ثم وصف المنافقين فقال : { الذين يتخذون الكافرين أولياء } ، يعني : يتخذون اليهود أولياء وأنصاراً أو بطانة .
قوله تعالى : { من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة } ، أي : المعونة والظهر على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه . وقيل : أيطلبون عندهم القوة ؟
قوله تعالى : { فإن العزة } أي : الغلبة والقوة والقدرة . { لله جميعاً } .
{ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ْ }
البشارة تستعمل في الخير ، وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الآية . يقول تعالى : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ ْ } أي : الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ، بأقبح بشارة وأسوئها ، وهو العذاب الأليم ، وذلك بسبب محبتهم الكفار وموالاتهم ونصرتهم ، وتركهم لموالاة المؤمنين ، فأي شيء حملهم على ذلك ؟ أيبتغون عندهم العزة ؟
وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين ، ساء ظنهم بالله وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين ، ولحظوا بعض الأسباب التي عند الكافرين ، وقصر نظرهم عمّا وراء ذلك ، فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون بهم ويستنصرون .
والحال أن العزة لله جميعا ، فإن نواصي العباد بيده ، ومشيئته نافذة فيهم . وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين ، ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين ، وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة ، فإن العاقبة والاستقرار للمؤمنين ، وفي هذه الآية الترهيب العظيم من موالاة الكافرين ؛ وترك موالاة المؤمنين ، وأن ذلك من صفات المنافقين ، وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم ، وبغض الكافرين وعداوتهم .
ثم كشف - سبحانه - عن جانب من طبيعتهم المنكوسة فقال : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } .
أى : أنذر هؤلاء المنافقين بالعذاب الأليم ، الذين من صفاتهم أنهم يتخذون الكافرين أولياء ونصراء لهم تاركين ولاية المؤمنين ونصرتهم . فهم سلم على الكافرين وحرب على المؤمنين .
والمراد بالكافرين هنا : اليهود - على أرجح الأقوال - فقد حكى عن المنافقين أنهم كانوا يقولون : إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم لن يتم فتولوا اليهود ، ولأن غالب سكان المدينة - من غير المسلمين - كان من اليهود .
وقوله { مِن دُونِ المؤمنين } حال من فاعل يتخذون . أى : يتخذون الكفار أنصارا لهم حالة كونهم متجاوزين ولاية المؤمنين ونصرتهم .
والاستفهام فى قوله : { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة } للإِنكار والتعجب من شأنهم ، والتهكم من سوء تصورهم .
وقوله : { فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } رد على تصوراتهم الباطلة ، ومداركهم الفاسدة ، وتثبيت للمؤمنين حتى يزدادوا قوة على قوتهم .
أى : أن هؤلاء المنافقين قد تركوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين فما الذى دفعهم إلى هذا الانتكاس ؟ أيطلبون بلهفة ورغبة العزة والمنعة من عند الكافرين ؟ إذا كان هذا حالهم فقد خابوا وخسروا ، فإن العزة والقوة والمنعة والنصرة له وحده . ومن اعتز بغير الله هان وذل .
قال ابن كثير : والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جانب الله - تعالى - والإِقبال على عبوديته ، والانتظام فى جملة عباده المؤمنين ، الذين لهم النصرة فى الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذى رواه الإِمام أحمد عن أبى ريحانة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من انتسب إلى تسعة آباء كفار ، يريد بهم عزا وفخرا فهو عاشرهم فى النار " .
وقال الإِمام الرازى : وأصل العزة فى اللغة الشدة . ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة : عزاز . ويقال : قد استعز المرض على المريض إذا اشتد ظهره به . وشاة عزوز التى يشتد حبلها ويصعب . والعزة : القوة منقولة منا لشدة لتقارب معنييهما . والعزيز القوى المنيع بخلاف الذليل .
ثم قال : إذا عرفت هذا فنقول : إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود . ثم إنه - تعالى - أبطل عليهم هذا الرأى بقوله : { فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } .
فإن قيل : هذا كالمناقض لقوله : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } قلنا القدرة الكاملة لله . وكل من سواه فبالقداره صار قادرا . وبإعزازه صار عزيزا فالعزة الحاصلة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله - تعالى - فكأنه الأمر عند التحقيق أن العزة جميعا لله .
قالوا : وقد دلت الآية الكريمة على وجوب موالاة المؤمنين ، والنهى عن موالاة الكافرين . قال - تعالى - { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ }
( الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أيبتغون عندهم العزة ؟ فإن العزة لله جميعًا ) . .
والكافرون المذكورون هنا هم - على الأرجح - اليهود ؛ الذين كان المنافقون يأوون إليهم ؛ ويتخنسونعندهم ، ويبيتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد .
والله - جل جلاله - يسأل في استنكار : لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان ؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع ، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف ؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين ؟ لقد استأثر الله - عز وجل - بالعزة ؛ فلا يجدها إلا من يتولاه ؛ ويطلبها عنده ؛ ويرتكن إلى حماه .
وهكذا تكشف اللمسة الأولى عن طبيعة المنافقين ، وصفتهم الأولى ، وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين ، كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى ؛ وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون . وتقرر أن العزة لله وحده ؛ فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين !
ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة ، فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه . وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها . . العبودية لله . . فإن لا تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى ؛ وأشخاص شتى ؛ واعتبارات شتى ، ومخاوف شتى . ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد ولكل شيء ولكل اعتبار . .
وإنه إما عبودية لله كلها استعلاء وعزة وانطلاق . وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال . . ولمن شاء أن يختار . .
وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن . وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله . وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام ؛ ويتسمون بأسماء المسلمين ، وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض ، أن يتدبروا هذا القرآن . . إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين . . وإلا فإن الله غني عن العالمين !
ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين : الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر ؛ واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة ! كما يعتز ناس بالفراعنة والأشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا ، وحمية جاهلية . .
روى الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا أبو بكر بن عباس . عن حميد الكندي عن عبادة ابن نسي ، عن إبى ريحانة : أن النبي [ ص ] قال : من انتسب إلى تسعة آباء كفار ، يريد بهم عزا وفخرا ، فهو عاشرهم في النار . .
ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة . وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ . في كل أرض ، وفي كل جيل . وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم ، ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال .
المراد بالكافرين مشركو مكة ، أو أحْبار اليهود ، لأنّه لم يْبق بالمدينة مشركون صُرحاءَ في وقت نزول هذه السورة ، فليس إلاّ منافقون ويهود . وجملة { أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة لله } استئنافٌ بياني باعتبار المعطوف وهو { فإنّ العزّة لله } وقوله : { أيَبْتَغَون } هو منشأ الاستئناف ، وفي ذلك إيماء إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة ، لأنّ معظم المنافقين من اليهود ، بل اتّخذوهم ليعتزّوا بهم على المؤمنين ، وإيماء إلى أنّ المنافقين شعروا بالضعف فطلبوا الاعتزاز ، وفي ذلك نهاية التجهيل والذمّ . والاستفهامُ إنكار وتوبيخ ، ولذلك صحّ التفريع عنه بقوله : { فإنّ العزّة لله جميعاً } أي لا عزّة إلاّ به ، لأنّ الاعتزاز بغيره باطل . كما قيل : من اعتزّ بغير الله هَان . وإن كان المراد بالكافرين اليهود فالاستفهام تهكّم بالفريقين كقول المثل : كالمستغيث من الرمضاء بالنار . وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية .