قوله تعالى : { واضرب لهم } يا محمد أي : لقومك { مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء } يعني : المطر ، { فاختلط به نبات الأرض } ، خرج منه كل لون وزهرة ، { فأصبح } عن قريب { هشيماً } يابساً . قال ابن عباس وقال الضحاك : كسيراً . والهشيم : ما يبس وتفتت من النبات فأصبح هشيماً ، { تذروه الرياح } ، قال ابن عباس : تثيره الرياح . وقال أبو عبيده : تفرقه . وقال القتيبي تنسفه { وكان الله على كل شيء مقتدراً } ، قادراً .
{ 45-46 } { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا *الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أصلا ، ولمن قام بوراثته بعده تبعا : اضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور ، ويعرفوا ظاهرها وباطنها ، فيقيسوا بينها وبين الدار الباقية ، ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار . وأن مثل هذه الحياة الدنيا ، كمثل المطر ، ينزل على الأرض ، فيختلط نباتها ، تنبت من كل زوج بهيج ، فبينا زهرتها وزخرفها تسر الناظرين ، وتفرح المتفرجين ، وتأخذ بعيون الغافلين ، إذ أصبحت هشيما تذروه الرياح ، فذهب ذلك النبات الناضر ، والزهر الزاهر ، والمنظر البهي ، فأصبحت الأرض غبراء ترابا ، قد انحرف عنها النظر ، وصدف عنها البصر ، وأوحشت القلب ، كذلك هذه الدنيا ، بينما صاحبها قد أعجب بشبابه ، وفاق فيها على أقرانه وأترابه ، وحصل درهمها ودينارها ، واقتطف من لذته أزهارها ، وخاض في الشهوات في جميع أوقاته ، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه ، إذ أصابه الموت أو التلف لماله ، فذهب عنه سروره ، وزالت لذته وحبوره ، واستوحش قلبه من الآلام وفارق شبابه وقوته وماله ، وانفرد بصالح ، أو سيئ أعماله ، هنالك يعض الظالم على يديه ، حين يعلم حقيقة ما هو عليه ، ويتمنى العود إلى الدنيا ، لا ليستكمل الشهوات ، بل ليستدرك ما فرط منه من الغفلات ، بالتوبة والأعمال الصالحات ، فالعاقل الجازم الموفق ، يعرض على نفسه هذه الحالة ، ويقول لنفسه : قدري أنك قد مت ، ولا بد أن تموتي ، فأي : الحالتين تختارين ؟ الاغترار بزخرف هذه الدار ، والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة ، أم العمل ، لدار أكلها دائم وظلها ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ؟ فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه ، وربحه من خسرانه .
قال الإِمام الرازى : " اعلم أن المقصود : اضرب لهم مثلا آخر يدل على حقارة الدنيا ، وقلة بقائها . والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين . . " .
والمعنى . واذكر لهم - أيها الرسول الكريم - ما يشبه هذه الحياة الدنيا فى حسنها ونضارتها ، ثم فى سرعة زوال هذا الحسن والنضارة ، لكى لا يركنوا إليها ، ولا يجعلوها أكبر همهم ، ومنتهى آمالهم .
وقوله : { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء . . } بيان للمثل الذى شبه الله - تعالى - به الحياة الدنيا أى : مثلها فى ازدهارها ثم فى زوال هذا الازدهار ، كهيئة أو كصفة ماء أنزلناه بقدرتنا من السماء ، فى الوقت الذى نريد إنزاله فيه .
{ فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } والاختلاط والخلط : امتزاج شيئين فأكثر بعضهما ببعض .
أى : كماء أنزلناه من السماء ، فاختلط وامتزج بهذا الماء نبات الأرض ، فارتوى منه وصار قويا بهيجا يعجب الناظرين إليه .
وفى التعبير بقوله : { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } دون قوله : فاختلط بنبات الأرض إشارة إلى كثرة الماء النازل من السماء ، وإلى أنه السبب الأساسى فى ظهور هذا النبات ، وفى بلوغه قوته ونضارته .
وقوله : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح } بيان لما صار إليه هذا النبات من يبوسته وتفتته ، بعد اخضراره وشدته وحسنه .
