قوله تعالى : { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } ، قرأ نافع { يوم } بنصب الميم ، يعني : تكون هذه الأشياء في يوم ، فحذف ( في ) فانتصب ، وقرأ الآخرون بالرفع على أنه خبر { هذا } أي : ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة ، ولو كذبوا ختم الله على أفواههم ، ونطقت به جوارحهم ، فافتضحوا ، وقيل : أراد بالصادقين النبيين ، وقال الكلبي : ينفع المؤمنين إيمانهم ، قال قتادة : متكلمان لا يخطئان يوم القيامة ، عيسى عليه السلام ، وهو ما قص الله عز وجل ، وعدو الله إبليس ، وهو قوله : { وقال الشيطان لما قضي الأمر } ، الآية . فصدق عدو الله يومئذ ، وكان قبل ذلك كاذباً فلم ينفعه صدقه ، وأما عيسى عليه السلام فكان صادقاً في الدنيا والآخرة ، فنفعه صدقه . وقال بعضهم : هذا يوم من أيام الدنيا ، لأن الدار الآخرة دار جزاء . لا دار عمل ، ثم بين ثوابهم فقال : { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم } .
{ قَالَ اللَّهُ } مبينا لحال عباده يوم القيامة ، ومَن الفائز منهم ومَن الهالك ، ومَن الشقي ومَن السعيد ، { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم على الصراط المستقيم والهدْي القويم ، فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق ، إذا أحلهم الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ولهذا قال : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } والكاذبون بضدهم ، سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم ، وثمرة أعمالهم الفاسدة .
{ قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين . . . }
قال الآلوسي : { قَالَ الله } كلام مستأنف ختم به - سبحانه - حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل . وأشير إلى نتيجته ومآله . والمراد بقول الله - تعالى - عقيب جواب عيسى الإِشارة إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم .
والمراد باليوم في قوله { هذا يَوْمُ } يوم القيامة الذي تجازي فيه كل نفس بما كسبت وقد قرأ الجمهور برفع { يوم } من غير تنوين على أنه خبر لاسم الإِشارة أي : قال الله - تعالى - : إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينتفع الصادقون فيه بصدقهم في إيمانهم وأعمالهم ، لأنه يوم الجزاء والعطاء على ما قدموا من خيرات في دنياهم .
أي أن صدقهم في الدنيا ينفعهم يوم القيامة ، بخلاف صدق الكفار يوم القيامة فإنه لا ينفعهم ، لأنهم لم يكونوا مؤمنين في دنياهم .
وقرأ نافع ( يوم ) بالنصب من غير تنوين على أنه ظرف لقال . أي : قال الله - تعالى - هذا القول لعيسى يوم ينفع الصادقين في هذا اليوم .
وقوله : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } جملة مستأنفة لبيان مظاهر النفع الذي ظفر به الصادقون في هذا اليوم . أي : أن هؤلاء الصادقين في دنياهم قد نالوا في آخرتهم جنات تجري من تحت أشجارها وسررها الأنهار { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي : مقيمين فيها إقامة دائمة لا يعتريها انقطاع وقوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } أي : رضي الله عنهم فأعطاهم بسبب إيمانهم الصادق وعملهم الصالح عطاء هو نهاية الآمال والأماني . ورضوا عنه بسبب هذا العطاء الجزيل الذي لا تحيط العبارة بوصفه .
واسم الإشارة في قوله : { ذلك الفوز العظيم } يعود إلى ما انتفع به الصادقون من جنات تجري من تحتها الأنهار . ومن رضا الله عنهم . أي : إلى النعيم الجثماني المتمثل في الجنات وما يتبعها من عيشة هنيئة ، وإلى النعيم الروحاني المتمثل في رضا الله عنهم .
قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب . وحقيقة الثواب : أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فقوله : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم ، وقوله { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } إشارة إلى الدوام . واعتبر هذه الدقيقة : فإنه أينما ذكر الثواب قال { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } وأينما ذكر العقاب للفساق من أهل الإِيمان ، ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأييد ، وأما قوله : { رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } فتحته أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها .
يقول تعالى مجيبًا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم{[10543]} فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين ، الكاذبين على الله وعلى رسوله ، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه ، عز وجل ، فعند ذلك يقول تعالى : { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }
قال الضحاك ، عن ابن عباس يقول : يوم ينفع الموحدين توحيدهم .
{ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي : ماكثين فيها لا يَحُولون ولا يزولون ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، كما قال تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث .
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا فقال : حدثنا أبو سعيد الأشَجُّ ، حدثنا المحاربي ، عن لَيْث ، عن عثمان - يعني ابن عُمَيْر أبو اليقظان - عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثم يتجلى لهم الرب
تعالى فيقول : سلوني سلوني أعطكم " . قال : " فيسألونه{[10544]} الرضا ، فيقول : رضاي أحلكم داري ، وأنالكم كرامتي ، فسلوني أعطكم . فيسألونه الرضا " ، قال : " فيشهدهم أنه قد رضي عنهم " . {[10545]}
وقوله : { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : هذا هو الفوز الكبير الذي لا أعظم منه ، كما قال تعالى : { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [ الصافات : 61 ] ، وكما قال : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 26 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اللّهُ هََذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } . .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : " هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ " فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة : «هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ » بنصب «يوم » . وقرأ بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة وعامّة قرّاء أهل العراق : هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ برفع يوم . فمن رفعه رفعه بهذا ، وجعل «يوم » اسما ، وإن كانت إضافته غير محضة ، لأنه صار كالمنعوت . وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الأوقات مثل اليوم والليلة عملهم فيما بعدها ، إن كان ما بعدها رفعا رفعوها ، كقولهم : هذا يومُ يركب الأمير ، وليلةُ يصدر الحاج ، ويومُ أخوك منطلق وإن كان ما بعدها نصبا نصبوها ، وكذلك كقولهم : هذا يومَ خرج الجيش وسار الناس ، وليلةَ قتل زيد ونحو ذلك ، وإن كان معناها في الحالين : «إذ » ، و«إذا » . وكأنّ من قرأ هذا هكذا رفعا وجه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة ، وكذلك كان السديّ يقول في ذلك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " قالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ " هذا فصل من كلام عيسى ، وهذا يوم القيامة .
يعني السدي بقوله : «هذا فصل من كلام عيسى » أن قوله : " سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَق . . . إلى قوله : فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " من خبر الله عزّ وجلّ عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه ، وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة . وأما النصب في ذلك ، فإنه يتوجه من وجهين : أحدهما : أن إضافة «يوم » ما لم تكن إلى اسم تجعله نصبا ، لأن الإضافة غير محضة ، وإنما تكون الإضافة محضة إذا أضيف إلى اسم صحيح . ونظير اليوم في ذلك الحين والزمان وما أشبههما من الأزمنة ، كما قال النابغة :
على حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصّبا ***وقَلْتُ أَلمّا أصْحُ والشّيْبُ وَازِعُ
والوجه الآخر : أن يكون مرادا بالكلام هذا الأمر وهذا الشأن ، «يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ » فيكون اليوم حينئذ منصوبا على الوقت والصفة ، بمعنى : هذا الأمر في يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ .
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب : «هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ » بنصب اليوم على أنه منصوب على الوقت والصفة ، لأن معنى الكلام : أن الله تعالى أجاب عيسى حين قال : " سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ . . . . إلى قوله : فإنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ " فقال له عزّ وجلّ : هذا القول النافع أو هذا الصدق النافع يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فاليوم وقت القول والصدق النافع .
فإن قال قائل : فما موضع «هذا » ؟ قيل رفع فإن قال : فأين رافعه ؟ قيل مضمر ، وكأنه قال : قال الله عزّ وجلّ : هذا ، هذا يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ، كما قال الشاعر :
أما تَرَى السّحابَ كَيْفَ يَجْرِي ***هَذَا وَلا خَيْلُكَ يا ابْنَ بِشْرِ
فتأويل الكلام إذا كان الأمر على ما وصفنا لما بينا : قال الله لعيسى : هذا القول النافع في يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ في الدنيا صِدْقُهُمْ ذلك في الآخرة عند الله . " لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ " يقول : للصادقين في الدنيا جناتٌ تجري من تحتها الأنهار في الآخرة ثوابا لهم من الله عزّ وجلّ ، على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه ، فوفوا به لله ، فوفى الله عزّ وجلّ لهم ما وعدهم من ثوابه . " خالِدِينَ فِيها أبَداً " يقول : باقين في الجنات التي أعطاهموها أبدا دائما لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول . وقد بينا فيما مضى أن معنى الخلود : الدوام والبقاء .
القول في تأويل قوله تعالى : " رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ " .
يقول تعالى ذكره : رضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما وعدوه من العمل بطاعته واجتناب معاصيه ، " ورَضُوا عَنْهُ " يقول : ورضوا هم عن الله تعالى في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه ، فيما أمرهم ونهاهم من جزيل ثوابه . " ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ " يقول : هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها ، مرضيّا عنهم ، وراضين عن ربهم ، هو الظفر العظيم بالطّلِبة وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا ، ولها كانوا يعملون فيها ، فنالوا ما طلبوا وأدركوا ما أملوا .
والتعليق بأن { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقرأ نافع { يوم } بالنصب على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف ، أو ظرف مستقر وقع خبرا والمعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع . وقيل إنه خبر ولكن بني على الفتح بإضافته إلى الفعل وليس بصحيح ، لأن المضاف إليه معرب والمراد بالصدق الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف . { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم } بيان للنفع .
هذه الآية— على من قال :«إن توقيف عيسى عليه السلام كان إثر رفعه » مستقيمة المعنى ، لأنه قال عنهم هذه المقالة وهم أحياء في الدنيا وهو لا يدري على ما يوافون . وهي— على قول من قال :«إالتوقيف هو يوم القيامة »—بمعنى :إن سبقت لهم كلمة العذاب كما سبقت فهم عبادك تصنع بحق الملك ما شئت لا اعتراض عليك ، { وإن تغفر لهم } بتوبة كما غفرت لغيرهم فإنك أنت العزيز في قدرتك ، الحكيم في أفعالك . لا تعارض على حال . فكأنه قال إن يكن لك في الناس معذبون فهم عبادك . وإن يكن مغفور لهم فعزتك وحكمتك تقتضي هذا كله .
وهذا هو عندي القول الأرجح{[4806]} . ويتقوى ما بعده .
وذلك أن عيسى عليه السلام لما قرر أن الله تعالى له أن يفعل في عباده ما يشاء من تعذيب ومغفرة أظهر الله لعباده ما كانت الأنبياء تخبرهم به ، كأنه يقول هذا أمر قد فرغ منه . وقد خلص للرحمة من خلص ، وللعذاب من خلص .
فقال تبارك وتعالى { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن بالله تعالى وكل ما كان{[4806]} أتقى فهو أدخل في العبارة ، ثم جاءت هذه العبارة مشيرة إلى عيسى في حاله تلك وصدقه فيما قال . فحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم وإن كان اللفظ يعمه وسواه ، وذكر تعالى ما أعد لهم برحمته وطوله إلى قوله { ذلك الفوز العظيم } .
وقرأ نافع وحده «هذا يومَ » بنصب يوم ، وقرأ الباقون «يومُ » بالرفع على خبر المبتدأ الذي هو { هذا } و { يوم } مضاف إلى { ينفع } ، والمبتدأ والخبر في موضع نصب بأنه مفعول القول . إذ القول يعمل في الجمل ، وأما قراءة نافع فتحتمل وجهين : أحدهما أن يكون «يوم » ظرفاً للقول كأن التقدير قال الله هذا القصص أو الخبر يوم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي معنى يزيل رصف الآية وبهاء اللفظ ، والمعنى الثاني أن يكون ما بعد قال حكاية عما قبلها ومن قوله لعيسى إشارة إليه ، وخبر { هذا } محذوف إيجازاً ، كأن التقدير قال الله : هذا المقتص يقع أو يحدث يوم ينفع الصادقين .
قال القاضي أبو محمد : والخطاب على هذا لمحمد عليه السلام وأمته ، وهذا أشبه من الذي قبله ، والبارع المتوجه قراءة الجماعة ، قال أبو علي ، ولا يجوز أن تكون «يوم » في موضع رفع على قراءة نافع لأن هذا الفعل الذي أضيف إليه معرب ، وإنما يكتسي البناء من المضاف إليه إذا كان المضاف إليه مبنياً نحو من عذاب يومئذ{[2]} ، ولا يشبه قول الشاعر{[3]} :
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع ؟{[4]}
لأن الماضي الذي في البيت مبني والمضارع الذي في الآية معرب وقرأ الحسن بن العباس الشامي : «هذا يومٌ » بالرفع والتنوين .
