32- قل لهم - يا محمد - منكراً عليهم افتراء التحليل والتحريم على الله : مَنْ الذي حرَّم زينة الله التي خلقها لعباده ؟ ومن الذي حرم الحلال الطيب من الرزق ؟ قل لهم : هذه الطيبات نعمة من الله ما كان ينبغي أن يتمتع بها إلا الذين آمنوا في الدنيا ، لأنهم يؤدون حقها بالشكر والطاعة ، ولكن رحمة الله الواسعة شملت الكافرين والمخالفين في الدنيا ، وستكون هذه النعم خالصة يوم القيامة للمؤمنين ، لا يشاركهم فيها غيرهم ، ونحن نفصل الآيات الدالة على الأحكام على هذا المنوال الواضح ، لقوم يدركون أن الله - وحده - مالك الملك بيده التحليل والتحريم .
قوله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } ، يعني لبس الثياب في الطواف .
قوله تعالى : { والطيبات من الرزق } ، يعني اللحم والدسم في أيام الحج ، وعن ابن عباس وقتادة : { والطيبات من الرزق } ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب . قوله تعالى : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة } ، فيه حذف تقديره : هي للذين آمنوا وللمشركين في الحياة الدنيا ، فإن أهل الشرك يشاركون المؤمنين في طيبات الدنيا ، وهي في الآخرة خالصة للمؤمنين لا حظ للمشركين فيها . وقيل : هي خالصة يوم القيامة من التنغيص والغم للمؤمنين ، فإنها لهم في الدنيا مع التنغيص والغم . وقرأ نافع : { خالصة } رفع ، أي قل : هي للذين آمنوا مشتركة في الدنيا ، خالصة يوم القيامة . وقرأ الآخرون بالنصب على القطع .
يقول تعالى منكرا على من تعنت ، وحرم ما أحل اللّه من الطيبات { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } من أنواع اللباس على اختلاف أصنافه ، والطيبات من الرزق ، من مأكل ومشرب بجميع أنواعه ، أي : مَن هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم اللّه بها على العباد ، ومن ذا الذي يضيق عليهم ما وسَّعه اللّه ؟ " .
وهذا التوسيع من اللّه لعباده بالطيبات ، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته ، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين ، ولهذا قال : { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : لا تبعة عليهم فيها .
ومفهوم الآية أن من لم يؤمن باللّه ، بل استعان بها على معاصيه ، فإنها غير خالصة له ولا مباحة ، بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها ، ويُسأل عن النعيم يوم القيامة .
{ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ } أي : نوضحها ونبينها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } لأنهم الذين ينتفعون بما فصله اللّه من الآيات ، ويعلمون أنها من عند اللّه ، فيعقلونها ويفهمونها .
فهذه الآية الكريمة تهدى الناس إلى ما يصلح معاشهم ومعادهم ، إذ أنها أباحت للمسلم أن يتمتع بالطيبات التي أحلها الله ، ولكن بدون إسراف أو بطر ، ولذا جاء الرد على المتنطعين الذين يضيقون على أنفسهم ما وشعه الله في قوله - تعالى - بعد ذلك : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ . . . } .
أى : قل يا محمد لأولئك الذين يطوفون بالبيت عرايا ، ويمتنعون عن أكل الطيبات : من أين أتيتم بهذا الحكم الذي عن طريقه حرمتم على أنفسكم بعض ما أحله الله لعباده ؟ فالاستفهام فإنكار ما هم عليه بأبلغ وجه .
ثم أمر رسوله أن يرد عليهم بأبلغ رد فقال : { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة } .
أى : قل أيها الرسول لأمتك : هذه الزينة والطيبات من الرزق ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، ويشاركهم فيها المشركون أيضاً ، أما في الآخرة فهى خالصة للمؤمنين ولا يشاركهم فيها أحد ممن أشرك مع الله آلهة أخرى .
وقوله - تعالى - : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } معناه : مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لقوم يعلمون ما في تضاعيفها من توجيهات سامية ، وآداب عالية .
ولا يكتفي السياق بالدعوة إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد ، وإلى الاستمتاع بالطيب من الطعام والشراب . بل يستنكر تحريم هذه الزينة التي أخرجها الله لعباده ، وتحريم الطيبات من الرزق . فمن المستنكر أن يحرم أحد - برأيه - ما أخرجه الله للناس من الزينة أو من الطيبات . فتحريم شيء أو تحليله لا يكون إلا بشرع من الله :
( قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق )?
ويتبع الاستنكار بتقرير أن هذه الزينة من اللباس ، وهذه الطيبات من الرزق ، هي حق للذين آمنوا - بحكم إيمانهم بربهم الذي أخرجها لهم - ولئن كان سواهم يشاركهم فيها في هذه الدنيا ، فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الذين كفروا :
( قل : هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة ) . .
ولن يكون الشأن كذلك ، ثم تكون محرمة عليهم ؛ فما يخصهم الله في الآخرة بشيء هو حرام !
( كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) .
والذي ( يعلمون ) حقيقة هذا الدين هم الذين ينتفعون بهذا البيان .
و{ زينة الله } هي ما حسنته الشريعة وقررته .
وزينة الدنيا هي كل ما اقتضته الشهوة وطلب العلو في الأرض كالمال والبنين وهي الزينة التي فضل الشرع عليها ، وقوله : { والطيبات } قال الجمهور يريد المحللات ، وقال الشافعي وغيره يريد المستلذات .
قال القاضي أبو محمد : إلا أن ذلك ولا بد يشترط فيه أن يكون من الحلال ، وإنما قاد الشافعي إلى هذا تحريمه المستقذرات كالوزغ وغيرها فإنه يقول هي من الخبائث محرمة .
وقوله تعالى : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } .
قرأ نافع وحده «خالصةٌ » بالرفع والباقون «خالصةً » بالنصب ، والآية تتأول على معنيين أحدهما أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات في الدنيا هي خالصة يوم القيامة للمؤمنين في الدنيا ، وخلوصها أنهم لا يعاقبون عليها ولا يعذبون ، فقوله { في الحياة الدنيا } متعلق ب { آمنوا } . وإلى هذا يشير تفسير سعيد بن جبير ، فإنه قال { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } ينتفعون بها في الدنيا ولا يتبعهم إثمها ، وقوله «خالصةٌ » بالرفع خبر هي ، و { للذين } تبيين للخلوص ، ويصح أن يكون خالصة خبراً بعد خبر ، و { يوم القيامة } يريد به وقت الحساب ، وقرأ قتادة والكسائي «قل هي لمن آمن في الحياة الدنيا » ، والمعنى الثاني هو أن يخبر أن هذه الطيبات الموجودات هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا وإن كانت أيضاً لغيرهم معهم وهي يوم القيامة خالصة لهم أي لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة ، وهذا قول ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد ، فقوله : { في الحياة الدنيا } على هذا التأويل متعلق بالمحذوف المقدر في قوله { للذين آمنوا } كأنه قال هي خالصة أو ثابتة في الحياة الدنيا للذين آمنوا ، و «خالصةٌ » بالرفع خبر بعد خبر ، أو خبر ابتداء مقدر تقديره : وهي خالصة يوم القيامة ، و { يوم القيامة } يراد به استمرار الكون في الجنة ، وأما من نصب «خالصةً » فعلى الحال من الذكر الذي في قوله { للذين آمنوا } ، التقدير هي ثابتة أو مستقرة للذين آمنوا في حال خلوص لهم ، والعامل فيها ما في اللام من معنى الفعل في قوله { للذين } . وقال أبو علي في الحجة : ويصح أن يتعلق قوله : { في الحياة الدنيا } بقوله { حرم } ولا يصح أن يتعلق ب { زينة } لأنها مصدر قد وصف ، ويصح أني يتعلق بقوله { أخرج لعباده } ويجوز ذلك وإن فصل بين الصلة والموصول بقوله : { قل هي للذين آمنوا } لأن ذلك كلام يشد القصة وليس بأجنبي منها جداً كما جاء في قوله : { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة } فقوله { وترهقهم ذلة } معطوف على { كسبوا } داخل في الصلة ، والتعلق ب { أخرج } هو قول الأخفش ويصح أن يتعلق بقوله : { والطيبات } . ويصح أن يتعلق بقوله : { من الرزق } ويصح أن يتعلق بقوله { آمنوا } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الأخير هو أصح الأقوال على هذا التأويل الأول فيما رتبناه هنا ، وأما على التأويل الآخر فيضعف معنى الآية هذه المتعلقات التي ذكر أبو علي ، وإنما يظهر أن يتعلق المحذوف المقدر في قوله { للذين آمنوا } وقوله تعالى : { كذلك } تقدير الكلام أي كما فصلنا هذه الأشياء المتقدمة الذكر فكذلك وعلى تلك الصورة نفصل الآيات أي نبين الأمارات والعلامات والهدايات لقوم لهم علم ينتفعون به ، و { نفصل } معناه نقسم ونبين لأن بيان الأمور المشبهات إنما هو في تقسيمها بالفصول .