قال القرطبى ما ملخصه : { هشيما } أى متكسرا متفتتا ، يعنى بانقطاع الماء عنه ، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه ، والهشم ، كسر الشئ اليابس . والهشيم من النبات : اليابس المتكسر . . ورجل هشيم : ضعيف البدن .
و { تذروه الرياح } أى تفرقه وتنفسه . . يقال : ذرت الريح الشئ تذروه ذروا ، إذا طارت به وأذهبته .
أى : فأصبح النبات بعد اخضراره ، يابسا متفتتا ، تفرقه الرياح وتنسفه وتذهب به حيث شاءت وكيف شاءت .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد شبهت حال الدنيا فى حسنها وجمال رونقها ، ثم فى سرعة زوالها وفنائها بعد ذلك ، بحال النبات الذى نزل عليه الماء فاخضر واستوى على سوقه ، ثم صار بعد ذلك يابسا متفتتا تذهب به الرياح حيث شاءت .
والتعبير بالفاء فى قوله - سبحانه - فاختلط . فأصبح . . يزيد الأسلوب القرآنى جمالا وبلاغة ، لأن فاء التعقيب هنا تدل على قصر المدة التى استمر فيها النبات نضرا جميلا ، ثم صار هشيما تذروه الرياح .
وهكذا الحياة تبدو للمتشبثين بها ، جميلة عزيزة ، ولكنها سرعان ما تفارقهم ويفارقونها ، حيث ينزل بهم الموت فيجعل آمالهم تحت التراب .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله ، { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } أى : وكان الله - تعالى - وما زال - على كل شئ من الأشياء التى من جملتها الإِنشاء والإِفناء ؛ كامل القدرة ، لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء .
وقد ذكر - سبحانه - ما يشبه هذه الآية فى سور كثيرة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
وأمام هذا المشهد يضرب مثلا للحياة الدنيا كلها . فإذا هي كتلك الجنة المضروبة مثلا قصيرة قصيرة ، لا بقاء لها ولا قرار :
( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ، فأصبح هشيما تذروه الرياح ، وكان الله على كل شيء مقتدرا ) . .
هذا المشهد يعرض قصيرا خاطفا ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال . فالماء ينزل من السماء فلا يجري ولا يسيل ولكن يختلط به نبات الأرض . والنبات لا ينمو ولا ينضج ، ولكنه يصبح هشيما تذروه الرياح . وما بين ثلاث جمل قصار ، ينتهي شريط الحياة .
ولقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشاهد . بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء :
( ماء أنزلناه من السماء ) ف ( فاختلط به نبات الأرض ) ف ( أصبح هشيما تذروه الرياح ) فما أقصرها حياة ! وما أهونها حياة !
{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا } واذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها أو صفتها الغريبة . { كماءٍ } هي كماء ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل { اضرب } على أنه بمعنى صير . { أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض } فالتفت بسببه وخالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثفه ، أو نجع في النبات حتى روى ورف وعلى هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض لكنه لما كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته . { فأصبح هشيماً } مهشوما مكسورا . { تذرُوه الرياح } تفرقه ، وقرئ " تذريه " من أذرى والمشبه به ليس الماء ولا حاله بل الكيفية المنتزعة من الجملة ، وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر وارفاً ثم هشيماً تطيره الرياح فيصير كأن لم يكن . { وكان الله على كل شيء } من الإنشاء والإفناء . { مقتدِراً } قادرا .
قوله { الحياة الدنيا } يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وترفه ، وقوله { كماء } يريد هي كماء ، وقوله { فاختلط به } أي فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء ، فالباء في { به } باء السبب ، فأصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك ، لا أنه{[7813]} أراد اختصاصاً بوقت الصباح ، وهذا كقول الشاعر الربيع بن ضبع : [ المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أملك رأس البعير إن نفرا{[7814]}
و «الهشيم » المتفتت من يابس العشب ، ومنه قوله تعالى { كهشيم المحتظر }{[7815]} [ القمر : 31 ] ومنه هشم الثريد ، و { تذروه } ، بمعنى تفرقه ، وقرأ ابن عباس : «تذريه » ، والمعنى : تقلعه وترمي به ، وقرأ الحسن «تذروه الريح » بالإفراد ، وهي قراءة طلحة والنخعي والأعمش وقوله : { وكان الله } عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان ، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال عقله ، هذا قول سيبويه ، وهو معنى صحيح وقال الحسن { كان } : إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات ، أي إن القدرة كانت ، وهذا أيضاً حسن ، فمعنى هذا التأويل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي خضرة ونضرة عن المطر النازل ، ثم يعود بعد ذلك { هشيماً } ويصير إلى عدم ، فمن كان له عمل صالح ، يبقى في الآخرة فهو الفائز ، فكأن الحياة بمثابة الماء والخضرة ، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة ، ونحوه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به}، يعني: بالماء،
{تذروه الرياح}، يقول سبحانه: مثل الدنيا، كمثل النبت، بينما هو أخضر، إذ هو قد يبس وهلك، فكذلك تهلك الدنيا إذا جاءت الآخرة،
{وكان الله على كل شيء} من البعث وغيره، {مقتدرا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واضرب لحياة هؤلاء المستكبرين الذين قالوا لك: اطرد عنك هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ، إذا نحن جئناك الدنيا منهم "مثلاً "يقول: شبها "كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السّماءِ" يقول: كمطر أنزلناه من السماء "فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ" يقول: فاختلط بالماء نبات الأرض "فأصْبَحَ هَشِيما" يقول: فأصبح نبات الأرض يابسا متفتتا "تَذْرُوهُ الرّياحُ" يقول تطيره الرياح وتفرّقه...
"وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا" يقول: وكان الله على تخريب جنة هذا القائل حين دخل جنته: "ما أظُنّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدا وَما أظُنّ السّاعَةَ قائمَةً" وإهلاك أموال ذي الأمْوَالِ الباخلين بها عن حقوقها، وإزالة دنيا الكافرين به عنهم، وغير ذلك مما يشاء قادر، لا يعجزه شيء أراده، ولا يعْييه أمر أراده... يقول: فلا يفخر ذو الأموال بكثرة أمواله، ولا يستكبر على غيره بها، ولا يغترنّ أهل الدنيا بدنياهم، فإنما مَثَلُها مثل هذا النبات الذي حسُن استواؤه بالمطر، فلم يكن إلا رَيْثَ أن انقطع عنه الماء، فتناهى نهايته، عاد يابسا تذروه الرياح، فاسدا، تنبو عنه أعين الناظرين، ولكن ليعمل للباقي الذي لا يفنى، والدائم الذي لا يبيد ولا يتغير...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختلف أهل التأويل في ضرب هذا المثل:
قال بعضهم: ضرب هذا لمشركي العرب لأنهم ينكرون فناء الدنيا وهلاكها لأنها لا تبيد أبدا، فيقول: إن الذي يعاينون من فنائها ما ذكر من النبات وغيره، وهلاكه هو جزء منها. فإذا احتمل جزء منها الفناء والهلاك فعلى ذلك الكل. وقال بعضهم: وَجْهُ ضَرْبِ هذا المثل هو أهل الدنيا وطلابها إذا ظفروا بالدنيا وطمعوا بالانتفاع بها والاستمتاع بها كما طمع الزُّرَّاعُ بالظفر بذلك الزرع والوصول إلى الانتفاع بالزرع والوصول إلى مقصودهم. فعلى ذلك الدنيا يحال بين أهلها وطالبيها وبينها.
وقال بعضهم: وجه ضرب مثل الدنيا بما ذكر من النبات للتزيين والتحسين لأهلها كالنبات الذي ذكر أنه يعجب أهلها، ويتزين لهم ثم يفسد، ويصير مَؤُوفاً. فعلى ذلك الدنيا، وهو ما ذكر في آية أخرى {كمثل غيث أعجب الكفار نباته} الآية (الحديد: 20) هكذا، وما فيها، كله مشوب بالآفات والفساد...
وفي هذا المثل وجوه من الحكمة والدلالة:
أحدها: العظمة والاعتبار للمتفكرين والمعتبرين، والحجة على المعاندين والمكابرين في إنكارهم إحداث العالم ومحدثها وإنكارهم فناء العالم وإنكارهم البعث. أما إحداث العالم لما عاينوا حدوث أشياء منه واحدا بعد واحد. فعلى ذلك الكل. وأراهم أيضا فناء أشياء منها حتى لم يبق لها أثر. ثم حدث مثلها. فإذا ظهر هذا في بعض منها فكذلك الكل. فإذا ظهر حدوثه و فناؤه لا بد من قاصد يحدثها.
والثاني: دلالة البعث بما أراهم تجدد وإحداث هذه الأنزال والأشجار والنبات وغيرها والعود على ما كان بعد فنائها. فعلى ذلك إعادة العالم الذي هو المقصود في إنشاء تلك الأشياء. وذلك أولى بالإعادة من غيرهم من الأشياء؛ إذ هم المقصودون في خلق غيرهم من الأشياء. وبعد فإنهم قد اتفقوا على أن خلق الشيء و فناءه للهلاك خاصة من غير مقصود وعاقبة عبث، ليس بحكمة. فلو لم يكون بعث ولا إعادة يكن في خلقه إياهم حكمة لأنه يحصل خلقه للفناء والهلاك خاصة.
والثالث: في قوله {كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض} دلالة علمه وتدبيره وقدرته لأنه أخبر أنه ينزل من السماء ما يختلط به نبات الأرض. والماء من طبعه إفساد النبات إذا اختلط به. فإذا لم يفسده أحياه الاختلاط. دل أن في الماء معنى، به يحيا النبات، لا يعلم ذلك غيره. دل أنه عالم بذاته. والتدبير هو ما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بعد ما بينهما. دل أن ذلك بواحد عليم مدَبر قادر بذاته، وأن من قدر على ما ذكر من الإحداث والإفناء قادر على الإعادة والبعث، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نباتُ الأرض} يَحتمل وجهين:
أحدهما: أن الماء اختلط بالنبات حين استَوَى.
الثاني: أن النبات اختلط بعضُه ببعضٍ حين نزل عليه الماءُ حتى نما.
{فأصبح هشيماً تذروهُ الرياحُ} يعني بامتناع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازاً لدلالة الكلام عليه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
منْ وَطَّنَ النَّفْسَ على الدنيا وبهجتها غَرتْه بأمانيها، وخدعته بالأطماع فيها. ثم إنها تُخْفي الصَّابَ في شرابها، والحنظل في عَسَلها، والسرابَ في مآربها؛ تَعِدُ ولا تفي بِعِدَاتِها، وتُوفِي آفاتُها على خيراتها.. نِعمُها مشوبةً بِنِقَمِها، وبؤسُها مصحوبٌ بمأفوسها، وبلاؤها في ضمن عطائها. المغرورُ مَنْ اغترَّ بها، والمغبونُ مَنْ انخدع فيها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} فالتفّ بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً. وقيل: نجع في النبات الماء فاختلط به حتى روي ورف رفيفاً، وكان حق اللفظ على هذا التفسير: فاختلط بنبات الأرض. ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منهما بصفة صاحبه. والهشيم: ما تهشم وتحطم، الواحدة هشيمة...
شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والفناء، بحال النبات يكون أخضر وارفاً ثم يهيج فتطيره الرياح كأن لم يكن.
{وَكَانَ الله على كُلّ شيء} من الإنشاء والإفناء {مُّقْتَدِرًا}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الحياة الدنيا} يريد حياة الإنسان بما يتعلق بها من نعم وترفه، وقوله {كماء} يريد هي كماء، وقوله {فاختلط به} أي فاختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء، فالباء في {به} باء السبب، فأصبح عبارة عن صيرورته إلى ذلك، لا أنه أراد اختصاصاً بوقت الصباح،... و {تذروه}، بمعنى تفرقه... والمعنى: تقلعه وترمي به... وقوله: {وكان الله} عبارة للإنسان عن أن الأمر قبل وجود الإنسان هكذا كان، إذ نفسه حاكمة بذلك في حال عقله، هذا قول سيبويه، وهو معنى صحيح وقال الحسن {كان}: إخبار عن الحال قبل إيجاد الموجودات، أي إن القدرة كانت، وهذا أيضاً حسن. فمعنى هذا التأويل تشبيه حال المرء في حياته وماله وعزته وزهوه وبطره بالنبات الذي خضرة ونضرة عن المطر النازل، ثم يعود بعد ذلك {هشيماً} ويصير إلى عدم، فمن كان له عمل صالح، يبقى في الآخرة فهو الفائز، فكأن الحياة بمثابة الماء والخضرة، والنضارة بمنزلة النعيم والعزة، ونحوه...
{وكان الله على كل شيء مقتدرا} بتكوِينِه أولا وتنميتِه وسطاً وإبطالِه آخِراً، وأحوالُ الدنيا أيضا كذلك تَظهر أولا في غاية الحُسْن والنَّضارة ثم تتزايد قليلا قليلا ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الهلاك والفناء؛ ومِثْلُ هذا الشيءِ ليس للعاقل أن يَبتهِج به...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أبطرتهم، فكانت سبب إشقائهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامة لجميع الناس في قلة بقائها وسرعة فنائها، وأن من تكبر بها كان أخس منها فقال تعالى: {واضرب لهم} أي لهؤلاء الكفار المغترين بالعرض الفاني، المفتخرين بكثرة الأموال والأولاد وعزة النفر {مثل الحياة الدنيا} أي التي صفتها -التي هم بها ناطقون- تدل على أن ضدها الأخرى، في ينوعها ونضرتها، واختلابها للنفوس ببهجتها، واستيلائها على الأهواء بزهرتها، واختداعها لذوي الشهوات بزينتها، ثم اضمحلالها وسرعة زوالها، أفرح ما كانوا بها، وأرغب ما كانوا فيها مرة بعد أخرى، على مر الأيام وكر الشهور، وتوالي الأعوام وتعاقب الدهور، بحيث نادت على نفسها بالتحذير منها والتنفير عنها للعاقل اللقن، والكيس الفطن، رغبة إلى الباقي الذي يدوم سروره، ويبقى نعيمه وحبوره، وذلك المثل {كماء أنزلناه} بعظمتنا واقتدارنا بعد يبس الأرض وجفاف ما فيها وزواله، وبقلعه كما تشاهدونه واستئصاله، وقال: {من السماء} تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة على الوجه النافع {فاختلط} أي فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط {به نبات الأرض} أي التراب الذي كان نباتاً ارفت بطول العهد في بطنها، فاجتمع بالماء والتفّ وتكاثف، فهيأناه بالتخمير والصنع الذي لا يقدر عليه سوانا حتى أخرجناه من الأرض أخضر يهتز على ألوان مختلفة ومقادير متفاوتة ثم أيبسناه {فأصبح هشيماً} أي يابساً مكسراً مفتتاً {تذروه} أي تثيره و تفرقه وتذهب به {الرياح} حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن {وكان الله} أي المختص بصفات الكمال {على كل شيء} من ذلك وغيره إنشاء وإفناء وإعادة {مقتدراً} أزلاً وأبداً، فلا تظنوا أن ما تشاهدونه من قدرته حادث...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأمام هذا المشهد يضرب مثلا للحياة الدنيا كلها. فإذا هي كتلك الجنة المضروبة مثلا قصيرة قصيرة، لا بقاء لها ولا قرار:... هذا المشهد يعرض قصيرا خاطفا ليلقي في النفس ظل الفناء والزوال. فالماء ينزل من السماء فلا يجري ولا يسيل ولكن يختلط به نبات الأرض. والنبات لا ينمو ولا ينضج، ولكنه يصبح هشيما تذروه الرياح. وما بين ثلاث جمل قصار، ينتهي شريط الحياة. ولقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشاهد. بالتعقيب الذي تدل عليه الفاء: (ماء أنزلناه من السماء) ف (فاختلط به نبات الأرض) ف (أصبح هشيما تذروه الرياح) فما أقصرها حياة! وما أهونها حياة!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والحياة الدنيا: تُطلَق على مدة بقاء الأنواع الحية على الأرض وبقاء الأرض على حالتها. فإطلاق اسم الحياة الدنيا} على تلك المدة لأنها مدة الحياة الناقصة غير الأبدية لأنها مُقَدَّرٌ زوالُها، فهي دُنيا. وتطلق الحياة الدنيا على مدة حياة الأفراد، أي حياة كلِّ أحدٍ. ووصفُها بـ (الدنيا) بمعنى القريبة، أي الحاضرة غير المنتظرة، كنّى عن الحضور بالقُرْب، والوصف للاحتراز عن الحياة الآخرة وهي الحياة بعد الموت...
وهذا المَثَل منطبِقٌ على الحياة الدنيا بإطلاقَيْها، فهما مُرادان منه...
وجملة {وكان الله على كل شيء مقتدراً} جملة معترِضة في آخر الكلام. مَوقِعُها التذكيرُ بقدرة الله تعالى على خلْق الأشياء وأضدادها، وجعلِ أوائلها مُفْضِيةً إلى أواخرها، وترتيبِه أسبابَ الفناء على أسباب البقاء، وذلك اقتدارٌ عجيبٌ. وقد أفيد ذلك على أكمل وجه بالعموم الذي في قوله: {على كل شيء} وهو بذلك العموم أَشْبَهَ التذييل. والمقتدر: القوي القدرة...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وننبه على أنه ليس في هذه الآيات ولا في التي قبلها قصد تنفير المؤمنين من الحياة وزينتها وطيباتها ولا قصد ازدراء شأنها إطلاقا. فقد جاءت في صدد التنديد بزهو الكفار وتبجحهم وازدرائهم بفقراء المؤمنين وتقرير أفضلية الإيمان والعمل الصالح والحث عليهما. وإذا كانت قد تضمنت التذكير بأن الحياة الدنيا والمال والثروة والقوة أعراض زائلة وقصيرة الأمد فإن هذا بسبيل ذلك التنديد والحث والتقرير. وهو إلى هذا تقرير لواقع المر حقا بالنسبة للحياة الدنيا وعمر الإنسان فيها. والضابط المحكم في هذا الأمر آية سورة الأعراف: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعملون 32} وإذا كان من استدراك فهو ما تلهمه الآية التي قبل هذه الآية بخاصة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي نبهنا عليها في مناسبات عديدة سابقة بعامة وهو الإيمان بالله والعمل الصالح والاعتدال وعدم الإسراف وعدم الاستغراق...
الدنيا تبدو جميلة مزهرة مثمرة حلوة نضرة، وفجأة لا تجد في يديكَ منها شيئاً؛ لذلك سماها القرآن دنيا وهو اسم يوحي بالحَقارة، وإلا فأيُّ وصفٍ أقل من هذا يمكن أن يصفها به؟ لنعرف أن ما يقابلها حياةٌ عُلْيا...
"وكان الله على كل شيء مقتدراً" ... لأنه سبحانه القادر دائماً على إخراج الشيء إلى ضده،... فقد اقتدر سبحانه على الإيجاد، واقتدر على الإعدام، فلا تنفك عنه صفة القدرة أبداً، أحيا وأمات، وأعزَّ وأذلَّ، وقَبَضَ وبَسَطَ، وضَرَّ ونَفَعَ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويبقى تقديم الأمثال في طريقة عرض الفكرة أسلوباً قرآنياً، من أجل توضيح الصورة، وتحويلها في وعي الإنسان إلى حالةٍ حسية وجدانية، وذلك من خلال تحريك الحسّ في أجواء المعنى، لتتحرك تفاصيل الفكرة مع حركة تفاصيل الصورة في الواقع. {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} التي يريد للإنسان أن يعيشها في عمق وعيه، من موقع التأمّل المركّز في طبيعتها الزائلة الفانية، فهي تنطلق على الخط الذي يتصاعد بالقوة والنضارة والجمال، ثم يهبط نحو الضعف والذُّبول والزوال، حتى لا يبقى منها شيءٌ، وتفنى الصورة في الجسد، ويفنى الجسد في التراب... وبذلك لا يبقى من الإنسان إلا الاسم الذي يتردد على الشِّفاه، والذكرى التي تخطر على البال. وهذا ما يريد القرآن للإنسان أن يتمثّله في وجدانه، عندما تقفز الصورة الحلوة المغرية في دائرة عينيه، لتَسلُب لُبّه، ولتثير حسّه، ولتوحي له بكل إحساسٍ لذيذٍ، ولتدفع به نَوازع الحسّ اللاهي إلى الغفلة العميقة التي تبعده عن الله، وتنسيه نفسه، وتحرفه عن قضية المصير...
{فَأَصْبَحَ هَشِيمًا}... متقطِّعاً... {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} فهو الذي يخلق الحياة، ويمنحها قوّة الامتداد، وتنوُّع الشكل، ومواقع الحركة... ثم يدخلها بطريقة متنوعة في عالم الفناء، من أجل التحضير لموسم حياة جديد...