جواب عن قول عيسى ، فلذلك فصلت الجملة على طريقة الحوار . والإشارة إلى يوم القيامة وهو حاضر حين تجري هذه المقاولة .
وجملة : { ينفع الصادقين صدقهم } مضاف إليها { يوم } ، أي هذا يوم نفْع الصدق . وقد قرأ غير نافع من العشرة { يومُ } مضموماً ضمّة رفع لأنّه خبرُ { هذا } . وقرأه نافع مفتوحاً على أنّه مبني على الفتح لإضافته إلى الجملة الفعلية . وإضافة اسم الزمان إلى الجملة الفعلية تسوّغ بناءه على الفتح ، فإن كانت ماضوية فالبناء أكثر ، كقول النابغة :
على حينَ عَاتبتُ المشيبَ على الصّبا
وإن كانت مضارعية فالبناء والإعراب جائزان كما في هذه الآية ، وهو التحقيق . وإضافة الظرف إلى الجملة تقتضي أنّ مضمونها يحصل فيه ، فنفع الصدق أصحابه حاصل يومئذٍ . وعموم الصادقين يشمل الصدق الصادر في ذلك اليوم والصادر في الدنيا ، فنفع كليهما يظهر يومئذٍ ؛ فأمّا نفع الصادر في الدنيا فهو حصول ثوابه ، وأمّا نفع الصادر في الآخرة كصدق المسيح فيما قاله فهو برضى الله عن الصادق أو تجنّب غضبه على الذي يكذّبه فلا حيرة في معنى الآية .
والمراد بِ { الصادقين } الذين كان الصدق شعارهم لم يعدلوا عنه . ومن أوّل مراتب الصدق صدق الاعتقاد بأن لا يعتقدوا ما هو مخالف لما في نفس الأمر ممّا قامَ عليه الدليل العقلي أو الشرعي . قال الله تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( 119 ) .
ومعنى نفع الصدق صاحبه في ذلك اليوم أنّ ذلك اليوم يوم الحقّ فالصادق ينتفع فيه بصدقه ، لأنّ الصدق حسن فلا يكون له في الحقّ إلاّ الأثر الحسن ، بخلاف الحال في عالم الدنيا عالم حصول الحقّ والباطل فإنّ الحقّ قد يجرّ ضرّاً لصاحبه بتحريف الناس للحقائق ، أو بمؤاخذته على ما أخبر به بحيث لو لم يخبر به لما اطّلع عليه أحد . وأمّا ما يترتّب عليه من الثواب في الآخرة فذلك من النفع الحاصل في يوم القيامة . وقد ابتلي كعب بن مالك رضي الله عنه في الصدق ثم رأى حُسن مغبَّته في الدنيا .
ومعنى نفع الصدق أنّه إن كان الخبر عن أمر حسن ارتكبه المخبر فالصدق حسن والمخبَر عنه حسن فيكون نفعاً محضاً وعليه جزاءان ، كما في قول عيسى : { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ } [ المائدة : 116 ] إلى آخره ، وإن كان الخبر عن أمر قبيح فإنّ الصدق لا يزيد المخبر عنه قبحاً لأنّه قد حصل قبيحاً سواء أخبر عنه أم لم يخبر ، وكان لقبحه مستحقّاً أثراً قبيحاً مثله . وينفع الصدق صاحبه مرتكب ذلك القبيح فيناله جزاء الصدق فيخفّ عنه بعض العقاب بما ازداد من وسائل الإحسان إليه .
وجملة : { لهم جنات } مبيّنة لجملة : { ينفع } باعتبار أنّها أكمل أحوال نفع الصدق . وجملة { تجري من تحتها الأنهار } صفة ل { جنَّات } و { خالدين } حال . وكذلك جملة { رضي الله عنهم ورضوا عنه } .
ومعنى : { رضوا عنه } المسرة الكاملة بما جازاهم به من الجنّة ورضوانه . وأصل الرضا أنّه ضدّ الغضب ، فهو المحبّة وأثرها من الإكرام والإحسان . فرضي الله مستعمل في إكرامه وإحسانه مثل محبّته في قوله : { يحبّهم } . ورضي الخلق عن الله هو محبّته وحصول ما أمَّلوه منه بحيث لا يبقى في نفوسهم متطلّع .
واسم الإشارة في قوله { ذلك } لتعظيم المشار إليه ، وهو الجنّات والرضوان .