استئناف معتَرَض بين الخطابات المحكيّة والموجّهة ، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهليّة فيما حرّموه من اللّباس والطّعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد ، فابتدىء الكلام السابق بأنّ اللباس نعمة من لله . وثني بالأمر بإيجاب التستر عند كل مسجد ، وثلث بانكاران يوجد تحريم اللباس وافتتاح الجملة ب { قل } دلالة على أنّه كلام مسوق للردّ والإنكار والمحاورة .
والاستفهام إنكاري قصد به التّهكّم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان والإفادة نظير قوله : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } [ الأنعام : 148 ] وقوله { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } [ الأنعام : 143 ] وقرينة التّهكّم : إضافة الزّينة إلى اسم الله ، وتعريفها بأنّها أخرجها الله لعباده ، ووصفُ الرّزق بالطّيبات ، وذلك يقتضي عدم التّحريم ، فالاستفهام يؤول أيضاً إلى إنكار تحريمها .
ولوضوح انتفاء تحريمها ، وأنّه لا يقوله عاقل ، وأنّ السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم ، أُمر السّائل بأن يجيب بنفسه سؤَالَ نفسِه ، فعُقب ما هو في صورة السؤال بقوله : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } على طريقة قوله : { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } في سورة الأنعام ( 12 ) ، وقوله { عم يتساءلون عن النبإ العظيم } [ النبأ : 1 ، 2 ] فآل السؤال وجوابه إلى خبرين .
وضمير : { هي } عائد إلى الزينة والطّيبات بقطع النّظر عن وصْف تحريم من حرّمها ، أي : الزّينةُ والطّيبات من حيث هي هي حلال للذين آمنوا فمن حرّمها على أنفسهم فقد حَرَمُوا أنفسهم .
واللاّم في : { للذين آمنوا } لام الاختصاص وهو يدلّ على الإباحة ، فالمعنى : ما هي بحرام ولكنّها مباحة للذين آمنوا ، وإنّما حَرَم المشركون أنفسهم من أصناف منها في الحياة الدّنيا كلّها مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما في بطونها ، وحَرَم بعض المشركين أنفسهم من أشياء في أوقات من الحياة الدّنيا ممّا حرّموه على أنفسهم من اللّباس في الطّواف وفي منى ، ومن أكل اللّحوم والودَك والسّمن واللّبن ، فكان الفوز للمؤمنين إذ اتّبعوا أمر الله بتحليل ذلك كلّه في جميع أوقات الحياة الدّنيا .
وقوله : { خالصة يوم القيامة } قرأه نافع ، وحده : برفع خالصة على أنّه خبر ثان عن قوله : { هي } أي : هي لهم في الدّنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة ، وقرأه باقي العشرة : بالنّصب على الحال من المبتدأ أي هي لهم الآن حال كونها خالصة في الآخرة ومعنى القراءتين واحد ، وهو أنّ الزّينة والطّيّبات تكون خالصة للمؤمنين يوم القيامة .
والأظهر أنّ الضّمير المستتر في { خالصة } عائد إلى الزّينة والطّيبات الحاصلة في الحياة الدّنيا بعينها ، أي هي خالصة لهم في الآخرة ، ولا شكّ أنّ تلك الزّينة والطّيّبات قد انقرضت في الدّنيا ، فمعنى خلاصها صفاؤها ، وكونه في يوم القيامة : هو أنّ يوم القيامة مظهر صفائِها أي خلوصها من التّبعات المنجرّة منها ، وهي تبعات تحريمها ، وتبعات تناول بعضها مع الكفر بالمنعِم بها ، فالمؤمنون لمّا تناولوها في الدّنيا تناولوها بإذن ربّهم ، بخلاف المشركين فإنّهم يسألون عنها فيعاقبون على ما تناولوه منها في الدّنيا ، لأنّهم كفروا نعمة المنعِم بها ، فأشركوا به غيره كما قال تعالى فيهم : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] وإلى هذا المعنى يشير تفسير سعيد بن جبير ، والأمر فيه على قراءة رفع : { خالصة } أنّه إخبار عن هذه الزّينة والطّيبات بأنّها لا تعقب المتمتّعين بها تبعات ولا أضراراً ، وعلى قراءة النّصب فهو نصب على الحال المقدرة .
ويحتمل أن يكون الضّمير في { خالصة } عائداً إلى الزّينة والطّيبات ، باعتبار أنواعها لا باعتبار أعيانها ، فيكون المعنى : ولهم أمثالها يوم القيامة خالصة .
ومعنى الخلاص التّمحض وهو هنا التّمحض عن مشاركة غيرهم من أهل يوم القيامة ، والمقصود أنّ المشركين وغيرهم من الكافرين لا زينة لهم ولا طيّبات من الرّزق يوم القيامة ، أي أنّها في الدّنيا كانت لهم مع مشاركة المشركين إياهم فيها ، وهذا المعنى مروي عن ابن عبّاس وأصحابه .
ومعنى : { كذلك نفصّل الآيات } كهذا التّفصيل المتبَدِيء من قوله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً } [ الأعراف : 26 ] الآيات أو من قوله : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } [ الأعراف : 3 ] . وتقدّم نظير هذا التّركيب في سورة الأنعام .
والمراد بالآيات الدّلائل الدّالة على عظيم قدرة الله تعالى ، وانفراده بالإلهيّة ، والدّالة على صدق رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم إذ بيَّن فساد دين أهل الجاهليّة ، وعلَّم أهل الإسلام علماً كاملاً لا يختلط معه الصّالح والفاسد من الأعمال ، إذ قال : خُذوا زينتكم ، وقال : { وكلوا واشربوا } [ الأعراف : 31 ] ، ثمّ قال : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] ، وإذ عاقب المشركين على شركهم وعنادهم وتكذيبهم بعقاب في الدّنيا ، فخذلهم حتّى وضعوا لأنفسهم شرعاً حَرَمَهم من طيّبات كثيرة وشوّه بهم بين الملإ في الحجّ بالعراء فكانوا مثَل سوءٍ ثمّ عاقبهم على ذلك في الآخرة ، وإذ وفق المؤمنين لَمَّا استعدّوا لقبول دعوة رسوله فاتّبعوه ، فمتّعهم بجميع الطّيبات في الدّنيا غير محرومين من شيء إلاّ أشياء فيها ضُر عَلِمه الله فحرّمها عليهم ، وسلَّمهم من العقاب عليها في الآخرة .
واللاّم في قوله : { لقوم يعلمون } لام العلّة ، وهو متعلّق بفعل { نفصل } ، أي تفصيل الآيات لا يفهمه إلاّ قوم يعلمون ، فإنّ الله لمّا فصّل الآيات يَعلم أنّ تفصيلها لقوم يعلمون ، ويجوز أن يكون الجارُّ والمجرور ظرفاً مستقراً في موضع الحال من الآيات ، أي حال كونها دلائل لقوم يعلمون ، فإنّ غير الذين لا يعلمون لا تكون آيات لهم إذ لا يفقهونها كقوله تعالى : { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } في سورة الأنعام ( 99 ) ، أي كذلك التّفصيل الذي فَصلتُه لكم هنا نفصّل الآيات ويتجدّد تفصلينا إياها حرصا على نفع قوم يعلمون .
والمراد بقوم يعلمون } الثّناءُ على المسلمين الذين فهموا الآيات وشكروا عليها ، والتّعريضُ بجهل وضلال عقول المشركين الذين استمرّوا على عنادهم وضلالهم ، رغم ما فصّل لهم من الآيات .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُلْ" يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يتعرّون عند طوافهم بالبيت، ويحرّمون على أنفسهم ما أحللت لهم من طيبات الرزق: "مَنْ حَرّمَ "أيها القوم عليكم "زِينَةَ اللّهِ" التي خلقها لعباده أن تتزينوا بها وتتجملوا بلباسها، والحلال من رزق الله الذي رزق خلقه لمطاعمهم ومشاربهم.
واختلف أهل التأويل في المعني بالطيبات من الرزق بعد إجماعهم على أن الزينة ما قلنا؛ فقال بعضهم: الطيبات من الرزق في هذا الموضع: اللحم، وذلك أنهم كانوا لا يأكلونه في حال إحرامهم...
وقال آخرون: بل عنى بذلك ما كانت الجاهلية تحرّم من البحائر والسوائب... "قُلْ هِيَ للّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدّنْيا خالِصَة يَوْمَ القِيامَةِ" يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء الذين أمرتك أن تقول لهم "مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ التي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطّيّباتِ مِن الرّزْقِ" إذ عيوا بالجواب فلم يدروا ما يجيبونك: زينة الله التي أخرج لعباده، وطيبات رزقه للذين صدّقوا الله ورسوله، واتبعوا ما أنزل إليك من ربك في الدنيا، وقد شركهم في ذلك فيها من كفر بالله ورسوله وخالف أمر ربه، وهي للذين آمنوا بالله ورسوله خالصة يوم القيامة، لا يشركهم في ذلك يومئذ أحد كفر بالله ورسوله وخالف أمر ربه...
"كَذَلِكَ نُفَصّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" يقول تعالى ذكره: كما بينت لكم الواجب عليكم في اللباس والزينة والحلال من المطاعم والمشارب والحرام منها، وميزت بين ذلك لكم أيها الناس، كذلك أبين جميع أدلتي وحججي وأعلام حلالي وحرامي وأحكامي لقوم يعلمون ما يبين لهم ويفقهون ما يميز لهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...في قوله تعالى: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} دليل إباحة الزينة والتّناول من الطيبات. وقد يحتمل أن يكون خرّج على النهي والإنكار على ما كان يفعله أهل الشرك من نحو تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة، فقال: {قل من حرّم} ما حرّمتم إذا لم يحرّمه الله؟ ألا ترى أنه قال: {قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن}؟ [الأعراف: 33] يقول، والله أعلم، لم يحرّم ما حرّمتموه من هذه الأشياء، ولكن حرّم الفواحش وما ذكر. [وأمّا] جوابهم أنهم ماذا يقولون؟ فهو يخرّج على وجهين: إن قالوا: حرّم الله: قيل لهم: متى حرّم، وأنتم قوم لا تؤمنون بالرسل والكتب؟ وإن قالوا: حرّم فلان قيل: كيف صدّقتم فلانا في تحريم ذلك، ولا تصدّقون الرسل في ما يخبرون عن الله تعالى مع ظهور صدقهم؟ يذكر سفههم في ذلك. وقوله تعالى: {قل من حرّم زينة الله} كأنه يقول: ليس لأحد تحريم ما ذكرنا إنما التحريم إلى الله، وإنما حرّم ما ذكر... {لقوم يعلمون} أي لقوم ينتفعون بعلمهم...
...والطيبات من الرزق قيل فيه وجهان، أحدهما: ما استطابه الإنسان واستلذّه من المأكول والمشروب، وهو يقتضي إباحة سائر المأكول والمشروب إلا ما قامت دلالة تحريمه. والثاني: الحلال من الرزق...
قوله تعالى: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ}. يعني أن الله تعالى أباحها وهي خالصة يوم القيامة لهم من شوائب التنغيص والتكدير. وقيل: هي خالصة لهم دون المشركين...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}: خالصة من مضرة أو مأثم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" كذلك نفصل الآيات "أي كما نميز لكم الآيات وندلكم بها على منافعكم وصلاح دينكم، كذلك نفصل الآيات لكل عاقل يعلم معناها ودلالتها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أي ريشكم ولباس زينتكم {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} كلما صليتم أو طفتم وكانوا يطوفون عراة. وعن طاوس، لم يأمرهم بالحرير والديباج، وإنما كان أحدهم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه، لأنهم قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها، وقيل: تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب...
والسنّة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة، وكان بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلاّ قوتاً، ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: فإنا أحق أن نفعل، فقيل لهم: كلوا واشربوا ولا تسرفوا. وعن ابن عباس رضي الله عنه: "كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{زينة الله} هي ما حسنته الشريعة وقررته. وزينة الدنيا هي كل ما اقتضته الشهوة وطلب العلو في الأرض كالمال والبنين، وقوله: {والطيبات} قال الجمهور يريد المحللات، وقال الشافعي وغيره يريد المستلذات...إلا أن ذلك ولا بد يشترط فيه أن يكون من الحلال،...
... يتناول جميع أنواع الزينة، فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين، ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه، ويدخل تحتها المركوب، ويدخل تحتها أيضا أنواع الحلي، لأن كل ذلك زينة، ولولا النص الوارد في تحريم الذهب والفضة والإبريسم على الرجال لكان ذلك داخلا تحت هذا العموم، ويدخل تحت الطيبات من الرزق، كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخل أيضا تحته التمتع بالنساء وبالطيب.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال المهايمي: يعني إن زعموا أن التزين والتلذذ ينافيان التذلل الذي هو العبادة، فيحرمان معها، فأعلمهم أنه قد أخرجها لعباده الذين خلقهم لعبادته ليتزينوا بها حال العبادة، فعل عبيد الملوك إذا حضروا خدمتهم، ولا ينافي ذلك تذللهم لهم، وكذلك الطيبات التي خلقها لتطييب قلوب عباده ليشكروه، والشكر عبادة، فلا ينافي التلذذ العبادة، بل قد يكون داعية إليها. انتهى...
" والطيبات من الرزق": قال المهايمي: إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذات الآخرة، فيرغبوا فيها مزيد رغبة، لكن شاركهم الكفرة فيها لئلا يكون هذا الفرق ملجئا له إلى الإيمان. فإذا ذهب هذا المعنى، تصير خالصة لهم يوم القيامة، فلو حرمت على المؤمنين لكانت مخلوقة للكافرين، وهو خلاف مقتضى الحكمة. وإن خلقت للمؤمنين فأولى أوقات الانتفاع بها وقت جريانهم على مقتضى الإيمان، وهو العبادة والتقوى، ولكن من غير انهماك في الشهوات...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
حرمت العرب في جاهليتها زينة اللباس في الطواف تعبدا وقربة، وحرم بعضهم أكل بعض الطيبات من الأدهان وغيرها في حال الإحرام بالحج كذلك، وحرموا من الحرث والأنعام ما بينه تعالى في سورة الأنعام، وحرم غيرهم من الوثنيين وأهل الكتاب كثيرا من الطيبات والزينة كذلك. فجاء دين الفطرة الجامع بين مصالح البشر في معاشهم ومعادهم، المطهر المربي لأرواحهم وأجسادهم ينكر هذا التحكم والظلم للنفس...
ولقد كانت غريزة حب الزينة وغريزة حب الطيبات من الرزق سببا لتوسع البشر في أعمال الفلاحة والزراعة وما يرقيها من فنون الصناعة وسائر وسائل العمران وإظهار عجائب علم الله وحكمته وقدرته في العالم، ورحمته وإحسانه بالخلق، ولو وقف الإنسان عند حد ما تنبت به الأرض من الغذاء لحفظ حياة أفراده الشخصية وبقاء حياته النوعية كسائر أنواع الحيوان لما وجد شيء من هذه العلوم والفنون والأعمال...
وقد كان تقشف بعض السلف عن قلة، وتقشف بعضهم لأجل القدوة، وإنما الزهد في القلب فلا ينافيه الاعتدال في الزينة وطيبات الأكل والشرب ولا كثرة المال، إذا أنفق في مصالح الأمة وتربية العيال.
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} أي من شأنهم العلم بأمثال هذه الأحكام وحكمها ولو بعد خطابهم بها، وقد سبق مثل هذا التعبير، والمعنى أن هذا التفصيل لحكم الزينة والطيبات الذي ضل فيه أفراد وأمم كثيرة من البشر إفراطا وتفريطا لا يعقله إلا القوم الذين يعلمون سنن الاجتماع وطبائع البشر ومصالحهم وطرق الحضارة الشريفة فيهم، وقد فصلها تعالى لهم بهذه الآيات الموافق هديها لفطرة الله التي فطر الناس عليها على لسان نبيه الأمي الذي لم يكن يعرف شيئا من تاريخ البشر في بداوتهم وحضارتهم وإفراطهم وتفريطهم فيهما قبل أن أنزل الله تعالى عليه كتابه الحكيم تبيانا لكل شيء يحتاجون إليه في سعادتهم فكان هذا التفصيل من الآيات العلمية على نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه خلاصة علوم كثيرة فاصلة بين النافع والضار. ما كان لمثله أن يعلمها بذكائه. وإنما هي وحي الله له.
نعم هكذا كان، فلولا القرآن لما خرجت العرب من ظلمات جاهليتها وبداوتها ووثنيتها إلى ذلك النور الذي صلحت به وأصلحت أمما كثيرة بالدين والعلوم والفنون والآداب بما أحيت من علوم الأوائل وفنونها وأصلحت من مفاسدها فصدق عليهم تعريف الدين المشهور بأنه: وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى ما فيه نجاحهم في الحال، وفلاحهم في المآل، أو إلى سعادة الدارين.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
..وهذا التوسيع من اللّه لعباده بالطيبات، جعله لهم ليستعينوا به على عبادته، فلم يبحه إلا لعباده المؤمنين، ولهذا قال: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: لا تبعة عليهم فيها. ومفهوم الآية أن من لم يؤمن باللّه، بل استعان بها على معاصيه، فإنها غير خالصة له ولا مباحة، بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها، ويُسأل عن النعيم يوم القيامة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف معتَرَض بين الخطابات المحكيّة والموجّهة، وهو موضع إبطال مزاعم أهل الجاهليّة فيما حرّموه من اللّباس والطّعام وهي زيادة تأكيد لإباحة التستر في المساجد، فابتدئ الكلام السابق بأنّ اللباس نعمة من لله. وثني بالأمر بإيجاب التستر عند كل مسجد، وثلث بإنكار أن يوجد تحريم اللباس وافتتاح الجملة ب {قل} دلالة على أنّه كلام مسوق للردّ والإنكار والمحاورة.
والاستفهام إنكاري قصد به التّهكّم إذ جعلهم بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان والإفادة نظير قوله: {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148] وقوله {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين} [الأنعام: 143] وقرينة التّهكّم: إضافة الزّينة إلى اسم الله، وتعريفها بأنّها أخرجها الله لعباده، ووصفُ الرّزق بالطّيبات، وذلك يقتضي عدم التّحريم، فالاستفهام يؤول أيضاً إلى إنكار تحريمها.
ولوضوح انتفاء تحريمها، وأنّه لا يقوله عاقل، وأنّ السؤال سؤال عالم لا سؤال طالب علم، أُمر السّائل بأن يجيب بنفسه سؤَالَ نفسِه، فعُقب ما هو في صورة السؤال بقوله: {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا} على طريقة قوله: {قل لمن ما في السموات والأرض قل لله} في سورة الأنعام (12)، وقوله {عم يتساءلون عن النبإ العظيم} [النبأ: 1، 2] فآل السؤال وجوابه إلى خبرين.
وضمير: {هي} عائد إلى الزينة والطّيبات بقطع النّظر عن وصْف تحريم من حرّمها، أي: الزّينةُ والطّيبات من حيث هي هي حلال للذين آمنوا فمن حرّمها على أنفسهم فقد حَرَمُوا أنفسهم.
واللاّم في: {للذين آمنوا} لام الاختصاص وهو يدلّ على الإباحة، فالمعنى: ما هي بحرام ولكنّها مباحة للذين آمنوا، وإنّما حَرَم المشركون أنفسهم من أصناف منها في الحياة الدّنيا كلّها مثل البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما في بطونها، وحَرَم بعض المشركين أنفسهم من أشياء في أوقات من الحياة الدّنيا ممّا حرّموه على أنفسهم من اللّباس في الطّواف وفي منى، ومن أكل اللّحوم والودَك والسّمن واللّبن، فكان الفوز للمؤمنين إذ اتّبعوا أمر الله بتحليل ذلك كلّه في جميع أوقات الحياة الدّنيا.
وقوله: {خالصة يوم القيامة} قرأه نافع، وحده: برفع خالصة على أنّه خبر ثان عن قوله: {هي} أي: هي لهم في الدّنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة، وقرأه باقي العشرة: بالنّصب على الحال من المبتدأ أي هي لهم الآن حال كونها خالصة في الآخرة ومعنى القراءتين واحد، وهو أنّ الزّينة والطّيّبات تكون خالصة للمؤمنين يوم القيامة.
والأظهر أنّ الضّمير المستتر في {خالصة} عائد إلى الزّينة والطّيبات الحاصلة في الحياة الدّنيا بعينها، أي هي خالصة لهم في الآخرة، ولا شكّ أنّ تلك الزّينة والطّيّبات قد انقرضت في الدّنيا، فمعنى خلاصها صفاؤها، وكونه في يوم القيامة: هو أنّ يوم القيامة مظهر صفائِها أي خلوصها من التّبعات المنجرّة منها، وهي تبعات تحريمها، وتبعات تناول بعضها مع الكفر بالمنعِم بها، فالمؤمنون لمّا تناولوها في الدّنيا تناولوها بإذن ربّهم، بخلاف المشركين فإنّهم يسألون عنها فيعاقبون على ما تناولوه منها في الدّنيا، لأنّهم كفروا نعمة المنعِم بها، فأشركوا به غيره كما قال تعالى فيهم: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82] وإلى هذا المعنى يشير تفسير سعيد بن جبير، والأمر فيه على قراءة رفع: {خالصة} أنّه إخبار عن هذه الزّينة والطّيبات بأنّها لا تعقب المتمتّعين بها تبعات ولا أضراراً، وعلى قراءة النّصب فهو نصب على الحال المقدرة.
ويحتمل أن يكون الضّمير في {خالصة} عائداً إلى الزّينة والطّيبات، باعتبار أنواعها لا باعتبار أعيانها، فيكون المعنى: ولهم أمثالها يوم القيامة خالصة.
ومعنى الخلاص التّمحض وهو هنا التّمحض عن مشاركة غيرهم من أهل يوم القيامة، والمقصود أنّ المشركين وغيرهم من الكافرين لا زينة لهم ولا طيّبات من الرّزق يوم القيامة، أي أنّها في الدّنيا كانت لهم مع مشاركة المشركين إياهم فيها، وهذا المعنى مروي عن ابن عبّاس وأصحابه.
ومعنى: {كذلك نفصّل الآيات} كهذا التّفصيل المتبَدِئ من قوله: {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} [الأعراف: 26] الآيات أو من قوله: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} [الأعراف: 3]. وتقدّم نظير هذا التّركيب في سورة الأنعام.
والمراد بالآيات الدّلائل الدّالة على عظيم قدرة الله تعالى، وانفراده بالإلهيّة، والدّالة على صدق رسوله محمّد صلى الله عليه وسلم إذ بيَّن فساد دين أهل الجاهليّة، وعلَّم أهل الإسلام علماً كاملاً لا يختلط معه الصّالح والفاسد من الأعمال، إذ قال: خُذوا زينتكم، وقال: {وكلوا واشربوا} [الأعراف: 31]، ثمّ قال: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]، وإذ عاقب المشركين على شركهم وعنادهم وتكذيبهم بعقاب في الدّنيا، فخذلهم حتّى وضعوا لأنفسهم شرعاً حَرَمَهم من طيّبات كثيرة وشوّه بهم بين الملإ في الحجّ بالعراء فكانوا مثَل سوءٍ ثمّ عاقبهم على ذلك في الآخرة، وإذ وفق المؤمنين لَمَّا استعدّوا لقبول دعوة رسوله فاتّبعوه، فمتّعهم بجميع الطّيبات في الدّنيا غير محرومين من شيء إلاّ أشياء فيها ضُر عَلِمه الله فحرّمها عليهم، وسلَّمهم من العقاب عليها في الآخرة.
واللاّم في قوله: {لقوم يعلمون} لام العلّة، وهو متعلّق بفعل {نفصل}، أي تفصيل الآيات لا يفهمه إلاّ قوم يعلمون، فإنّ الله لمّا فصّل الآيات يَعلم أنّ تفصيلها لقوم يعلمون، ويجوز أن يكون الجارُّ والمجرور ظرفاً مستقراً في موضع الحال من الآيات، أي حال كونها دلائل لقوم يعلمون، فإنّ غير الذين لا يعلمون لا تكون آيات لهم إذ لا يفقهونها كقوله تعالى: {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} في سورة الأنعام (99)، أي كذلك التّفصيل الذي فَصلتُه لكم هنا نفصّل الآيات ويتجدّد تفصلينا إياها حرصا على نفع قوم يعلمون.
والمراد ب"قوم يعلمون" الثّناءُ على المسلمين الذين فهموا الآيات وشكروا عليها، والتّعريضُ بجهل وضلال عقول المشركين الذين استمرّوا على عنادهم وضلالهم، رغم ما فصّل لهم من الآيات.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
...ومما يستلفت النظر تعبير الآية الكريمة هنا بكلمة "زينة الله "على حد التعبير الوارد في آية أخرى بكلمة {فطرت الله التي فطر الناس عليها}. ف {فطرت الله} وهي الإسلام تنسجم مع {زينة الله} تمام الانسجام، والتزمت والرهبانية والحرمان إنما هي بدع ابتدعها المنحرفون عن الفطرة السليمة، من أتباع الملل والمذاهب السقيمة. وقوله تعالى هنا: {التي أخرج لعباده} تنبيه إلى أن الحكمة الإلهية فيما خلقه الله من زينة وطيبات إنما هي إكرام الإنسان بسد حاجاته الضرورية، والترفيه عليه بشتى المتع والهبات الكمالية، على حد قوله تعالى في آية أخرى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا}. وقوله تعالى: {والطيبات من الرزق} يقتضي أن الخبائث من الرزق حرام وغير حلال، ومن أجل ذلك وصف الله رسوله في كتابه بقوله: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} ومن الرزق الخبيث ما كان حاصلا عن سرقة أو اختلاس أو غصب أو كسب غير مشروع.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{خَالِصَةً}: قال الراغب في المفردات: الخالص كالصافي، إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه.