قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الآية . قال مقاتل والضحاك ( ما كان لبشر ) يعني عيسى عليه السلام ، وذلك أن نصارى نجران كانوا يقولون إن عيسى أمرهم أن يتخذوه رباً فقال تعالى ( ما كان لبشر ) يعني عيسى ( أن يؤتيه الله الكتاب ) أي الإنجيل . وقال ابن عباس وعطاء ( ما كان لبشر ) يعني محمدا ( أن يؤتيه الله الكتاب ) أي القرآن ، وذلك أن أبا رافع القرظي من اليهود ، والرئيس من نصارى أهل نجران قالا : يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك رباً ؟ فقال : معاذ الله أن آمر بعبادة غير الله ، وما بذلك أمرني الله ، وما بذلك بعثني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( ما كان لبشر ) أي ما ينبغي لبشر ، كقوله تعالى ( ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ) أي ما ينبغي لنا ، والبشر جميع بني آدم لا واحد له من لفظه ، كالقوم والجيش ، ويوضع موضع الواحد والجمع ، ( أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ) .
قوله تعالى : { والحكم } الفهم والعلم ، وقيل إمضاء الحكم عن الله عز وجل .
قوله تعالى : { والنبوة } المنزلة الرفيعة بالأنبياء .
قوله تعالى : { ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا } أي ولكن يقول كونوا .
قوله تعالى : { ربانيين } اختلفوا فيه ، قال علي وابن عباس والحسن : كونوا فقهاء ، علماء وقال قتادة : حكماء وعلماء وقال سعيد بن جبير : العالم الذي يعمل بعلمه ، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس : فقهاء معلمين . وقيل : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، وقال عطاء : حكماء وعلماء نصحاء لله في خلقه ، قال أبو عبيدة : سمعت رجلاً عالماً يقول : الرباني العالم بالحلال والحرام ، والأمر ، والنهي ، العارف بأنباء الأمة ، ما كان وما يكون ، وقيل : الربانيون فوق الأحبار ، والأحبار فوق العلماء ، والربانيون الذين جمعوا مع العلم البصائر بسياسة الناس . قال المؤرخ : كونوا ربانيين تدينون لربكم ، من الربوبية ، كان في الأصل ربي فأدخلت الألف للتفخيم ، ثم أدخلت النون لسكون الألف ، كما قيل : صنعاني وبهراني ، وقال المبرد : هم أرباب العلم ، سموا به لأنهم يربون العلم ، ويقومون به ويربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها ، وكل من قام بإصلاح الشيء وإتمامه فقد ربه يربه ، وأحدها ربان كما قالوا ربان ، وعطشان ، وشبعان ، وغرثان ، ثم ضمت إليه ياء النسبة ، كما يقال : لحياني ورقباني . وحكي عن علي رضي الله عنه أنه قال : هو الذي يربي علمه بعمله ، قال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة .
قوله تعالى : { بما كنتم } أي بما أنتم ، كقوله تعالى ( من كان في المهد صبياً ) أي من هو في المهد .
قوله تعالى : { تعلمون الكتاب } قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، " تعلمون " ، من التعليم ، وقرأ الآخرون " تعلمون " بالتخفيف من العلم .
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
وهذه الآية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالإيمان به ودعاهم إلى طاعته : أتريد يا محمد أن نعبدك مع الله ، فقوله { ما كان لبشر } أي : يمتنع ويستحيل على بشر من الله عليه بإنزال الكتاب وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق { أن يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } فهذا من أمحل المحال صدوره من أحد من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام ، لأن هذا أقبح الأوامر على الإطلاق ، والأنبياء أكمل الخلق على الإطلاق ، فأوامرهم تكون مناسبة لأحوالهم ، فلا يأمرون إلا بمعالي الأمور وهم أعظم الناس نهيا عن الأمور القبيحة ، فلهذا قال { ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } أي : ولكن يأمرهم بأن يكونوا ربانيين ، أي : علماء حكماء حلماء معلمين للناس ومربيهم ، بصغار العلم قبل كباره ، عاملين بذلك ، فهم يأمرون بالعلم والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة ، وبفوات شيء منها يحصل النقص والخلل ، والباء في قوله { بما كنتم تعلمون } إلخ ، باء السببية ، أي : بسبب تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه ، التي بدرسها يرسخ العلم ويبقى ، تكونون ربانيين .
