اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّـٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (119)

قرأ الجمهور " يومُ " بالرفع تنوين ، ونافع{[13009]} بالنصب من غير تنوين واختاره أبو عبيدة ونقل الزمخشري{[13010]} عن الأعمش " يوماً " بنصبه منوناً ، وابن عطية{[13011]} عن الحسن بن عياش الشامي : " يوم " برفعه منوناً ، فهذه أربع قراءات . فأما قراءة الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر ، والجملةُ في محل نصب بالقول . وأمَّا قراءة نافع ففيها أوجه ، أحدها : أنَّ " هذا " مبتدأ ، و " يوم " خبره كالقراءة الأولى ، وإنما بُنِي الظرفُ لإضافته إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً ، وهذا مذهب الكوفيين ، واستدلُّوا عليه بهذه القراءةِ ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون البناء إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماضٍ ، وعليه قولُ النابغة : [ الطويل ]

عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشِيبَ على الصِّبَا *** فَقُلْتُ : ألَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازعُ{[13012]}

وخَرَّجوا هذه القراءة على أن " يوم " منصوبٌ على الظرف ، وهو متعلق في الحقيقة بخبر المبتدأ أي : هذا واقعٌ أو يقع في يوم ينفع ، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضاً في المعنى . ومنهم من خرَّجه على أنَّ " هذا " منصوبٌ ب " قال " ، وأشير به إلى المصدر فنصبه على المصدر ، وقيل : بل أشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ : هل هو منصوبٌ نصب المفعول به أو نصبَ المصادر ؟ لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلاماً نحو : " قلت شعراً وخطبة " جَرَى فيه هذا الخلاف ، وعلى كلِّ تقدير ف " يوم " منصوبٌ على الظرف ب " قال " أي : قال الله هذا القولَ أو هذه الأخبارَ في وقتِ نفع الصادقين ، و " ينفع " في محلِّ خفضٍ بالإضافة ، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل وأنه أحد ثلاثةِ أشياء . وأمَّا قراءة التنوين فرفعه على الخبريةِ كقراءة الجماعة ، ونصبُه على الظرفِ كقراءة نافع ، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محل الوصفِ لما قبلها ، والعائدُ محذوفٌ ، وهي نظيرَةُ قوله تعالى :

{ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] ، فيكونُ محلُّ هذه الجملة إما رفعاً أو نصباً .

قوله : " صِدْقُهم " مرفوع بالفاعلية ، وهذه قراءة العامة ، وقُرِئ{[13013]} شاذاً بنصبه وفيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه منصوب على المفعول من أجله أي : ينفعهم لأجلِ صدقهم ، ذكر ذلك أبو البقاء{[13014]} ، وتبعه أبو حيان وهذا لا يجوزُ لأنه فات شرطٌ من شروط النصب ، وهو اتحاد الفاعل ، فإنَّ فاعلَ النفع غيرُ فاعل الصدقِ ، وليس لقائلٍ أن يقول : " يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل : الذين يَصْدُقون لأَجل صدقهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل " لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه ، وللقولِ فيه مجال . الثاني : على إسقاط حرف الجر أي : بصدقهم ، وهذا فيه ما عرف من أن حذف الحرف لا يطَّرد . الثالث : أنه منصوب على المفعول به ، والناصب له اسم الفاعل في " الصادقين " أي : الذين صدقوا صدقهم ، مبالغةً نحو : " صدقْت القتال " كأنك وعدتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه ، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له ، والعامل فيه اسم الفاعل قبله . الرابع : أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل : الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول : " صَدَق الصدقَ " ، وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ " ينفع " ضمير يعود على الله تعالى .

فصل في معنى الآية

أجْمَعُوا على أنَّ المُرادَ بِهَذَا اليَوْمِ هو يَوْمُ القِيَامةِ ، والمَعْنَى : أنَّ صِدْقَهُم في الدُّنْيَا يَنْفَعُهُم في الآخِرَةِ ؛ لأنَّ صِدْق الكُفَّار في القيامَةِ لا يَنْفَعُهُم ، ألا ترى أنَّ إبْلِيس قال : { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ هذا الصِّدقُ ، وهذا الكلامُ تَصْدِيقٌ من اللَّهِ تعالى لعيسى في قوله : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } [ المائدة : 117 ] .

