قوله تعالى : { إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا } ، صدقا لا خلف فيه . نصب على المصدر ، أي : وعدكم وعدا حقا .
قوله تعالى : { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } ، أي : يحييهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم ، قراءة العامة : " إنه " بكسر الألف على الاستئناف ، وقرأ أبو جعفر أنه بالفتح على معنى بأنه { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } ، بالعدل { والذين كفروا لهم شراب من حميم } ، ماء حار انتهى حره . { وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } .
فلما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام ، وحكمه الديني وهو شرعه ، الذي مضمونه ومقصوده عبادته وحده لا شريك له ، ذكر الحكم الجزائي ، وهو مجازاته على الأعمال بعد الموت ، فقال : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } أي : سيجمعكم بعد موتكم ، لميقات يوم معلوم .
{ إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته ، والذي يرى ابتداءه بالخلق ، ثم ينكر إعادته للخلق ، فهو فاقد العقل منكر لأحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه ، فهذا دليل عقلي واضح على المعاد . وقد ذكر الدليل النقلي فقال : { وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } أي : وعده صادق لا بد من إتمامه { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا } بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به .
{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بجوارحهم ، من واجبات ، ومستحبات ، { بِالْقِسْطِ } أي : بإيمانهم وأعمالهم ، جزاء قد بينه لعباده ، وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } بآيات الله وكذبوا رسل الله .
{ لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ } أي : ماء حار ، يشوي الوجوه ، ويقطع الأمعاء . { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } من سائر أصناف العذاب { بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي : بسبب كفرهم وظلمهم ، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون .
ثم بين - سبحانه - أن مرجع العباد جميعا إليه ، وأنه سيجازي كل إنسان بما يستحق .
فقال - تعالى - { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً } .
أى : إلى الله - تعالى - وحده مرجعكم جميعا بعد الموت ليحاسبكم على أعمالكم ، وقد وعد الله بذلك وعدا صدقا ، ولن يخلف الله وعده .
قال أبو حيان : وانتصب { وَعْدَ الله } و { حَقّاً } على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة ، والتقدير وعد الله وعداً ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل ، وذلك كقوله " صبغة الله " و " صنع الله " والتقدير في { حقا } : حق " ذلك حقا " .
وقوله : { إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } كالتعليل لما أفاده قوله - سبحانه - { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } فإن غاية البدء والإِعادة هو الجزاء المناسب على الأعمال الدنيوية .
أى : إن شأنه - سبحانه - أن يبدأ الخلق عند تكوينه ثم يعيده إلى الحياة مرة أخرى بعد موته وفنائه .
ثم بين - سبحانه - الحكمة من الإِعادة بعد الموت الموت فقال : { لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
والقسط - كما يقول الراغب - النصب بالعدل . يقال : قسط الرجل إذا جار وظلم .
ومنه قوله - تعالى - { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } ويقال أقسط فلان إذا عدل ، ومنه قوله - تعالى - { وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } والحميم : الماء الذي بلغ أقصى درجات الحرارة ، قال - تعالى - { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أي : فعل ما فعل سبحانهن من بدء الخلق وإعادتهم ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بعدله الجزاء الطيب الذي أعده لهم ، وأما الذين كفروا فيجزيهم - أيضاً - بعدله ما يستحقونه من شراب حميم يقطع أمعاءهم ، ومن عذاب مؤلم لابدانهم ، وذلك بسبب كفرهم واستحبابهم العمى على الهدى .
وقوله : { بالقسط } حال من فاعل { ليجزي } ليجزيهم ملتبسا بالقسط .
ويصح أن يكون المعنى : فعل ما فعل ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن بسبب عدلهم وتمسكهم بتكاليف دينهم ، وأما الذين كفروا فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم .
قال الجمل ما ملخصه : وقال - سبحانه - { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ . . . } بتغيير في الأسلوب للمبالغة في استحقاقهم للعقاب . وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإِبداء والإِعادة هو الإِثابة . والعذاب وقع بالعرض . وأنه - تعالى - يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه ، ولذلك لم يعينه ، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم .
اعبدوه ولا تشركوا به شيئا . فإن مرجعكم إليه ، وحسابكم عنده ، وهو يجزي المؤمنين والكافرين :
( إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا ) . .
إليه وحده لا للشركاء والشفعاء .
وقد وعد فلا خلف ولا تخلف ، فالبعث هو تتمة الخلق :
( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ، والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) . .
فالعدل في الجزاء غاية من غايات الخلق والإعادة :
( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط . . . ) .
والنعيم بلا منغصات وبدون عقابيل تعقب اللذة غاية من غايات الخلق والإعادة . إنها قمة الكمال البشري الذي يمكن أن تصل إليه البشرية . والبشرية لا تصل إلى شيء من هذا في هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا المشوبة بالقلق والكدر ، والتي لا تخلو فيها لذة من غصة ، أو من عقابيل تعقبها - إلا لذائذ الروح الخالصة وهذه قلما تخلص لبشر - ولو لم يكن في هذه الحياة الدنيا إلا الشعور بنهاية نعيمها لكان هذا وحده ناقصا منها وحائلا دون كمالها . فالبشرية لا تصل في هذه الأرض إلى أعلى الدرجات المقدرة لها ، وهي التخلص من النقص والضعف ومعقباتهما ، والاستمتاع بلا كدر ولا خوف من الفوت ولا قلق من الانتهاء . . وهذا كله تبلغه في الجنة كما وصف القرآن نعيمها الكامل الشامل . فلا جرم يكون من غاية الخلق والإعادة إبلاغ المهتدين من البشرية ، الذين اتبعوا سنة الحياة الصحيحة وناموس الحياة القويم ، إلى أعلى مراتب البشرية .
فأما الذين كفروا فقد خالفوا عن الناموس ، فلم يسيروا في طريق الكمال البشري ، بل جانبوه . وهذا يقتضي - حسب السنة التي لا تتخلف - ألا يصلوا إلى مرتبة الكمال ، لأنهم جانبوا قانون الكمال ؛ وأن يلقوا عاقبة انحرافهم كما يلقى المريض عاقبة انحرافه عن قوانين الصحة الجسدية . هذا يلقاه مرضا وضعفا ، وأولئك يلقونه ترديا وانتكاسا ، وغصصا بلا لذائذ - في مقابل اللذائذ بلا غصص .
( والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) . .
وقوله { إليه مرجعكم جميعاً } الآية ، آية إنباء بالبعث من القبور وهي من الأمور التي جوزها العقل وأثبت وقوعها الشرع ، وقوله { جميعاً } الآية ، حال من الضمير في { مرجعكم } ، { وعد الله } نصب على المصدر ، وكذلك قوله { حقاً } وقال أبو الفتح { حقاً } نعت ، وقرأ الجمهور «إنه » بكسر الألف على القطع والاستئناف ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب وعبد الله «أنه » بفتح الألف ، وموضعها النصب على تقدير أحق أنه ، وقال الفراء : موضعها رفع على تقدير يحق أنه .
قال القاضي أبو محمد : يجوز عندي أن يكون { أنه } بدلاً من قوله { وعد الله } ، قال أبو الفتح : إن شئت قدرت لأنه يبدأ الخلق أي فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد . وإن شئت قدرته «وعد الله حقاً أنه » ولا يعمل فيه المصدر الذي هو { وعد الله } لأنه قد وصف فإذن ذلك بتمامه وقطع عمله{[6011]} ، وقرأ ابن أبي عبلة «حقٌّ » بالرفع فهو ابتداء وخبره «أنه » وقوله { يبدأ الخلق } يريد النشأة الأولى ، والإعادة هي البعث من القبور ، وقرأ طلحة «يُبدِىء الخلق » بضم الياء وكسر الدال ، وقوله { ليجزي } هي لام كي والمعنى أن الإعادة إنما هي ليقع الجزاء على الأعمال ، وقوله { بالقسط } أي بالعدل في رحمتهم وحسن جزائهم ، وقوله { والذين كفروا } ابتداء و «الحميم » الحار المسخن وهو فعيل بمعنى مفعول ومنه الحمام والحمة ومنه قول المرقش :
في كل يوم لها مقطرة *** وكباء معدة وحميم{[6012]}
وحميم النار فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه سلم إذا أدناه الكافر من فيه تساقطت فروة رأسه{[6013]} ، وهو كما وصفه تعالى { يشوي الوجوه }{[6014]} .