ثم نزه الله - تعالى - أنبياءه - عليهم الصلاة والسلام - وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم عن أن يطلبوا من الناس أن يعبدوهم ، عقب تنزيهه - لذاته عما يقوله المفترون فقال - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ . . . . } .
قال ابن كثير : " عن ابن عباس قال : " قال أبو رافع القرظى حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل نصرانى من أهل نجران يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ - أو كما قال - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله ، ما بذلك أمرنى ولا بذلك بعثنى " - أو كما قال صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله فى ذلك قوله - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } إلى قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } .
فقوله - تعالى - { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } رد على أولئك الجاهلين الذين زعموا أن بعض النبيين يصح له أن يطلب من الناس أن يعبدوه من دون الله والمعنى : لا يصح ولا ينبغى ولا يستقيم عقلا لبشر آتاه الله - تعالى - وأعطاه { الكتاب } الناطق بالحق ، الآمر بالتوحيد ، الناهى عن الإشراك ، وآتاه { الحكم } أى العلم النافع والعمل به . وآتاه { النبوة } أى الرسالة التى يبلغها عنه - سبحانه - إلى الناس ، ليدعوهم إلى عبادته وحده ، وإلى مكارم الأخلاق ، لا يصح له ولا ينبغى بعد كل هذه النعم أن يكفرها { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } بعد هذا العطاء العظيم الذى وهبه الله له { كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } أى : لا ينبغى ولا يعقل من بشر آتاه الله كل هذه النعم أن يقول للناس هذا القول الشنيع وهو { كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ الله } لأن الأنبياء الذين آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة يحجزهم خوفهم من الله ، وإخلاصهم له ، عن أن يقولوا هذا القول المنكر ، كما يحجزهم عنه - أيضا - ما امتازوا به من نفوس طاهرة ، وقلوب نقية ، وعقول سليمة . . . لأنهم لو فرض أنهم قالوا ذلك لأخذهم الله - تعالى - أخذ عزيز مقتدر فهو - سبحانه - القائل : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } والتعبير بقوله - تعالى - : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } تعبير قرآنى بليغ ، إذ يفيد نفى الشأن وعدم اتفاق هذا المعنى مع الحقيقة المفروضة في الرسل الكرام - عليهم الصلاة والسلام - وشبيه بهذا التعبير قوله - تعالى - : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } و{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } وجاء العطف بثم فى قوله { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } للإشعار بالتفاوت العظيم بين ما أعطاه الله - تعالى - لأنبيائه من نعم ، وبين هذا القول المنكر الذى نفاه - سبحانه - عنهم ، وهو أن يقولوا للناس : اجعلوا عبادتكم لنا ولا تجعلوها لله - تعالى - .
ثم بين - سبحانه - ما يصح للأنبياء أن يقولوه للناس فقال - تعالى - { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } .
وقوله { رَبَّانِيِّينَ } جمع ربانى نسبة إلى الرب - عز وجل - بزيادة الألف والنون سماعا للمبالغة كما يقال فى غليظ الرقبة رقبانى وللعظيم اللحية : لحيانى .
والمراد بالربانى : الإنسان الذى أخلص لله - تعالى - فى عبادته ، وراقبه فى كل أقواله وأفعاله ، واتقاه حق التقوى ، وجمع بين العلم النافع والعمل به ، وقضى حياته فى تعليم الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم .
والمعنى : لا يصح لبشر آتاه الله ما آتاه من النعم أن يقول للناس اعبدونى من دون الله ، ولكن الذى يعقل أن يصدر منه هو أن يقول لهم : كونوا { رَبَّانِيِّينَ } أى منقلبين على طاعة الله - تعالى - وعبادته وحده بجد ونشاط وإخلاص ، بسبب كونكم تعلمون غيركم الكتاب الذى أنزله الله لهداية الناس وبسبب كونكم دارسين له ، أى قارئين له بتمهل وتدبر .
