اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا} (45)

قوله تعالى : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا } الآية .

أي : واضرب ، يا محمد ، لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم ، وأنصارهم على فقراء المسلمين { مَّثَلَ الحياة الدنيا } ثم ذكر المثل فقال : { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } .

قوله : { كَمَآءٍ } : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدَّره ابن عطيَّة هي ، أي : الحياة الدنيا .

والثاني : أنه متعلق بمعنى المصدر ، أي : ضرباً كماء ، قاله الحوفيُّ . وهذا بناء منهما على أن " ضرب " هذه متعدية لواحدٍ فقط .

والثالث : أنه في موضع المفعول الثاني ل " اضْرِبْ " لأنها بمعنى " صَيِّرْ " وقد تقدم .

قال أبو حيان بعدما نقل قولي ابن عطيَّة والحوفيِّ : " وأقول : إنَّ " كماءٍ " في موضع المفعول الثاني لقوله " واضْرِبْ " ، أي : وصيِّر لهم مثل الحياة ، أي : صفتها شبه ماء " . قال شهاب الدين : وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء{[21107]} .

و " أنْزَلنَاهُ " صفة ل " مَاءٍ " .

قوله : " فاخْتلَطَ به " يجوز في هذه الباء وجهان :

أحدهما : أن تكون سببية .

الثاني : أن تكون متعدِّية ، قال الزمخشري : " فالتفَّ بسببه ، وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً ، وقيل : تجمع الماء في النبات ؛ حتى روي ورَفَّ رفيفاً ، وكان حق اللفظ على هذا التفسير : فاختلط بنباتِ الأرض ، ووجه صحته : أنَّ كلَّ مختلطين موصوف كل واحدٍ منهما بصفةِ الآخر " .

قوله : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً } " أصْبَحَ " يجوز أن تكون على بابها ؛ فإنَّ أكثر ما يطرقُ من الآفاتِ صباحاً ؛ كقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] ويجوز أن تكون بمعنى " صار " من غير تقييدٍ بصباحٍ ؛ كقوله : [ المنسرح ]

أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولاَ *** أمْلِكُ رَأسَ البعيرِ إنْ نَفرَا{[21108]}

والهشيمُ : واحده هشيمة ، وهو اليابس ، وقال الزجاج{[21109]} وابن قتيبة : كل ما كان رطباً ، فيَبِسَ ، ومنه { كَهَشِيمِ المحتظر } [ القمر : 31 ] ومنه : هشمتُ الفتَّ والهشيم : المتفتِّت المتكسِّر ، ومنه هشمت أنفه ، وهشَمَ الثَّريدَ : إذا فتَّه .

قال : [ الكامل ]

عَمْرُو الَّذي هَشمَ الثَّريدَ لقَومهِ *** ورِجَالُ مَكَّةَ مُسنتُونَ عِجَاف{[21110]}

قوله : " تَذرُوهُ " صفة ل " هَشِيماً " والذَّرْوُ : التفريق ، وقيل : الرفع .

والعامة " تَذْروهُ " بالواو ، وقرأ{[21111]} عبد الله " تَذْريه " من الذَّري ، ففي لامه لغتان : الواو والياء ، وقرأ ابن عبَّاس " تُذْريهِ " بضمِّ التاء من الإذراءِ ، وهذه تحتمل أن تكون من الذَّرْوِ ، وأن تكون من الذَّري ، والعامة على " الرَّياحِ " جمعاً ، وزيد بن عليِّ ، و الحسنُ ، والنخعيُّ في آخرين " الرِّيحُ " بالإفراد .

فصل في معنى ألفاظ الآية

و " مَثَل " معنى المثل ، قال ابن عباسٍ : يعني بالماءِ المطر ، نزل من السماء { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } خرج من كل لون وزهرة ، " فأصْبحَ " عن قريب " هَشِيماً " يابساً{[21112]} .

وقال الضحاك : كسيراً .

" تَذْروهُ الرِّياحُ " {[21113]} :

قال ابن عباس : تذريه{[21114]} .

وقال أبو عبيدة : تفرّقه{[21115]} .

وقال القتبي : تنسفه{[21116]} .

قوله : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } قادراً بتكوينه أولاً ، وتنميته وسطاً ، وإبطاله آخراً ، فأحوال الدنيا كذلك تظهرُ أولاً في غاية الحسن والنَّضارة ، ثم تتزايد قليلاً قليلاً ، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء والذَّهاب ، ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به .

فصل في حسن ترتيب الآيات


[21107]:ينظر: الإملاء 2/104.
[21108]:تقدم.
[21109]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 3/291.
[21110]:البيت لمطرود بن كعب الخزاعي ، ينظر: الاشتقاق ص 13 وأمالي المرتضى 2/268، معجم الشعراء ص 200، ولعبد الله بن الزبعرى في أمالي المرتضى 2/269، ولسان العرب "سنت"، "هشم"، المقاصد النحوية 4/140، الإنصاف 2/663، خزانة الأدب 11/367، رصف المباني ص 358، وسر صناعة الإعراب 2/535، وشرح شواهد الإيضاح ص 289، وشرح المفصل 9/36، والمقتضب 2/312، المنصف 2/231.
[21111]:ينظر في قراءتها: الشواذ 80، والقرطبي 1/268، والبحر 6/126، والدر المصون 4/461.
[21112]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/164).
[21113]:ينظر: المصدر السابق.
[21114]:ينظر : البغوي (3/164).
[21115]:ينظر : المصدر السابق.
[21116]:ينظر: المصدر السابق.