قوله تعالى :{ فلما بلغ معه السعي } قال ابن عباس وقتادة : يعني المشي معه إلى الجبل . وقال مجاهد عن ابن عباس : لما شب حتى بلغ سعيه سعي إبراهيم ، والمعنى : بلغ أن يتصرف معه ويعينه في عمله . قال الكلبي : يعني العمل لله تعالى ، وهو قول الحسن و مقاتل بن حيان و ابن زيد ، قالوا : هو العبادة لله تعالى . واختلفوا في سنه ، قيل : كان ابن ثلاث عشرة سنة . وقيل : كان ابن سبع سنين . قوله تعالى : { قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } واختلف العلماء من المسلمين في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم بذبحه بعد اتفاق أهل الكتابين على أنه إسحاق ، فقال قوم : هو إسحاق وإليه ذهب من الصحابة : عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، ومن التابعين وأتباعهم : كعب الأحبار ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والزهري ، والسدي ، وهي رواية عكرمة و سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قالوا : وكانت هذه القصة بالشام . وروي عن سعيد بن جبير قال : أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام ، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى ، فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش ، ذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة وطويت له الأودية والجبال . وقال آخرون : هو إسماعيل ، وإليه ذهب عبد الله بن عمر ، وهو قول سعيد بن المسيب ، و الشعبي ، والحسن البصري ، ومجاهد ، و الربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، وهي رواية عطاء بن أبي رباح ، ويوسف بن ماهك عن ابن عباس ، قال : المفدي إسماعيل . وكلا القولين يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذهب إلى أن الذبيح إسحاق احتج من القرآن بقوله : { فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي } أمر بذبح من بشر به ، وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحاق ، كما قال في سورة هود : { فبشرناها بإسحاق }ومن ذهب إلى أنه إسماعيل احتج بأن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق بعد الفراغ من قصة المذبوح فقال : { وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين } دل على أن المذبوح غيره ، وأيضاً قال الله تعالى في سورة هود : { فبشرناها بإسحاق }ومن وراء إسحاق يعقوب ، فكما بشر بإسحاق بشره بابنه يعقوب ، فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه . قال القرظي : سأل عمر بن عبد العزيز رجلاً كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه : أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل ، ثم قال : يا أمير المؤمنين إن اليهود لتعلم ذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان أمر الله تعالى بذبحه ، ويزعمون أنه إسحاق بن إبراهيم . ومن الدليل عليه : أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج . قال الشعبي : رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة . وعن ابن عباس قال : والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة ، قد وحش ، يعني يبس . قال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء من الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل ؟ فقال : يا اصميع أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة ؟ إنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه . وأما قصة الذبح قال السدي : لما دعا إبراهيم فقال : رب هب لي من الصالحين ، وبشر به ، قال : هو إذاً لله ذبيح ، فلما ولد وبلغ معه السعي قيل له : أوف بنذرك ، هذا هو السبب في أمر الله تعالى إياه بذبح ابنه ، فقال عند ذلك ، لإسحاق : انطلق نقرب قرباناً لله تعالى فأخذ سكيناً وحبلاً وانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال ، فقال له الغلام : يا أبت أين قربانك ؟ فقال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك . { فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر } . وقال محمد بن إسحاق : كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام ، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي ، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة قربه ، وتعظيم حرماته ، أمر في المنام أن يذبحه ، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح تروى في نفسه أي : فكر من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحكم أم من الشيطان ؟ فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى في المنام ثانياً ، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله عز وجل ، فمن ثم سمي يوم عرفة . قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متواليات ، فلما تيقن ذلك أخبر به ابنه ، فقال : { يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى } . قرأ حمزة و الكسائي : ترى بضم التاء وكسر الراء ماذا تشير ؟ وإنما أمره ليعلم صبره على أمر الله تعالى ، وعزيمته على طاعته . وقرأ العامة بفتح التاء والراء إلا أبا عمرو فإنه يميل الراء . قال له ابنه : { يا أبت افعل ما تؤمر } وقال ابن إسحاق وغيره : فلما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه : يا بني خذ الحبل والمدية ننطلق إلى هذا الشعب نحتطب ، فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ثبير أخبره بما أمر . { قال : يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين }
{ فَلَمَّا بَلَغَ } الغلام { مَعَهُ السَّعْيَ } أي : أدرك أن يسعى معه ، وبلغ سنا يكون في الغالب ، أحب ما يكون لوالديه ، قد ذهبت مشقته ، وأقبلت منفعته ، فقال له إبراهيم عليه السلام : { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } أي : قد رأيت في النوم والرؤيا ، أن اللّه يأمرني بذبحك ، ورؤيا{[766]} الأنبياء وحي { فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } فإن أمر اللّه تعالى ، لا بد من تنفيذه ، { قَالَ } إسماعيل صابرا محتسبا ، مرضيا لربه ، وبارا بوالده : { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي : [ امض ] لما أمرك اللّه { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أخبر أباه أنه موطن نفسه على الصبر ، وقرن ذلك بمشيئة اللّه تعالى ، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة اللّه تعالى .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي } فصيحة ، أى : بشرناه بهذا الغلام الحليم ، ثم عاش هذا الغلام حتى بلغ السن التى فى إمكانه أن يسعى معه فيها ، ليساعده فى قضاء مصالحه .
