التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (119)

{ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( 110 ) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( 111 ) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء ( 1 ) قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( 112 ) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 113 ) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ( 2 ) لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( 114 ) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ( 115 ) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ( 116 ) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 117 ) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 118 ) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 119 ) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 120 ) } ( 110 – 120 ) .

تعليق على الآية :

{ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . } الخ

وما بعدها لآخر السورة وما فيها من صور

وأهداف وما ورد في صددها من روايات

عبارة الآيات واضحة . ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات ، وهي فصل جديد ولا صلة له بالآيات السابقة عدا الآية السابقة مباشرة لها من احتمال صلتها بها كمقدمة تمهيدية على ما ذكرناه ورجحناه قبل .

ولقد احتوت الآيات مقطعين مختلفين في صيغة الخطاب متفقين في الموضوع والتوجيه .

أولهما : تضمن حكاية لتذكير رباني موجه إلى عيسى عليه السلام بما كان من رعاية الله له ولأمه ومن تأييده له وإظهار المعجزات على يديه . وإلهام الحواريين بالإيمان به وإنزال المائدة السماوية بناء على طلبهم منه والتماسه ذلك من الله عز وجل .

وثانيهما : تضمن حكاية سؤال موجه إلى عيسى عليه السلام أيضا عما إذا كانت عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه نتيجة لقوله ذلك لهم ، وحكاية جواب عيسى على السؤال فيه تنصل من ذلك وإشهاد لله على براءته وكونه لم يقل لهم إلا ما أمره به : أن اعبدوا الله ربي وربكم .

ويتبادر لنا من أسلوب الآيات أن المقطع الأول هو تمهيد للمقطع الثاني . وأن الثاني قد تضمن فيما تضمنه أو بعبارة أخرى استهدف فيما استهدفه التنديد بعقيدة النصارى بألوهية عيسى عليه السلام وأمه . وتبرئة عيسى من هذه الدعوة وتحميل مسؤوليتها على المعتقدين بها . وتقرير حقيقة دعوة عيسى ، وكونه لم يقل إلا ما أمر الله تعالى من أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكونه إنما دعا الناس إلى عبادة الله وحده ربه وربهم ، وكون ولادته وطفولته وكلامه الناس في هذه الطفولة وما جرى على يديه من معجزات إنما هو بإذن الله وعنايته وتأييده .

ولا نستبعد بل نرجح أن مشهدا ما قام بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريق من النصارى ، أو أن سؤالا ما وجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو أن بحثا ما أثير حول عيسى عليه السلام وشخصيته وأمه ورسالته ومعجزاته فكان مناسبة لنزول هذه الآيات ؛ لأن بعض ما جاء فيها بل أكثره قد جاء في آيات أخرى لمناسبات مروية ، ولا تبدو الحكمة في تكراره إلا أن تكون مناسبة جديدة جريا على النظم القرآني والهدف القرآني في تكرار القصص .

والقسم الأول من الآيات ورد ما يماثله بأسلوب آخر في سورة آل عمران . وكذلك ورد خبر تأييد الله تعالى عيسى عليه السلام بروح القدس في بعض آيات سورة البقرة . وعلقنا على هذا وذاك بما فيه الكفاية . والآيات هنا تلهم أنه استهدف تقرير كون ذلك إنما جرى بإذن الله تعالى . وهو ما تضمنت الأناجيل المتداولة عبارات عديدة منسوبة لعيسى عليه السلام فيها اعترافه به .

ومن الجديد في الآيات حكاية قول الذين كفروا من بني إسرائيل : إن ما جاء به عيسى من الآيات والبينات هو سحر . وفي الأناجيل المتداولة اليوم حكاية قولهم حينما كان عيسى يشفي المجانين : إنه يخرج الشياطين ببعل زيون رئيس الشياطين وإن به شيطانا ( 1 ){[895]} ، وكان بنو إسرائيل يعتقدون أن السحرة والعرافين يتعاملون مع الجن على ما أوردناه في سياق قصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة طه . وليس من مانع من أن يكون قولهم الصريح الذي حكته الآيات قد ورد في أناجيل وقراطيس لم تصل إلينا ، ونحن نعتقد ذلك . والله تعالى أعلم .

ومن الجديد في الآيات معجزة المائدة والتنصل المحكي على لسان عيسى عليه السلام من عقيدة النصارى بألوهيته وألوهية أمه .

ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم في صدد معاني الآيات ومحتواها .