وقوله - تعالى - { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ } استدراك قصد به إثبات ما ينبغى للرسل أن يقولوه . بعد أن نفى عنهم ما لا ينبغى لهم أن ينطقوا به ، أى : لا ينبغى لبشر آتاه الله نعماً لا تحصى أن يقول للناس كونوا عباداً لى من دون الله ، ولكن الذى ينبغى له أن يقوله لهم هو قوله : كونوا ربانيين أى مخلصين له - سبحانه - العبادة إخلاصا تاما .
ففى الجملة الكريمة إضمار ، والتقدير : " ولكن يقول لهم كونوا ربانيين " فأضمر القول على حسب مذهب العرب فى جواز الإضمار إذا كان فى الكلام ما يدل عليه ، ونظيره قوله - تعالى - { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } أى فيقال لهم : أكفرتم ، والباء فى قوله { بِمَا كُنْتُمْ } للسببية . وما مصدرية أى بسبب كونكم معلمين الكتاب وبسبب كونكم دارسين له .
وقرأ أبو عمروا وابن كثير ونافع " تعلمون " بإسكان العين وفتح اللام - من العلم أى بسبب كونكم عالمين بالكتاب ودارسين له .
قال الرازى : دلت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانيا ، فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيه وخاب عمله ، وكان مثله كمثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع " .
قال محمد بن إسحاق : حدثنا محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القُرَظِي ، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران ، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدكَ كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أوَ ذاك تريد منا يا محمد ، وإليه تدعوننا ؟ أو كما قال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَعَاذَ اللهِ أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ ، أو أنْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِه ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي ، ولا بِذَلِكَ أَمَرَنِي " . أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } [ الآية ]{[5244]} إلى قوله : { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{[5245]} .
فقوله{[5246]} { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي : ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحُكْم والنبوة أن يقول للناس : اعبدوني من دون الله ، أي : مع الله ، فإذا{[5247]} كان هذا لا يصلح{[5248]} لنبي ولا لمرسل ، فلأن لا يصلح{[5249]} لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته . قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا - يعني أهل الكتاب - كانوا يَتعبَّدون لأحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى :
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ]{[5250]} } [ التوبة : 31 ] وفي المسند ، والترمذي - كما سيأتي - أن عَديّ بن حاتم قال : يا رسول الله ، ما عبدوهم . قال : " بَلَى ، إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلالَ ، فَاتَّبَعُوهُمْ ، فَذَلِكَ{[5251]} عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ " .
فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين ، فإنما يأمرون بما أمَرَ الله به وبلغتهم إياه رسله الكرام . إنما يَنْهَوْنهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام . فالرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعينَ ، هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة ، فقاموا بذلك أتم قيام ، ونصحوا الخلق ، وبلغوهم الحق .
وقوله : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } أي : ولكن يقول الرسول للناسِ : كونوا رَبَّانيين . قال ابن عباس وأبو رَزِين وغير واحد ، أي : حكماء علماء حلماء . وقال الحسن وغير واحد : فقهاء ، وكذا رُوِي عن ابن عباس ، وسعيد بن جُبير ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، وعطية العوفي ، والربيع بن أنس . وعن الحسن أيضا : يعني أهل عبادة وأهل تقوى .
وقال الضحاك في قوله : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } حَقٌ على من تعلم القرآن أن يكون فَقيهًا : " تَعْلَمُون " أي : تفهمون{[5252]} معناه . وقرئ { تُعَلِّمُون } بالتشديد من التعليم { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } تحفظون{[5253]} ألفاظه .
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لّي مِن دُونِ اللّهِ وَلََكِن كُونُواْ رَبّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وما ينبغي لأحد من البشر ، والبشر : جمع بني آدم ، لا واحد له من لفظه ، مثل القوم والخلق ، وقد يكون اسما لواحد . { أنْ يُوءْتِيَهُ اللّهُ الكِتابَ } يقول : أن ينزل الله عليه كتابه ، { والحُكْمَ } يعني : ويعلمه فصل الحكمة ، { وَالنُبُوّةَ } يقول : ويعطيه النبوّة ، { ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبادا لي مِنْ دُونِ اللّهِ } يعني : ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله ، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوّة ، ولكن إذا آتاه الله ذلك فإنما يدعوهم إلى العلم بالله ، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه ، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه ، وأئمة في طاعته وعبادته بكونهم معلمي الناس الكتاب ، وبكونهم دارسيه .
