مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا} (45)

قوله تعالى :{ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا }

اعلم أن المقصود : اضرب مثلا آخر يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين فقال : { واضرب لهم } أي لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين : { مثل الحياة الدنيا } ثم ذكر المثل فقال : { كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض } وحينئذ يربو ذلك النبات ويهتز ويحسن منظره كما قال تعالى : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } ثم إذا انقطع ذلك مدة جف ذلك النبات وصار هشيما ، وهو النبت المتكسر المتفتت . ومنه قوله : هشمت أنفه وهشمت الثريد . وأنشد :

عمرو الذي هشم الثريد لأهله*** ورجال مكة مسنتون عجاف

وإذا صار النبات كذلك طيرته الرياح وذهبت بتلك الأجزاء إلى سائر الجوانب : { وكان الله على كل شيء مقتدرا } بتكوينه أولا وتنميته وسطا وإبطاله آخرا وأحوال الدنيا أيضا كذلك تظهر أولا في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلا قليلا ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الهلاك والفناء ؛ ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به . والباء في قوله : { فاختلط به نبات الأرض } فيه وجوه . الأول : التقدير فاختلط بعض أنواع النبات بسائر الأنواع بسبب هذا الماء وذلك لأن عند نزول المطر يقوي النبات ويختلط بعضه بالبعض ويشتبك بعضه بالبعض ويصير في المنظر في غاية الحسن والزينة . والثاني : فاختلط ذلك الماء بالنبات واختلط ذلك النبات بالماء حتى روى ورف رفيفا . وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منها بصفة صاحبه .