الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا} (45)

قوله تعالى : " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا " أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين مثل الحياة الدنيا ، أي شبهها . " كماء أنزلناه من السماء فاختلط به " أي بالماء . " نبات الأرض " حتى استوى . وقيل : إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء ؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر . وقد تقدم هذا المعنى في " يونس " {[10550]} مبينا . وقالت الحكماء : إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع ، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد ، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا ، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى ، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها ، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا ، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا ، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر . وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل : يا رسول الله ، إني أريد أن أكون من الفائزين ، قال : ( ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي ) . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه ) . " فأصبح " أي النبات " هشيما " أي متكسرا من اليبس متفتتا ، يعني بانقطاع الماء عنه ، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه . والهشم : كسر الشيء اليابس . والهشيم من النبات اليابس المتكسر ، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء . ومنه قولهم : ما فلان إلا هَشِيمَةُ كَرْمٍ ، إذا كان سمحا . ورجل هشيم : ضعيف البدن . وتهشم عليه فلان إذا تعطف . واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه . ويقال : هشم الثريد ، ومنه سمي هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو ، وفيه يقول عبد الله بن الزبعرى :

عَمْرُو العُلاَ هَشَم الثَّرِيدَ لقومِه*** ورجالُ مَكَّة مُسْنِتُونَ عِجَافُ

وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون{[10551]} ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له ، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة ، وهشم ذلك الخبز ، يعني كَسَّره وثَرَّدَه ، ونحر تلك الإبل ، ثم أمر الطهاة فطبخوا ، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة ، فكان ذلك أول الحِبَاء بعد السنة التي أصابتهم ، فسمي بذلك هاشما . " تذروه الرياح " أي تفرقه ، قاله أبو عبيدة . ابن قتيبة : تنسفه . ابن كيسان : تذهب به وتجيء . ابن عباس : تديره ، والمعنى متقارب . وقرأ طلحة بن مصرف " تذريه الريح " . قال الكسائي : وفي قراءة عبدالله " تذريه " . يقال : ذرته الريح تذروه ذروا و[ تذريه ] ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به . وحكى الفراء : أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته . وأنشد سيبويه والفراء :

فقلت له صَوِّبْ ولا تَجْهَدَنَّهُ *** فَيُذْرِك{[10552]} من أخْرَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ

قوله تعالى : " وكان الله على كل شيء مقتدرا " من الإنشاء والإفناء والإحياء ، سبحانه .


[10550]:راجع جـ 8 ص 326.
[10551]:في جـ: سنوات.
[10552]:في كتاب سيبويه: "فيدنك" وهي رواية أخرى في البيت. وقد نسبه سيبويه إلى عمرو بن عمار الطائي. ومعنى صوب: خذ القصد في السير وارفق بالفرس ولا تجهد. وأخرى القطاة: آخرها والقطاة: مقعد الردف. (أي مؤخر الظهر حيث يكون ردف الراكب) يقول هذا لغلامه وقد حمله على فرسه ليصيد له. (راجع الشنتمري على كتاب سيبويه).