ينام الصغير ، ويكسر الكبير . أخرجه ابن مردويه .

وعن بلال قال : كنا نجلس في المسجد وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب العشاء ، تتجافى جنوبهم عن المضاجع .

وعن أنس نحوه وعنه قال : كانوا ينتظرون ما بين المغرب والعشاء يصلون .

وعن معاذ بن جبل قال : قيام العبد من الليل ، وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم – وذكر حديثا ، وأرشد فيه إلى أنواع من الطاعات – وقال فيه : وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم قرأ هذه الآية أخرجه أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجة . والحاكم وصححه ، والبيهقي . وغيرهم .

وعن أبي هريرة مرفوعا في حديث قال فيه : وصلاة المرء في جوف الليل . ثم تلا هذه الآية أخرجه ابن مردويه .

وعن أنس في الآية قال : كان لا تمر عليهم ليلة إلا أخذوا منها . وأشهر الأقاويل أن المراد منه صلاة الليل ، وبه قال جماعة من أهل العلم – وقد ورد في فضل قيام الليل – والحث عليه من الأحاديث الصحيحة ما هو مذكور في كتب السنة .

وعن كعب قال : إذا حشر الناس نادى مناد هذا يوم الفصل . أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟ الحديث رواه أحمد . وعن ابن عباس يقول : كلما استيقظوا ذكروا الله ، إما في الصلاة ، وإما في القيام ، أو قعودا أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله .

{ يَدْعُونَ } أي تتجافى جنوبهم حال كونهم داعين { رَبَّهُمْ خَوْفًا } من عذابه { وَطَمَعًا } في رحمته ، قال ابن عباس خوفا من النار ، وطمعا في الجنة . وفيه دليل على صحة العبادة ، والدعاء بالخوف والطمع ، وقد حققنا ذلك في هداية السائل ، فليرجع إليها .

{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي من الذي رزقناهم ، أو من رزقهم { يُنفِقُونَ } وذلك الصدقة الواجبة ، وقيل صدقة النفل ، والأولى الحمل على العموم .