وقيل : أرَادَ بالصَّادِقِين النَّبِيِّين .

وقال الكَلْبِيُّ : يَنْفَعُ المُؤمنين إيمانُهُمْ{[13015]} .

وقال قَتَادةُ : مُتَكَلِّمَان يَخْطُبَانِ يَوْمَ القيامةِ : عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، وهو ما قَصَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ - وعَدُوُّ الله إبْلِيس ، وهو قوله : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ } [ إبراهيم : 22 ] فَصَدَقَ عَدُوُّ الله يومئذٍ ، وكان قَبْلَ ذلك كَاذِباً ، فلم يَنْفَعْهُ صِدْقُهُ{[13016]} ، فأمَّا عيسى - عليه السَّلام - فكان صَادِقاً في الدُّنْيَا والآخِرَة فَنَفَعَهُ صِدْقُه .

وقال بَعْضُهُمْ : المرادُ صِدْقُهُمْ في العملِ للَّهِ في يومٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيَا ؛ لأنَّ دَارَ الآخِرَة دارُ جَزَاءٍ لا دار عَمَلٍ .

وقيل : المراد صِدْقُهُمْ في الآخِرَة وذلك في الشَّهادةِ لأنْبِيَائِهِم بالبلاغِ ، وفيما شَهِدُوا به على أنْفُسِهِمْ كالعَدَمِ من أعْمالِهِمْ ، ويكُونُ وجْهُ النَّفْع فيه أن يَكُفُّوا{[13017]} المُؤاخَذَة بِتَرْكِهِم كَتم الشَّهادَة ، فيُغفَرُ لهم بإقْرَارِهِم لأنْبِيَائِهِم على أنْفُسِهِم ، ثُمَّ بين ثَوَابَهُم ، فقال : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ، فبيَّن أنَّ ذلك النَّفْع هو الثَّوابُ ، وهو حَقِيقَةٌ خالِصَةٌ دائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بالتَّعْظِيم .

واعلم : أنَّه تبارك وتعالى إنَّما ذكر الثَّواب ، قال : { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ، فيذْكرُ معه لَفْظ التأبيد ، وإنَّمَا ذكر عِقَابَ الفُسَّاقِ من أهْلِ الإيمان ، فَيذْكرُ مَعَهُ لَفْظ الخُلُودِ ، ولم يَذْكُرْ مَعَهُ لفظ التَّأبِيدِ وقوله : { رَضِي اللَّهُ عنهم } معناه الدعاءُ .

{ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الجُمْهُور على أنَّ قوله : { ذَلِكَ الفوزُ العَظيمُ } عائِدٌ إلى جُمَلةِ ما تقدَّم من قوله : " لَهُمْ جَنَّاتٌ " ، إلى قوله : " ورضُوا عَنْهُ " .

قال ابنُ الخطيب{[13018]} : وعِنْدِي أنَّه يُحْتَمَل أنْ يكون مُخْتَصّاً بقوله : { رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ } ؛ لأنَّه ثَبَتَ عند أربَابِ العُقُولِ ، أن جُمْلة الجنَّة بما فِيهَا بالنِّسْبَةِ إلى رضوان الله - تبارك وتعالى - بالنِّسْبَةِ إلى الوُجُودِ ، وكيْفَ والجنَّة مَرْغُوبُ الشَّهْوَة ، والرِّضْوَان صفةُ الحقِّ ، وأيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا !


[13009]:ينظر: السبعة 250، والحجة 3/282، وحجة القراءات 242، والعنوان 88، وإعراب القراءات 1/151، وشرح شعلة 357، وشرح الطيبة 4/239، وإتحاف 1/547.
[13010]:ينظر: الكشاف 1/697.
[13011]:ينظر: المحرر الوجيز 2/264.
[13012]:تقدم.
[13013]:ينظر: البحر المحيط 4/69، الدر المصون 2/660.
[13014]:ينظر: الإملاء 1/234.
[13015]:ينظر: تفسير البغوي 2/82.
[13016]:ذكره السيوطي في "الدر"(2/617) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ عن قتادة.
[13017]:في أ: يكتموا.
[13018]:ينظر: الفخر الرازي 12/115.