( فأولا ) هناك رواية تذكر أن المائدة لم تنزل ؛ لأن الحواريين خافوا من إنذار الله بالعذاب بعد إنزالها فسحبوا طلبهم . ورواية أن عيسى عليه السلام قال لهم : إن تصوموا ثلاثين يوما لله يؤتكم كل ما تسألونه ، فصاموا فطلبوا المائدة ، فأنزلها الله مع الملائكة طائرة على خوان . وجمهور المفسرين يديرون الكلام على أن المائدة قد نزلت . وقد روى الطبري بطرقه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إن الله أنزل عليهم مائدة من خبز ولحم ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ) . وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن عمار ( 1 ){[896]} . ويظهر أن هذا الحديث لم يصح عند كثير من المؤولين الأولين كابن عباس والسدي والحسن وعكرمة وقتادة ؛ حيث روى الطبري عنهم روايات عديدة أخرى في صدد المائدة . ولو صح لكان الفيصل في هذه المسألة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب الصلاحية في الإخبار عن مثل هذه الأمور الغيبية . والحديث بعد غير متطابق تماما مع فحوى الآية وما رواه أهل التأويل وأورده المفسرون ، ولا يخلو من أمور غريبة عجيبة أيضا :

( 1 ) إن المائدة سمكة مشوية بدون فلوس وشوك ومعها ملح وبقل وخل وخبز عليه سمن وعسل وجبن وزيتون وقديد .

( 2 ) إنها سبعة أرغفة وسبعة حيتان .

( 3 ) إنها سمكة فيها طعم من كل طعام .

( 4 ) إنها من كل طعام عدا اللحم .

( 5 ) إنها من ثمار الجنة .

( 6 ) إنها خبز ورز وبقل .

( 7 ) إنها كانت تنزل حيثما نزل عيسى والحواريون إلى أن سرق بعضهم منها فانقطع نزولها .

( 8 ) لما نزلت قالوا لعيسى : كن أول الآكلين منها فقال : معاذ الله أن آكل منها ، فخاف الحواريون فلم يأكلوا منها ، فدعا أهل الفاقة والمرضى والمجذومين والبرص والمقعدين فأكلوا ، فلم يأكل فقير إلا غني ولا مبتل إلا عوفي ، وبقيت على هيئتها ، ثم طارت كما نزلت . وظلت تنزل أربعين ضحى فيقبل الناس على الأكل منها ثم تبقى على هيئتها ! ولم يرد شيء من ذلك في الصحاح .

ونبه على أن قصة المائدة لم ترد في الأناجيل المتداولة على الوجه الذي جاءت عليه في الآيات أو مقارب له . وإنما ورد فيها قصة معجزة لعيسى عليه السلام ؛ حيث قدم لجمع يبلغ خمسة آلاف خمسة أرغفة وسمكتين بعد أن قطعها فأكلوا وشبعوا وبقي من الكسر ما ملأ اثني عشرة قفة أو سبعة سلال ( 1 ){[897]} . وفي الإصحاح العاشر من سفر أعمال الرسل – من ملحقات الأناجيل التي سمي مجموعها العهد الجديد – قصة فيها شيء مقارب جاء فيها : ( إن سمعان أحد حواريي المسيح الملقب بطرس كان في الطريق إلى يافا ، فجاع ووقع عليه انجذاب ، فرأى السماء مفتوحة ووعاء هابطا كأنه سماط عظيم معقود من أطرافه الأربعة ومدلى على الأرض ، وكان فيه من كل ذوات الأربع ودواب الأرض وطيور السماء وإذا بصوت يقول : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : حاشا يا رب فإني لم آكل قط نجسا أو دنسا فخاطبه الصوت ثانية : ما طهره الله لا تنجسه أنت . وحدث هذا ثلاث مرات ، ثم رفع الوعاء إلى السماء ) ( 2 ){[898]} . غير أن المتبادر أن هذه القصة وتلك ليستا هما المائدة القرآنية . ويوجد في بيت المقدس مكان تقليدي يحترمه المسلمون والنصارى معا يعرف ببيت المائدة في العمارة المعروفة بالنبي داود ؛ حيث قد يفيد هذا أن النصارى أو فريقا منهم كانوا يتداولون خبر معجزة مائدة نزلت من السماء على المسيح والحواريين جيلا عن جيل . والروايات المأثورة عن زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقطع النظر عما فيها من غرابة قد تدل على أن قصة هذه المعجزة لم تكن مجهولة . ونحن نعتقد أن أهل بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرفوها عن طريق النصارى كما نعتقد أنها كانت واردة في بعض أسفارهم التي لم تصل إلى عهدنا . والقصة إنما ذكرت في القرآن بأسلوب خاطف لا بيان فيه على سبيل التذكير والاستطراد على ما يلهمه أسلوب الآيات وفحواها . ولا بد من أنها كانت معروفة في الوسط الذي كانت تتلى فيه لأن هدف القرآن التذكيري إنما يتحقق بذلك . وعلى كل حال فالإيمان بما أخبر القرآن به من خبر المائدة وما دار من حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين في صددها ودعاء عيسى لله وجواب الله واجب . مع القول : إنه لا بد لذكر ذلك بالأسلوب الذي جاء به من حكمة . ولعل من ذلك التلقين بعدم التثريب على الذين يرغبون في التماسهم رؤية بعض معجزات الله لأجل تقوية اليقين وطمأنينة القلب . وهو ما ذكر منه صورة عن إبراهيم عليه السلام على ما شرحناه في سياق الآية ( 260 ) من سورة البقرة . ثم الإنذار للذين يرتابون ويكفرون بعد ذلك بالله وآياته . وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى للمسلمين أيضا . والله تعالى أعلم .

( وثانيا ) إن الجمهور على أن المقطع التذكيري الأول هو مما سوف يخاطب الله تعالى عيسى عليه السلام به يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل . أما المقطع الثاني الذي فيه سؤال الله لعيسى وجواب عيسى عليه السلام فهناك من قال : إنه هو أيضا سيكون يوم القيامة . وهناك من قال : إنه كان يوم رفع الله عيسى عليه السلام إليه . وأصحاب القول الأول أولوا جملة : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } بأنها إشارة إلى ذلك اليوم الذي سوف يأتي . وأصحاب القول الثاني أولوها بأنها تنبيه تنويهي باليوم بمعنى هذا هو اليوم الذي ينفع الصادقين صدقهم . وليس هناك أثر نبوي ليكون حاسما . وقد صوب الطبري القول الأول . ويتبادر لنا أن القول الثاني هو الأوجه ؛ لأن الكلام سياق واحد وأسلوب واحد . فالمقطع التذكيري الأول بدأ بجملة : { وإذ قال الله يا عيسى } والمقطع الثاني الذي نزل فيه السؤال والجواب بدأ بنفس الجملة .

ونقول في صدد الحوار الذي حكته الآيات بين الله تعالى وعيسى عليه السلام : إن الإيمان بذلك واجب . ويتبادر لنا بالإضافة إلى ذلك أن من الحكمة في ذكره بالأسلوب الذي جاء به هو ما قلناه قبل التنديد بعقيدة النصارى في عيسى وأمه . وتبرئة عيسى من مسؤولية ذلك وتقرير حقيقة ما قاله للناس . وتقرير كون كل ما خالف ذلك فيما أيدي النصارى من أناجيل وأسفار ، وما هم عليه من عقائد هو مخالف لما أمر الله عيسى عليه السلام أن يقوله أو لما قاله .

والجمهور على أن كلمة : { نفسك } بالنسبة إلى الله التي حكيت على لسان عيسى هي في مقام الذات الإلهية وهو الصواب . وهو ما تكرر كثيرا في السور السابقة في هذا المعنى على ما نبهنا عليه .

أما جملة : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } فالمتبادر أنها أسلوبية للمقابلة ، وبسبيل التقرير بلسان عيسى بأن الله تعالى هو وحده الذي يعلم حقا بالنفوس وخلجات الصدور . وأنه هو وبالتالي سائر عباد الله لا يعلمون من أمر الله ومغيباته شيئا بقدرتهم . والله تعالى أعلم .

ونقول في صدد مدى ما ورد في الآيتين ( 116 و 117 ) من سؤال الله تعالى لعيسى عليه السلام عما إذا كان قال للناس : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وتنصله من ذلك : إن الطوائف النصرانية تسمي مريم أم الله وأم الرب ، وتتعبد لها كما تتعبد لعيسى عليه السلام على اعتبار أنه إله ، أو الله ؛ حيث ينطوي في هذا مصداق الخبر القرآني كما هو واضح . وجواب عيسى عليه السلام المحكي بأنه لم يقل لهم إلا ما أمره أن يقوله وهو : { اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } متسق مع عبارات كثيرة وردت في الأناجيل المتداولة المعترف بها مما أوردنا نماذج منها في سياق تفسير سورة مريم . وأسلوب تنصله المحكي قوي محكم . وموجه إلى العقول والقلوب معا ، ويتبادر لنا أن هذا من أهداف الآيات لتدعيم ما قرره القرآن من نبوة عيسى وعبوديته لله ومن وضع الأمر في شأنه في نصابه الحق . ثم لتدعيم دعوة النصارى إلى الارعواء وترك ما هم عليه من غلو وانحراف والرجوع إلى عقيدة وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن كل شائبة وتعدد وكون عيسى رسولا من رسل الله وحسب دعا مثلهم إلى عبادة الله ربه ورب جميع الناس .

وتعبير : { من دون الله } المحكي عن لسان عيسى لا يقتضي أن يكون قال لهم اتخذوني إلها لكم بدلا من الله . ويصح أن يكون قصد بها ( مع الله ) وبهذا يزول ما قد يورده النصارى من أن عيسى لم يقل ما جاء في القرآن بحرفيته . على أن في القرآن شواهد على أن جملة : { من دون الله } لا تعني بدلا من الله أو مكان الله . فآية سورة الزمر هذه : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ( 3 ) . وآية سورة يونس هذه : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ( 18 ) } صريحتان بأن الذين يعبدون من دون الله ويتخذون أولياء من دون الله لا ينكرون الله ويؤمنون به وإنما عبدوا من دون الله واتخذوا أولياء من دون الله مع الله وللاستشفاع بهم لديه .

هذا ، وهناك حديث يرويه الشيخان في سياق الآية ( 117 ) عن ابن عباس قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ، ثم قرأ : { كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين } ( الأنبياء : 104 ) ثم قال : ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي . فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) ( 1 ){[899]} .

وهذا خبر عن مشاهد الآخرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيوقف عنده ويؤمن به ، كما هو شأن أمثاله من أخبار المشاهد الأخروية في القرآن والأحاديث الصحيحة . والحكمة الملموحة في الحديث بالإضافة إلى ذلك الخبر الأخروي هي التأسي بكلام عيسى المحكي في الآية بسبيل التنصل مثله مما قد يرتكس فيه بعض أمته من بعده من انحراف وشذوذ ، وإنذار لأمته بذلك بقصد حملهم على خوف الله وتقواه واجتناب الشذوذ والانحراف . والله أعلم .

والآية ( 119 ) تنطوي على تنويه بالصادقين وبشرى لهم . وإطلاقها يفيد أنها في صدد كل صادق في إيمانه مستقيم على طريق الحق السوي . فهذا الصدق في هذا النطاق هو الكفيل بنجاة أصحابه يوم القيامة ، وبنيل رضاء الله عنهم ورضائهم عنه عز وجل بما يكون لهم منه من تكريم .

وطابع الختام بارز على الآية الأخيرة . مما تكرر مثله في خواتم سور عديدة .

ولقد وقف ابن كثير عند الآية ( 118 ) فقال : إن لها شأنا عظيما ونبأ عجيبا ، ثم أخذ يورد بعض أحاديث نبوية في سياقها . منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذر بصيغتين هذه إحداهما : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات ليلة ، فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها وهي : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 118 ) } فلما أصبح قلت : يا رسول الله مازلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها قال : إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا ) ومنها حديث أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال : ( إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول عيسى : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 118 ) } ، فرفع يديه فقال : اللهم أمتي وبكى فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فاسأله ما يبكيه فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما قال . فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح . ولا يمنع هذا صحتها . وفيها صورة من صور تأسي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمواقف وأقوال بعض الأنبياء في مناجاة الله عز وجل وصورة من صور عبادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشفقته بأمته . ومشهد من المشاهد الروحانية التي طمأنه فيها الله تعالى بأنه سيرضيه في أمته ولا يسوءه . وفيها في النهاية تطمين وبشرى لمن لا يشرك بالله شيئا من أهل هذه الأمة . والله تعالى أعلم .


[895]:انظر الإصحاحات 10 و 12 من إنجيل متى و 3 من مرقص و 11 من لوقا.
[896]:التاج ج 4 97.
[897]:انظر إنجيل متى الإصحاح 6 ويوحنا الإصحاح 15 ومرقص الإصحاح 6 ولوقا الإصحاح 9.
[898]:النص منقول من النسخة الكاثوليكية.
[899]:التاج ج 4 ص 111.