إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (119)

{ قَالَ الله } كلامٌ مستأنَفٌ خَتَم به حكايةَ ما حُكيَ ، مما يقعُ يوم يجمع الله الرسلَ عليهم الصلاة والسلام ، وأُشير إلى نتيجته ومآله ، أي يقول الله تعالى يومئذ عَقيبَ جواب عيسى عليه السلام ، مشيراً إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم ، وصيغةُ الماضي لما مرَّ في نظائره مراراً ، وقوله تعالى : { هذا } إشارة إلى ذلك اليوم ، وهو مبتدأ خبرُه ما بعده ، أي هذا اليوم الذي حُكيَ بعضُ ما يقع فيه إجمالاً وبعضُه تفصيلاً { يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين } بالرفع والإضافة ، والمراد بالصادقين كما ينبئ عنه الاسم ، المستمرّون في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ الذي نحن بصدده ، والشرائعُ والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك ، وبه تحصُل الشهادةُ بصِدْق عيسى عليه السلام ، ومن الأمم المصدِّقين لهم المقتدين بهم عقداً وعملاً ، وبه يتحقق المقصودُ بالحكاية من ترغيب السامعين في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم لا كلِّ من صدَقَ في أي شيء كان ، ضرورةَ أن الجانِيَ المعترِفَ في الدنيا بجِنايته لا ينفعُه يومئذ اعترافُه وصِدْقُه { صِدْقُهُمْ } أي صدقهم فيما ذُكر من أمور الدين في الدنيا ، إذ هو المستتبِعُ للنفع يومئذ ، واعتبارُ استمراره في الدارين مع أنه لا حاجة إليه كما عرفت ، ولا دخل له في استتباع النفع والجزاء مما لا وجه له ، وهذه القراءةُ هي التي أطبق عليها الجمهورُ وهي الأليق بسياق النظم الكريم وسباقِه ، وقد قرئ ( يومَ ) بالنصب إما على أنه ظرف لقال ، فهذا حينئذ إشارةٌ إلى قوله تعالى : { أأنت قُلت } الخ ، وإما على أنه خبرٌ لهذا ، فهو حينئذ إشارة إلى جواب عيسى عليه السلام ، أي هذا الجواب منه عليه السلام واقعٌ يوم ينفع الخ ، أو إلى السؤال والجواب معاً ، وقيل : هو خبر ولكنه بني على الفتح ، وليس بصحيح عند البصريين لأنه مضافٌ إلى متمكنٍّ{[198]} ، وقرئ ( يومٌ ) بالرفع والتنوين كقوله تعالى : { واتقوا يَوْمًا لا تَجْزِي } [ البقرة ، الآيتان : 48 و123 ] الآية . { لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَداً } استئناف مَسوقٌ لبيان النفع المذكور كأنه قيل : ما لهم من النفع ؟ فقيل : لهم نعيمٌ دائم وثوابٌ خالد ، وقوله تعالى : { رضِي الله عَنْهُمْ } استئنافٌ آخرُ لبيان أنه عز وجل أفاض عليهم غيرَ ما ذُكر من الجنات ما لا قدْرَ لها عنده ، وهو رضوانُه الذي لا غايةَ وراءَه كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَرَضُوا عَنْهُ } إذ لا شيء أعزُّ منه حتى يمتدَّ إليه أعناقُ الهمم { وذلك } إشارةٌ إلى نيل رضوانه تعالى ، وقيل : إلى نيل الكل { الفوز العظيم } لما أن عِظَمَ شأنِ الفوز تابعٌ لعِظَم شأن المطلوب الذي تعلّق به الفوز . وقد عرفت ألا مطلبَ وراء ذلك أصلاً .


[198]:المتمكّن: (في علم النحو): الاسم الذي يقبل الحركات الثلاث: الرفع والنصب والجر، أي ما ليس مبنيا. وهو نوعان: متمكن أمكن، وهو المصروف، ومتمكن غير أمكن، وهو الممنوع من الصرف، وغير المتمكن هو الذي أشبه الحرف فكان مثله مبنيا، نحو: كيف وأين.