المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

16- وقال بعضهم لبعض : ما دمنا قد اعتزلنا القوم في كفرهم وشركهم فالجأوا إلى الكهف فراراً بدينكم ، يبسط لكم ربكم من مغفرته ، ويسهل لكم من أمركم ما تنتفعون به{[120]} من مرافق الحياة .


[120]:لم يمكن على وجه التحقيق معرفة أصحاب الكهف ولا زمانهم، ولا مكان الكهف الذي آوى إليه هؤلاء الفتية، ومع ذلك فلا بأس من القيام بمحاولة قد تلقى ضوءا ولو خافتا عليهم. ولما كان القرآن الكريم قد نص على أنهم فتية آمنوا ب ربهم: فلا بد أنهم وشعبهم قد تعرضوا لاضطهاد ديني رأى معه هؤلاء الفتية الاعتصام بالكهف. ويشير التاريخ (القديم) إلى وقوع اضطهادات دينية في الشرق القديم، حدثت في أوقات مختلفة، ونذكر فيما يلي اضطهادين قد يكون أحدهما مناسبا للمقام: أما أولهما: فقد حدث في عهد الملك السلوقي أنتيوخوس الرابع الملقب بنابيفانيس (حوالي 176 ـ 184 ق. م) فإنه اعتلى هذا الملك عرش سوريا ـ وكان مولعا أشد الولع بالثقافة الإغريقية وحضارتها ـ فرض على اليهود بفلسطين ـ وكانت في قبضة سوريا منذ عام 198 ق. م ـ التدين بديانة الإغريق وأبطل شريعتهم، ودنس "الهيكل" بوضعه تمثال زوس معبود الإغريق الأعظم على المذبح، وتقديم الخنازير ذبائح له، ثم إنه أحرق ما وجده من نسخ التوراة. ففي ضوء هذه الحقيقة التاريخية يبدو أن هؤلاء الفتية يهود، ويكون مكانهم في فلسطين عامة، أو في أورشليم ذاتها، ويكونون قد بعثوا حوالي عام 129 م إبان حكم الروم للشرق، أي قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم (حوالي 571 م) بأربعمائة وخمسة وأربعين عاما تقريبا. أما الاضطهاد الثاني: فقد حدث في عهد الإمبراطور الروماني هادريانوس (117 ـ 138) فهذا الإمبراطور قد فعل باليهود مثل ما فعل أنتيوخوس السالف الذكر تماما، وتفصيل ذلك أنه حدث في عهده أن أعلن اليهود العصيان على الإمبراطورية الرومانية (الروم) عام 132 م، فطردوا الحاميات الرومانية واستولوا على أورشليم، وصكوا نقودهم ذكرى لتحرير المدينة المقدسة، وقبضوا على زمام الأمور طوال ثلاث سنوات، وأخيرا تحرك هارديانوس وجيشه، وقمع الثورة، وأخضع فلسطين، واستعاد أورشليم، وقضى على القومية اليهودية قضاء تاما، وقد لاقى قوادها حتفهم، وبيع اليهود في سوق النخاسة، وكان من نتائج ذلك أن عطل هارديانوس الشعائر اليهودية، وأبطل تعاليم اليهود وقوانينهم. وفي ضوء هذه الحقيقة التاريخية يبدو أن هؤلاء الفتية يهود، ويكون مكانهم في أي مكان في الشرق القديم أو في أورشليم نفسها، ويكون قد بعثوا حوالي عام 435 م، أي قبل مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمائة وثلاثين عاما. ويبدو أن الاضطهاد الأول أكثر تلاؤما مع أصحاب الكهف، لأنه كان أشد قوة، أم الاضطهادات المسيحية فلا تتلاءم مع مولد النبي صلى الله عليه وسلم.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

ثم قال بعضهم لبعض : { وإذ اعتزلتموهم } يعني قومهم { وما يعبدون إلا الله } ، قرأ ابن مسعود وما تعبدون من دون الله وأما القراءة المعروفة فمعناها : أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأوثان ، يقولون : وإذ اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادته { فأووا إلى الكهف } فالجأوا إليه { ينشر لكم } يبسط لكم { ربكم من رحمته ويهيئ لكم } يسهل لكم { من أمركم مرفقاً } أي : ما يعود إليه يسركم ورفقكم . قرأ أبو جعفر و نافع و ابن عامر مرفقاً بفتح الميم وكسر الفاء ، وقرأ الآخرون بكسر الميم وفتح الفاء ، ومعناهما واحد ، وهو ما يرتفق به الإنسان .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

{ 16 } { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا }

أي : قال بعضهم لبعض ، إذ حصل لكم اعتزال قومكم في أجسامكم وأديانكم ، فلم يبق إلا النجاء من شرهم ، والتسبب بالأسباب المفضية لذلك ، لأنهم لا سبيل لهم إلى قتالهم ، ولا بقائهم{[485]} بين أظهرهم ، وهم على غير دينهم ، { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } أي : انضموا إليه واختفوا فيه { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا } وفيما تقدم ، أخبر أنهم دعوه بقولهم { ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا } فجمعوا بين التبري من حولهم وقوتهم ، والالتجاء إلى الله في صلاح أمرهم ، ودعائه بذلك ، وبين الثقة بالله أنه سيفعل ذلك ، لا جرم أن الله نشر لهم من رحمته ، وهيأ لهم من أمرهم مرفقا ، فحفظ أديانهم وأبدانهم ، وجعلهم من آياته على خلقه ، ونشر لهم من الثناء الحسن ، ما هو من رحمته بهم ، ويسر لهم كل سبب ، حتى المحل الذي ناموا فيه ، كان على غاية ما يمكن من الصيانة ، ولهذا قال : { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا }


[485]:- في النسختين: ولا بقاؤهم.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما تناجوا به فيما بينهم ، بعد أن وضح موقفهم وضوحا صريحا حاسما ، وبعد أن أعلنوا كلمة التوحيد بصدق وقوة . . فقال - تعالى - : { وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله فَأْوُوا إِلَى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } .

و " إذ " يبدو أنها هنا للتعليل . والاعتزال : تجنب الشئ سواء أكان هذا التجنب بالبدن أم بالقلب . و " ما " فى قوله { وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } اسم موصول فى محل نصب معطوف على الضمير فى قوله { اعتزلتموهم } وقوله : { إلا الله } استثناء متصل ، بناء على أن القوم كانوا يعبدون الله - تعالى - ويشكرون معه فى العبادة الأصنام . و " من " قالوا إنها بمعنى البدلية .

وقوله : { مرفقاً } من الارتفاق : بمعنى الانتفاع ، وقرأ نافع وابن عامر مرفقا - بفتح الميم وكسر الفاء .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

9

ولقد تبين الطريقان ، واختلف المنهجان . فلا سبيل إلى الالتقاء ، ولا للمشاركة في الحياة . ولا بد من الفرار بالعقيدة . إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها ، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل . إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر ، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها ، وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويراوردهم ، ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله . والأرجح أن أمرهم قد كشف . فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله ، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة . وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم :

( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف ، ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيء لكم من أمركم مرفقا ) . .

وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة . فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم ، ويهجرون ديارهم ، ويفارقون أهلهم . ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة . هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم . هؤلاء يستروجون رحمة الله . ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة . ( ينشر لكم ربكم من رحمته ) ولفظة ( ينشر ) تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح . فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها ، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء . . إن الحدود الضيقة لتنزاح ، وإن الجدران الصلدة لترق ، وإن الوحشة الموغلة لتشف ، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق .

إنه الإيمان . .

وما قيمة الظواهر ? وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية ? إن هنالك عالما آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان ، المأنوس بالرحمن . عالما تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان .

ويسدل الستار على هذا المشهد . ليرفع على مشهد آخر والفتية في الكهف وقد ضرب الله عليهم النعاس .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم ، واختار الله تعالى لهم ذلك ، وأخبر عنهم بذلك في قوله : { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ } أي : وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي : يبسط عليكم رحمة{[18020]} يستركم بها من قومكم { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ } [ أي ]{[18021]} الذي أنتم فيه ، { مِرفَقًا } أي : أمرًا ترتفقون به . فعند ذلك خرجوا هُرابًا إلى الكهف ، فأووا إليه ، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم ، وتَطَلَّبهم الملك فيقال : إنه لم يظفر بهم ، وعَمَّى الله عليه خبرهم . كما فعل بنبيه [ محمد ]{[18022]} صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق ، حين لجأ إلى غار ثور ، وجاء المشركون من قريش في الطلب ، فلم يهتدوا إليه مع{[18023]} أنهم يمرون عليه ، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله : يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه{[18024]} لأبصرنا ، فقال : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ " ، وقد قال تعالى : { إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 40 ] فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب{[18025]} الكهف ، وقد قيل : إن قومهم ظفروا بهم ، وقفوا{[18026]} على باب الغار الذي دخلوه ، فقالوا : ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم . فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعل [ لهم ]{[18027]} ذلك . وفي هذا نظر ، والله أعلم ؛ فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشية ، كما قال تعالى :

{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } .

هذا دليل على أن باب هذا الكهف من نحو الشمال ؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه { ذَاتَ الْيَمِينِ } أي : يتقلص الفيء يمنة{[18028]} كما قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : { تَزَاوَرُ } أي : تميل ؛ وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان ؛ ولهذا قال : { وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } أي : تدخل إلى غارهم من شمال بابه ، وهو من ناحية المشرق ، فدل على صحة ما قلناه ،

وهذا بيّن لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة ، وسير الشمس والقمر والكواكب ، وبيانه{[18029]} أنه{[18030]} لو كان باب الغار من ناحية الشرق{[18031]} لما دخل إليه منها شيء عند الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ، ولا تزاور الفيء يمينًا ولا شمالا ولو كان من جهة الغرب{[18032]} لما دخلته وقت الطلوع ، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب . فتعين{[18033]} ما ذكرناه ولله الحمد .

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : { تَقْرِضُهُمْ } تتركهم .

وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره ، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض ؛ إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد{[18034]} شرعي . وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالا فتقدم عن ابن عباس أنه قال : [ هو ]{[18035]} قريب من أيلة . وقال ابن إسحاق : هو عند نِينَوَى . وقيل : ببلاد الروم . وقيل : ببلاد البلقاء . والله أعلم بأي بلاد الله هو . ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله ورسوله إليه{[18036]} فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تركت شيئًا يقربكم إلى [ الجنة ]{[18037]} ويباعدكم من النار ، إلا وقد أعلمتكم به " . فأعلمنا تعالى بصفته ، ولم يعلمنا بمكانه ، فقال { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ } قال مالك ، عن زيد بن أسلم : تميل { ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } أي : في متسع منه داخلا بحيث لا تمسهم ؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم{[18038]} قاله ابن عباس .

{ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } حيث أرشدهم تعالى إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء ، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ }

ثم قال : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } أي : هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم ، فإنه من هداه الله اهتدى ، ومن أضله فلا هادي له .


[18020]:في ت، ف: "رحمته".
[18021]:زيادة من ت، ف، أ.
[18022]:زيادة من ف.
[18023]:في ت: "ثم".
[18024]:في أ: "قدمه".
[18025]:في ف، أ: "أهل".
[18026]:في ت، ف: "ووقفوا".
[18027]:زيادة من ف.
[18028]:في ت: "عنه"، وفي أ: "يمينه".
[18029]:في ت: "فبانه".
[18030]:في ف: "أن".
[18031]:في ف، أ: "المشرق".
[18032]:في أ: "المغرب".
[18033]:في ت: "فتعى".
[18034]:في ت: "ولا تضر".
[18035]:زيادة من ف.
[18036]:في ت: "الله".
[18037]:زيادة من ف، وفي ت: "الله".
[18038]:في ت: "ثيابهم وأبدانهم"، وفي ف، أ: "ثيابهم وأجسادهم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

وقولهم { وإذ اعتزلتموهم } الآية أن القيام في قوله { إذ قاموا } عزماً كما تضمن التأويل الواحد وكان القول منهم فيما بينهم فهذه المقالة يصح أن تكون من قولهم الذي قالوه عند قيامهم ، وإن كان القيام المذكور مقامهم بين يدي الملك فهذه المقالة لا يترتب أن تكون من مقالهم بين يدي الملك ، بل يكون في الكلام حذف تقديره وقال بعضهم لبعض ، وبهذا يترجح أن قوله تعالى : { إذ قاموا فقالوا } إنما المراد به إذ عزموا ونفذوا لأمرهم ، وقوله { إلا الله } إن فرضنا الكفار الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله ولا علم لهم به ، وإنما يعتقدون الألوهية في أصنامهم فقط ، فهو استثناء منقطع ليس من الأول ، وإن فرضناهم يعرفون الله ويعظمونه كما كانت تفعل العرب لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل ، لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله تعالى ، وفي مصحف ابن مسعود «وما يعبدون من دون الله » ، قال قتادة هذا تفسيرها ، قال هارون وفي بعض مصاحفه «وما يعبدون من دوننا » ، فعلى ما قال قتادة تكون { إلا } بمنزلة غير ، و { ما } من قوله { وما يعبدون } في موضع نصب عطفاً على الضمير في قوله { اعتزلتموهم } ، ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض إذ فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله تعالى فإنه سيبسط لنا رحمته وينشرها علينا ويهيىء لنا من أمرنا { مرفقاً } ، وهذا كله دعاء بحسب الدنيا ، وعلى ثقة من الله كانوا في أمر آخرتهم ، وقرأ نافع وابن عامر «مَرفِقاً » بفتح الميم وكسر الفاء ، وهو مصدر كالرفق فيما حكى أبو زيد ، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والحسن وطلحة والأعمش وابن أبي إسحاق «مِرفَقاً » بكسر الميم وفتح الفاء ، ويقالان جميعاً في الأمر وفي الجارحة ، حكاه الزجاج ، وذكر مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم ، وأنكر الكسائي أن يكون «المرفق » من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء ، وخالفه أبو حاتم ، وقال «المَرفق » بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما بعد لغتان .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

يتعين أن يكون هذا من كلام بعضهم لبعض على سبيل النصح والمشورة الصائبة . وليس يلزم في حكاية أقوال القائلين أن تكون المحكيات كلها صادرة في وقت واحد ، فيجوز أن يكونوا قال بعضهم لبعض ذلك بعد اليأس من ارعِواء قومهم عن فتنتهم في مقام آخر . ويجوز أن يكون ذلك في نفس المقام الذي خاطبوا فيه قومهم بأن غيروا الخطاب من مواجهة قومهم إلى مواجهة بعضهم بعضاً ، وهو ضرب من الالتفات . فعلى الوجه الأول يكون فعل { اعتزلتموهم } مستعملاً في إرادة الفعل مثل { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] ، وعلى الوجه الثاني يكون الاعتزال قد حصل فيما بين مقام خطابهم قومهم وبين مخاطبة بعضهم بعضاً . وعلى الاحتمالين فالقرآن اقتصر في حكاية أقوالهم على المقصد الأهم منها في الدلالة على ثباتهم دون ما سوى ذلك ممّا لا أثر له في الغرض وإنما هو مجرد قصص .

و إذ للظرفية المجازية بمعنى التعليل .

والاعتزال : التباعد والانفراد عن مخالطة الشيء ، فمعنى اعتزال القوم ترك مخالطتهم . ومعنى اعتزال ما يعبدون : التباعد عن عبادة الأصنام .

والاستثناء في قوله : إلا الله } منقطع لأن الله تعالى لم يكن يعبده القوم .

والفاء للتفريع على جملة { وإذ اعتزلتموهم } باعتبار إفادتها معنى : اعتزلتم دينهم اعتزالاً اعتقادياً ، فيقدر بعدها جملة نحو : اعتزلوهم اعتزالَ مفارقة فأوُوا إلى الكهف ، أو يقدر : وإذ اعتزلتم دينهم يعذبونكم فأووا إلى الكهف . وجوز الفراء أن تضمن ( إذْ ) معنى الشرط ويكون { فأووا } جوابها . وعلى الشرط يتعين أن يكون { اعتزلتموهم } مستعملاً في إرادة الاعتزال .

والأوْيُ تقدم آنفاً ، أي فاسكنوا الكهف .

والتعريف في { الكهف } يجوز أن يكون تعريف العهد ، بأن كان الكهف معهوداً عندهم يتعبدون فيه من قبل . ويجوز أن يكون تعريف الحقيقة مثل { وأخاف أن يأكله الذئب } [ يوسف : 13 ] ، أي فأووا إلى كهف من الكهوف . وعلى هذا الاحْتمال يكون إشارة منهم إلى سُنة النصارى التي ذكرناها في أول هذه الآيات ، أو عادة المضطهدين من اليهود كما ارتأيناه هنالك .

ونشر الرحمة : توفر تعلقها بالمرحومين . شبه تعليق الصفة المتكرر بنشر الثوب في أنه لا يُبقي من الثوب شيئاً مخفياً ، كما شبه بالبسط وشبه ضده بالطيّ وبالقبض .

والمَرفق بفتح الميم وكسر الفاء : ما يرتفق به وينتفع . وبذلك قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ، وبكسر الميم وفتح الفاء وبه قرأ الباقون .

وتهيئته مستعارة للإكرام به والعناية ، تشبيهاً بتهيئة القرى للضيف المعتنى به . وجزم { ينشر } في جواب الأمر . وهو مبني على الثقة بالرجاء والدعاء . وساقوه مساق الحاصل لشدة ثقتهم بلطف ربهم بالمؤمنين .