{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال مقاتل : يعني كفار مكة ، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة ، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه ، ولم يشكروا رب النعيم حيث عبدوا غيره ، ثم يعذبون على ترك الشكر ، هذا قول الحسن . وعن ابن مسعود رفعه قال : { لتسألن يومئذ عن النعيم } قال : " الأمن والصحة " . وقال قتادة : إن الله يسأل كل ذي نعمة عما أنعم عليه .
أخبرنا أبو بكر بن أبي الهيثم الترابي ، أنبأنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، حدثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة ، عن عبد الله بن العلاء ، عن الضحاك بن عرزم الأشعري قال : سمعت أبا هريرة يقول : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما يسأل العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له : ألم نصح جسمك ؟ ونروك من الماء البارد " .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شيبان أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد ، فأتاه أبو بكر فقال : ما جاء بك يا أبا بكر ؟ فقال : خرجت لألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنظر إلى وجهه ، وللتسليم عليه ، فلم يلبث أن جاء عمر ، فقال : ما جاء بك يا عمر ؟ قال : الجوع يا رسول الله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : وأنا قد وجدت بعض ذلك ، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري ، وكان رجلاً كثير النخل والشاء ، ولم يكن له خدم ، فلم يجدوه ، فقالوا لامرأته : أين صاحبك ؟ فقالت : انطلق ليستعذب لنا الماء ، فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة زعبها ماءً فوضعها ، ثم جاء يلتزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه ، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطاً ، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلا تنقيت لنا من رطبه وبسره ، فقال : يا رسول الله إني أردت أن تتخيروا من رطبه وبسره ، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ، ظل بارد ، ورطب طيب ، وماء بارد ، فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تذبحن ذات در ، فذبح لهم عناقاً أو جدياً ، فأتاهم بها ، فأكلوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك خادم ؟ قال : لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإذا أتانا سبي فأتنا ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث ، فأتاه أبو الهيثم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهما ، فقال : يا نبي الله اختر لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، إن المستشار مؤتمن ، خذ هذا ، فإني رأيته يصلي ، واستوص به معروفاً ، فانطلق به أبو الهيثم إلى امرأته فأخبرها بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت امرأته : ما أنت ببالغ فيه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه ، قال : فهو عتيق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، إن الله تبارك وتعالى لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان ، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، وبطانة لا تألوه إلا خبالاً ، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي " . وروي عن ابن عباس قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العبيد فيم استعملوها ؟ وهو أعلم بذلك منهم ، وذلك قوله : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }( الإسراء- 36 ) . وقال عكرمة : عن الصحة والفراغ . وقال سعيد بن جبير : عن الصحة والفراغ والمال .
أخبرنا الإمام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، حدثنا الحسين بن الحسن بمكة ، حدثنا عبد الله بن المبارك والفضل بن موسى ، قالا : حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " . قال محمد بن كعب : يعني عما أنعم عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال أبو العالية : عن الإسلام والسنن . وقال الحسين بن الفضل : تخفيف الشرائع .
{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } الذي تنعمتم به في دار الدنيا ، هل قمتم بشكره ، وأديتم حق الله فيه ، ولم تستعينوا به ، على معاصيه ، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل ، أم اغتررتم به ، ولم تقوموا بشكره ؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله فيعاقبكم على ذلك ، قال تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } الآية .
ثم ختم - سبحانه - السورة بقوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } ، والمراد بالنعيم هنا : ما يتنعم به الإِنسان خلال حياته الدنيوية من مال وولد ، ومن طعام وشراب ، ومن متعه وشهوة . . من النعومة التى هى ضد الخشونة .
أى : ثم إنكم بعد ذلك - أيها الناس - والله لتسألن يوم القيامة عن ألوان النعم التى منحكم الله - تعالى - إياها ، فمن أدى ما يجب عليه نحوها من شكر الله - تعالى - عليها كان من السعداء ، ومن جحدها وغمطها وشغلته عن طاعة ربه ، وتباهى وتفاخر بها . . كان من الأشقياء ، كما قال - تعالى - : { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } فالمراد بالسؤال إنما هو سؤال التكريم والتبشير للمؤمنين الشاكرين ، وسؤال الإِهانة والتوبيخ للفاسقين الجاحدين .
والآية الكريمة دعوة حارة للناس ، إلى شكر نعمة - تعالى - واستعمالها فيما خلقت له .