قيل : كانت سن إسماعيل فى ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة .
{ قَالَ يا بني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } .
أى : فلام بلغ الغلام مع أبيه هذه السن ، قال الأب لابنه : يا بنى إنى رأيت فى منامى أنى أذبحك ، فانظر ماذا ترى فى شأن نفسك .
قال الآلوسى ما ملخصه : يحتمل أنه - عليه السلام - رأى فى منامه أنه فعل ذلك . . ويحتمل أنه رأى ما تأويله ذلك ، ولكنه لم يذكره وذكر التأويل ، كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة : رأيت فى المنام أنى ناج من هذه المحنة .
ورؤيا الأنبياء وحى كالوحى فى اليقظة ، وفى رواية أنه رأى ذلك فى ليلة التروية فأخذ بفكر فى أمره ، فسميت بذلك ، فلما رأى ما رآه سابقا عرف أن هذه الرؤيا من الله ، فسمى بيوم عرفة ، ثم رأى مثل ذلك فى الليلة الثالثة فهمَّ بنحره فسمى بيوم النحر .
ولعل السر فى كونه مناما لا يقظة ، أن تكون المبادرة إلى الامتثال ، أدل على كمال الانقياد والإِخلاص .
وإنما شاوره بقوله : { فانظر مَاذَا ترى } مع أنه سينفذ ما أمره الله - تعالى - به فى منامه سواء رضى إسماعيل أم لم يرض ، لأن فى هذه المشاورة إعلاما له بما رآه ، لكى يتقبله بثبات وصبر ، وليكون نزول هذا الأمر عليه أهون ، وليختبر عزمه وجلده .
وقوله : { قَالَ يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } حكاية لما رد به إسماعيل على أبيه إبراهيم - عليهما السلام - وهو رد يدل على علو كعبه فى الثبات ، وفى احتمال البلاء ، وفى الاستسلام لقضاء الله وقدره .
أى : قال الابن لأبيه : يا أبت افعل ما تؤمر به من قبل الله - تعالى - ولا تتردد فى ذلك وستجدنى ن شاء الله من الصابرين على قضائه .
وفى هذا الرد ما فيه من سمو الأدب ، حيث قدم مشيئة الله - تعالى - ، ونسب الفضل إليه ، واستعان به - سبحانه - فى أن يجعله من الصابرين على البلاء .
وهكذا الأنبياء - عليهم السلام - يلهمهم الله - تعالى - فى جميع مراحل حياتهم ما يجعلهم فى أعلى درجات السمو النفسى ، واليقين القلبى . والكمال الخلقى .
وقوله : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي : كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه . وقد كان إبراهيم ، عليه السلام ، يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد " فاران " وينظر في أمرهما ، وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك ، فالله أعلم .
وعن ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعطاء الخراساني ، وزيد بن أسلم ، وغيرهم : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } يعني : شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل ، { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } قال عبيد بن عمير : رؤيا الأنبياء وَحْي ، ثم تلا هذه الآية : { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى }
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أبو عبد الملك الكرندي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسرائيل بن يونس ، عن سِمَاك ، عن عكرمة{[25029]} ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رؤيا الأنبياء في المنام وَحْي " ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه{[25030]} .
وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه ، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه .
{ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي : امض لما أمرك{[25031]} الله من ذبحي ، { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أي : سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل . وصدق ، صلوات الله وسلامه عليه ، فيما وعد ؛ ولهذا قال الله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } [ مريم : 54 ، 55 ] .
وقوله : فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ يقول : فلما بلغ الغلام الذي بشر به إبراهيم معَ إبراهيم العملَ ، وهو السعي ، وذلك حين أطاق معونته على عمله .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَلَمَا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ يقول : العمل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال : لما شبّ حتى أدرك سعيُه سَعْيَ إبراهيمَ في العمل .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله ، إلا أنه قال : لما شبّ حين أدرك سعيه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال : سعي إبراهيم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ : سَعَي إبراهيم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قال : السّعْيُ ها هنا العبادة .
وقال آخرون : معنى ذلك : فلما مشى مع إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ : أي لما مشى مع أبيه .
وقوله : قالَ يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم خليل الرحمن لابنه : يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ وكان فيما ذكر أن إبراهيم نذر حين بشّرته الملائكة بإسحاق ولدا أن يجعله إذا ولدته سارّة لله ذبيحا فلما بلغ إسحاقُ مع أبيه السّعْي أُرِي إبراهيم في المنام ، فقيل له : أوف لله بنذرك ، ورؤيا الأنبياء يقين ، فلذلك مضى لما رأى في المنام ، وقال له ابنه إسحاق ما قال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال جبرائيل لسارَة : أبشري بولد اسمه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، فضربت جبهتها عَجَبا ، فذلك قوله : فَصَكّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ يا وَيْلَتَي أأَلِدُو وأنا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخا إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ إلى قوله : حَمِيدٌ مَجِيدٌ قالت سارَة لجبريل : ما آية ذلك ؟ فأخذ بيده عودا يابسا ، فلواه بين أصابعه ، فاهتزّ أخضر ، فقال إبراهيم : هو لله إذن ذَبيح فلما كبر إسحاق أُتِيَ إبراهيمُ في النوم ، فقيل له : أوفِ بنذرك الذي نَذَرْتَ ، إن الله رزقك غلاما من سارَة أن تذبحه ، فقال لإسحاق : انطلق نقرّب قُرْبانا إلى الله ، وأخذ سكينا وحبلاً ، ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام : يا أبت أين قُرْبانُك ؟ قالَ يا بنيّ أرَى في المَنامِ أنّي أذْبحُكَ فَانْظُرْ ماذَا تَرَى قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ فقال له إسحاق : يا أَبَتِ اشْدُد رِباطي حتى لا أضطرب ، واكففْ عني ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء ، فتراه سارَة فتحْزَن ، وأسْرعْ مرّ السكين على حَلْقي ليكون أهون للموت عليّ ، فإذا أتيتَ سارَة فاقرأ عليها مني السلام فأقبل عليه إبراهيم يقبله وقد ربطه وهو يبكي وإسحاق يبكي ، حتى استنقع الدموع تحت خدّ إسحاق ، ثم إنه جرّ السكين على حلقه ، فلم تَحِكِ السكين ، وضرب الله صفيحة من نحاس على حلق إسحاق فلما رأى ذلك ضرب به على جبينه ، وحزّ من قفاه ، فذلك قوله : فَلَمّا أسْلَما يقول : سلّما لله الأمر وَتَلّهُ للْجَبِينِ فنودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا بالحقّ فالتفت فإذا بكبش ، فأخذه وخَلّى عن ابنه ، فأكبّ على ابنه يقبله ، وهو يقول : اليوم يا بنيّ وُهِبْتَ لِي فلذلك يقول الله : وَفَديْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ فرجع إلى سارَة فأخبرها الخبر ، فجَزِعت سارَة وقالت : يا إبراهيم أردت أن تذبح ابني ولا تُعِلمْني .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا بُنَيّ إنّي أرَى فِي المَنامِ أنّي أذْبَحُكَ قال : رؤيا الأنبياء حقّ إذا رأوا في المنام شيئا فعلوه .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عبيد بن عمير ، قال : رؤيا الأنبياء وَحْي ، ثم تلا هذه الاَية : إنّي أرَى فِي الَمنامِ أنّي أذْبَحُكَ .
قوله : فانْظُرْ ماذَا تَرَى : اختلفت القرّاء في قراءة قوله : ماذَا تَرَى ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ، وبعض قرّاء أهل الكوفة : فانْظُرْ ماذَا تَرَى ؟ بفتح التاء ، بمعنى : أيّ شيء تأمر ، أو فانظر ما الذي تأمر ، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : ماذَا تُرَى بضم التاء ، بمعنى : ماذا تُشير ، وماذا تُرَى من صبرك أو جزعك من الذبح ؟ .
والذي هو أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : ماذَا تَرَى بفتح التاء ، بمعنى : ماذا ترى من الرأي .
فإن قال قائل : أَوَ كان إبراهيم يؤامر ابنه في المضي لأمر الله ، والانتهاء إلى طاعته ؟ قيل : لم يكن ذلك منه مشاورة لابنه في طاعة الله ، ولكنه كان منه ليعلم ما عند ابنه من العَزْم : هل هو من الصبر على أمر الله على مثل الذي هو عليه ، فيسرّ بذلك أم لا ، وهو في الأحوال كلها ماض لأمر الله .
