الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} (16)

قوله تعالى : { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ } : " إذا " منصوبٌ بمحذوف ، أي : وقال بعضُهم لبعضٍ وقتَ اعتزالِهم . وجَوَّز بعضُهم أَنْ تكونَ " إذ " للتعليل ، أي : فَأْووا إلى الكهفِ لاعتزاِلكم إياهم ، وهو قولٌ مَقُولٌ لكنَّه لا يَصِحُّ .

قوله : { وَمَا يَعْبُدُونَ } يجوز في " ما " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ مقدرٌ ، أي : واعْتَزَلْتُم الذي يعبدونه . و " إلا الله " يجوز فيه أن يكونَ استثناءً متصلاً ، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون اللهَ ويُشْرِكون به غيرَه ، ومنقطعاً ، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط . والمستثنى منه يجوز أن يكونَ الموصولَ ، وأن يكون عائدَه ، والمعنى واحد .

والثاني : أنها مصدريةٌ ، أي : واعتزلتُمْ عبادَتهم ، أي : تركتموها . و " إلا اللهَ " على حَذْفِ مضاف ، أي : إلا عبادةَ اللهِ . وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان .

الثالث : أنها نافيةٌ ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى ، وعلى هذا فهذه الجملةُ معترضةٌ بين أثناءِ القصةِ وإليه ذهب الزمخشري . و { إِلاَّ اللَّهَ } استثناءٌ مفرغٌ أخبر الله عن الفتنةِ أنَّهم لا يعبدون غيرَه . وقال أبو البقاء : " والثالث : أنها حرفُ نفيٍ فيخرج في الاستثناء وجهان ، أحدهما : هو منقطعٌ ، والثاني : هو متصلٌ ، والمعنى : وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا اللهََ " قلت : فظاهرُ هذا الكلامِ : أن الانقطاعَ والاتصالَ في الاستثناءِ مترتبان على القولِ بكون " ما " نافيةً ، وليس الأمرُ كذلك .

قوله : " مِرْفَقا " قرأ بكسرِ الميمِ وفتحِ الفاءِ الجمهورُ . ونافع وابنُ عامر بالعكس ، وفيهما اختلافٌ بين أهلِ اللغة ، فقيل : هما بمعنى واحد وهو ما يَرْتَفَقُ به ، وليس بمصدرٍ . وقيل : هو بالكسر في الميم لليد ، وبالفتح للأمر ، وقد يُسْتَعْمل كلُّ واحدٍ منهما موضعَ الآخر ، حكاه الأزهري عن ثعلبٍ . وأنشد الفراءُ جمعاً بين الغتين في الجارِحَة :

بِتُّ أُجافي مِرْفقاً عن مَرْفقِ ***

/وقيل : يُسْتعملان معاً في الأمرِ وفي الجارحة ، حكاه الزجاج .

وحكى مكي ، عن الفراء أنه قال : " لا أعرِفُ في الأمر ولا في اليد ولا في كل شيءٍ إلا كسرَ الميمِ " .

قلت : وتواترُ قراءةِ نافعٍ والشاميين يَرُدُّ عليه . وأنكر الكسائيُّ كسرَ الميم في الجارحة ، وقال : لا أعرفُ فيه إلا الفتحَ وهو عكسُ قولِ تلميذِه ، ولكن خالفه أبو حاتم ، وقال : " هو بفتح الميم : الموضعُ كالمسجد . وقال أبو زيد : هو بفتح الميم مصدرٌ جاء على مَفْعَل " وقال بعضهم : هما لغتان فيما يُرْتَفَقُ به ، فأمَّا الجارِحَةُ فبكسرِ الميمِ فقط . وحُكي عن الفرَّاء أنَّه قال : " أهلُ الحجاز يقولون : " مَرْفقا " بفتح الميم وكسرِ الفاءِ فيما ارتفقْتَ به ، ويكسِرون مِرْفَق الإِنسان ، والعربُ بعدُ يَكْسِرون الميمَ منهما جميعاً " . وأجاز معاذ فتحَ الميم والفاءِ ، وهو مصدرٌ كالمَضْرَبِ والمَقْتَلِ .

و { مِّنْ أَمْرِكُمْ } متعلَّقُ بالفعلِ قبلَه ، و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ أو للتعيض . وقيل : هي بمعنى بَدَلَ ، قاله ابن الأنباريِّ وأنشد :

فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمِ شَرْبَةً *** مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ

أي : بَدَلاً . ويجوز أن يكونَ حالاً من " مِرْفَقاً " فيتعلَّقَ بمحذوفٍ .