وقيل : إن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أتدعونا إلى عبادتك ؟ كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني ، يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَعَاذَ اللّهُ أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللّهِ ، أوْ نَأْمُرَ بِعِبادَةِ غَيْرِهِ ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي ، وَلا بِذَلِكَ أمَرَنِي » . أو كما قال¹ فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك من قولهم : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِيهُ اللّهُ الكِتابَ وَالحُكْمَ وَالنّبُوّةَ } . . . الآية ، إلى قوله بعد : { إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال أبو رافع القرظي ، فذكر نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِيَهُ اللّهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبادا لي مِنْ دُونِ اللّهِ } يقول : ما كان ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة يأمر عباده أن يتخذوه ربا من دون الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم ، بتحريفهم كتاب الله عن موضعه ، فقال الله عزّ وجلّ : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُوءْتِيَهُ اللّهُ الكِتابَ وَالحُكْمَ والنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ للنّاسِ كُونُوا عِبادا لِي مِنْ دُونِ اللّهِ } ثم يأمر الناس بغير ما أنزل الله في كتابه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ } .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : ولكن يقول لهم : كونوا ربانيين ، فترك القول استغناء بدلالة الكلام عليه .
وأما قوله : { كُونُوا رَبّانِيّينَ } فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : كونوا حكماء علماء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين : { كُونُوا رَبّانِيّينَ } قال : حكماء علماء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن منصور ، عن أبي رزين : { كُونُوا رَبّانِيّينَ } قال : حكماء علماء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن أبي رزين ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي رزين : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ } : حكماء علماء .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن في قوله : { كُونُوا رَبانِيّينَ } قال : كونوا فقهاء علماء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { كُونُوا رَبّانِيينَ } قال : فقهاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني القاسم ، عن مجاهد ، قوله : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ } قال : فقهاء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ } قال : كونوا فقهاء علماء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن منصور بن المعتمر ، عن أبي رزين في قوله : { كُونُوا رَبّانِيّينَ } قال : علماء حكماء . قال معمر : قال قتادة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { كُونُوا رَبّانِيّينَ } أما الربانيون : فالحكماء الفقهاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال الربانيون : الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ } يقول : كونوا حكماء فقهاء .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن يحيى بن عقيل في قوله الربانيون والأحبار ، قال : الفقهاء العلماء .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني ابن سنان القزاز ، قال : حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { كُونُوا رَبّانِيّينَ } قال : كونوا حكماء فقهاء .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { كُونُوا رَبّانِيّينَ } يقول : كونوا فقهاء علماء .
وقال آخرون : بل هم الحكماء الأتقياء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { كُونُوا رَبّانِيينَ } قال : حكماء أتقياء .
وقال آخرون : بل هم ولاة الناس وقادتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { كُونُوا رَبّانِيّينَ } قال : الربانيون : الذين يربون الناس ولاة هذا الأمر ، يربونهم : يلونهم . وقرأ : { لولا يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ والأحْبارُ } قال : الربانيون : الولاة ، والأحبار : العلماء .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين أنهم جمع ربانيّ ، وأن الربانيّ المنسوب إلى الرّبّان : الذي يربّ الناس ، وهو الذي يصلح أمورهم ويربها ، ويقوم بها ، ومنه قول علقمة بن عبدة :
وكنتَ امْرأً أفْضَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي *** وَقَبْلَكَ رَبّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوبُ
يعني بقوله : «ربّتني » : ولي أمري والقيام به قبلك من يربه ويصلحه ، فلم يصلحوه ، ولكنهم أضاعوني فضعت ، يقال منه : ربّ أمري فلان فهو بربّه رَبّا وهو رابّه ، فإذا أريد به المبالغة في مدحه قيل : هو رَبّان ، كما يقال : هو نعسان ، من قولهم : نَعَس ينعُس ، وأكثر ما يجيء من الأسماء على فعلان ما كان من الأفعال الماضية على فَعِل مثل قولهم : هو سكران وعطشان وريان ، من سَكِرَ يَسْكَر ، وعَطِش يَعطش ، ورَوِي يَرْوَى ، وقد يجيء مما كان ماضيه على فَعَل يَفْعُل ، نحو ما قلنا من نَعَسَ يَنْعُس ، ورَبّ يَرُبّ .
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ، وكان الربان ما ذكرنا ، والرباني : هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفت ، وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين ، يربّ أمور الناس بتعليمه إياهم الخير ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم ، وكان كذلك الحكيم التقيّ لله ، والولي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق بالقيام فيهم ، بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم ، وعائدة النفع عليهم في دينهم ودنياهم¹ كانوا جميعا مستحقين أنهم ممن دخل في قوله عزّ وجلّ { وَلَكِنْ كُونُوا رَبانِيّينَ } . فالربانيون إذا ، هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا ، ولذلك قال مجاهد : «وهم فوق الأحبار » ، لأن الأحبار هم العلماء . والرباني : الجامع إلى العلم والفقه ، البصرَ بالسياسة والتدبير ، والقيام بأمور الرعية ، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { بِمَا كُنْتُمْ تعَلّمُونَ الكِتابَ ، وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة قراء أهل الحجاز وبعض البصريين : «بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » بفتح التاء وتخفيف اللام ، يعني : بعلمكم الكتاب ، ودراستكم إياه وقراءتكم . واعتلّوا لاختيارهم قراءة ذلك كذلك ، بأن الصواب لو كان التشديد في اللام وضمّ التاء ، لكان الصواب في «تدرسون » بضم التاء وتشديد الراء . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الكِتابَ } بضم التاء من تعلّمون وتشديد اللام ، بمعنى : بتعليمكم الناس الكتاب ، ودراستكم إياه . واعتلّوا لاختيارهم ذلك بأن من وصفهم بالتعليم فقد وصفهم بالعلم ، إذ لا يعلّمون إلا بعد علمهم بما يعلمون .
قالوا : ولا موصوف بأنه يعلم ، إلا وهو موصوف بأنه عالم . قالوا : فأما الموصوف بأنه عالم ، فغير موصوف بأنه معلم غيره . قالوا : فأولى القراءتين بالصواب ، أبلغهما في مدح القوم ، وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلّمون الناس الكتاب . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن عيينة ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد أنه قرأ : «بِمَا كُنْتُ تَعْلَمُونَ الكِتابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ » مخففة بنصب التاء . وقال ابن عيينة : ما عَلّموه حتى عَلِموه .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأه بضم التاء وتشديد اللام ، لأن الله عزّ وجلّ وصف القوم بأنهم أهل عماد للناس في دينهم ودنياهم ، وأهل إصلاح لهم ولأمورهم وتربية ، يقول جلّ ثناؤه : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ } على ما بينا قبل من معنى الرباني . ثم أخبر تعالى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل إصلاح للناس ، وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتاب ربهم . ودراستهم إياه : تلاوته ، وقد قيل : دراستهم الفقه .
وأشبه التأويلين بالدراسة ما قلنا من تلاوة الكتاب ، لأنه عطف على قوله : { تُعَلّمُونَ الكِتابَ } ، والكتاب : هو القرآن ، فلأن تكون الدراسة معنيا بها دراسة القرآن أولى من أن تكون معنيا بها دراسة الفقه الذي لم يجر له ذكر . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : قال يحيى بن آدم : قال أبو زكريا : كان عاصم يقرؤها : { بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الكِتابَ } قال : القرآن ، { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } قال : الفقه .
فمعنى الاَية : ولكن يقول لهم : كونوا أيها الناس سادة الناس وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم ، ربانيين بتعليمكم إياهم كتاب الله ، وما فيه من حلال وحرام ، وفرض وندب ، وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم ، وبتلاوتكم إياه ودراستكمونه .