وقوله : قالَ يا أبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ يقول تعالى ذكره : قال إسحاق لأبيه : يا أبت افعل ما يأمرك به ربك من ذبحي سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ يقول : ستجدني إن شاء الله صابرا من الصابرين لما يأمرنا به ربنا ، وقال : افعل ما تؤمر ، ولم يقل : ما تؤمر به ، لأن المعنى : افعل الأمر الذي تؤمره ، وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : «إني أرى في المنام : افعل ما أُمِرْت به » .
{ فلما بلغ معه السعي } أي فلما جد وبلغ أن يسعى معه في أعماله ، و { معه } متعلق بمحذوف دل عليه { السعي } لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه ولا يبلغ فإن بلوغهما لم يكن معا كأنه لما قال : { فلما بلغ السعي } فقيل مع من فقيل { معه } ، وتخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق والاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه ، أو لأنه استوهبه لذلك وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة . { قال يا بني } وقرأ حفص بفتح الياء . { إني أرى في المنام أني أذبحك } يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره ، وقيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح روى أنه من الله أو من الشيطان ، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك ، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر ، والأظهر أن المخاطب إسماعيل عليه السلام لأنه الذي وهب له أثره الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ، ولقوله عليه الصلاة والسلام " أنا ابن الذبيحين " . فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله ، فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل الله له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة ، فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإبل ، ولذلك سنت الدية مائة ولأن ذلك كان بمكة وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير ، ولم يكن إسحاق ثمة ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا ، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل أي النسب أشرف فقال : يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن خليل الله ، فالصحيح أنه قال : فقال " يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " والزوائد من الراوي . وما روي أن يعقوب كتب إلى يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياء فيهما . { فانظر ماذا ترى } من الرأي ، وإنما شاوره فيه وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله فيثبت قدمه إن جزع ، ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله ، وقرأ حمزة والكسائي " ماذا ترى " بضم التاء وكسر الراء خالصة ، والباقون بفتحها وأبو عمرو يميل فتحة الراء وورش بين بين والباقون بإخلاص فتحها . { قال يا أبت } وقرأ ابن عامر بفتح التاء . { افعل ما تؤمر } أي ما تؤمر به فحذفا دفعة ، أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به والإضافة إلى المأمور ، أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به ، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر ، ولعل الأمر في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص ، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا . { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } على الذبح أو على قضاء الله ، وقرأ نافع بفتح الياء .
و { السعي } في هذه الآية العمل والعبادة والمعونة ، هذا قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد ، وقال قتادة { السعي } على القدم يريد سعياً متمكناً وهذا في المعنى نحو الأول ، وقرأ الضحاك «معه السعي وأسر في نفسه حزناً » قال وهكذا في حرف ابن مسعود وهي قراءة الأعمش ، قوله { إني أرى في المنام أني أذبحك } يحتمل أن يكون رأى ذلك بعينه ورؤيا الأنبياء وحي ، وعين له وقت الامتثال ، ويحتمل أن أمر في نومه بذبحه فعبر هو عن ذلك أي { إني رأيت في المنام } ما يوجب أن { أذبحك } ، وقرأ جمهور الناس «ماذا تَرَى » بفتح والراء ، وقرأ حمزة والكسائي «تُرِي » بضم التاء وكسر الراء ، على معنى ما يظهر منك من جلد أو جزع ، وهي قراءة ابن مسعود والأسود بن يزيد وابن وثاب وطلحة والأعمش ومجاهد ، وقرأ الأعمش والضحاك «تُرَى » بضم التاء وفتح الراء على بناء الفعل للمفعول ، فأما الأولى فهي من رؤية الرأي ، وهي رؤية تتعدى إلى مفعول واحد ، وهو في هذه الآية إما { ماذا } ، بجملتها على أن تجعل «ما » و «ذا » بمنزل اسم واحد ، وإما «ذا » على أن تجعله بمعنى الذي ، وتكون «ما » استفهاماً وتكون الهاء محذوفة من الصلة{[9878]} ، وأما القراءة الثانية فيكون تقدير مفعولها كما مر في هذه ، غير أن الفعل فيها منقول من رأى زيد الشيء وأريته إياه ، إلا أنه من باب أعطيت فيجوز أن يقتصر على أحد المفعولين ، وأما القراءة الثانية فقد ضعفها أبو علي وتتجه على تحامل ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «افعل ما أمرت به » .