قال القرطبى ما ملخصه : والسؤال يكون للمؤمن والكافر . . والجمع بين الأخبار التى وردت فى ذلك : أن الكل يسألون ، ولكن سؤال الكافر توبيخ ؛ لأنه قد ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف ؛ لأنه قد شكر ، وهذا النعيم فى كل نعمة .
( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) !
لتسألن عنه من أين نلتموه ? وفيم أنفقتموه ? أمن طاعة وفي طاعة ? أم من معصية وفي معصية ? أمن حلال وفي حلال ? أم من حرام وفي حرام ? هل شكرتم ? هل أديتم ? هل شاركتم ? هل استأثرتم ?
( لتسألن )عما تتكاثرون به وتتفاخرون . . فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل !
إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها . وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها . وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون !
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل . . ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ) . . وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة . . ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال ؛ ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء . فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد . .
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة ، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها ، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها . . حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق !
وقوله : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } أي : ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم ، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ، ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا زكريا بن يحيى الخزاز{[30470]} المقري ، حدثنا عبد الله بن عيسى أبو خالد الخزاز ، حدثنا يونس بن عبيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة ، فوجد أبا بكر في المسجد فقال : " ما أخرجك هذه الساعة ؟ " قال : أخرجني الذي أخرجك يا رسول الله . قال : وجاء عمر بن الخطاب فقال : " ما أخرجك يا ابن الخطاب ؟ " قال أخرجني الذي أخرجكما . قال : فقعد عمر ، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهما ، ثم قال : " هل بكما من قوة ، تنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعامًا وشرابًا وظلا ؟ " قلنا : نعم . قال : " مُروا بنا إلى منزل ابن التَّيهان أبي الهيثم الأنصاري " . قال : فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا ، فسلم واستأذن - ثلاث مرات - وأم الهيثم من وراء الباب تسمع الكلام ، تريد أن يزيدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام ، فلما أراد أن ينصرف خرجت أم الهيثم تسعى خلفهم ، فقالت : يا رسول الله ، قد - والله - سمعت تسليمك ، ولكن أردت أن تزيدنا من سلامك . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ، ثم قال : " أين أبو الهيثم ؟ لا أراه " . قالت : يا رسول الله ، هو قريب ، ذهب يَستعذبُ الماء ، ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء الله ، فبسطت بساطا تحت شجرة ، فجاء أبو الهيثم ففرح بهم وقرت عيناه بهم ، فصعد على نخلة فصرم لهم أعذاقًا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حَسْبُكَ يا أبا الهيثم " . قال : يا رسول الله ، تأكلون من بُسره ، ومن رطبه ، ومن تَذْنُوبه ، ثم أتاهم بماء فشربوا عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا من النعيم الذي تسألون عنه " {[30471]} هذا غريب من هذا الوجه .
وقال ابن جرير : حدثني الحُسَين بن علي الصدائي ، حدثنا الوليد بن القاسم ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : بينما أبو بكر وعمر جالسان ، إذ جاءهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما أجلسكما هاهنا ؟ " قالا : والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع . قال : " والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره " . فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار ، فاستقبلتهم المرأة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " أين فلان ؟ " فقالت : ذهب يستعذب{[30472]} لنا ماء . فجاء صاحبهم يحمل قربته فقال : مرحبا ، ما زار العباد شيء أفضل من شيء{[30473]} زارني اليوم . فعلق قربته بكرب نخلة{[30474]} وانطلق فجاءهم بعذق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا كنت اجتنيت " ؟ فقال : أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم . ثم أخذ الشفرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إياك والحلوب ؟ " فذبح لهم يومئذ ، فأكلوا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لتسألن عن هذا يوم القيامة . أخرجكم من بيوتكم الجوع ، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا ، فهذا من النعيم " {[30475]} .
ورواه مسلم من حديث يزيد بن كيسان ، به{[30476]} ورواه أبو يعلى وابن ماجة ، من حديث المحاربي ، عن يحيى بن عُبيد الله ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن أبي بكر الصديق ، به{[30477]} وقد رواه أهل السنن الأربعة ، من حديث عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، بنحو من هذا السياق وهذه القصة{[30478]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج ، حدثنا حشرج ، عن أبي نُصرة ، عن أبي عسيب – يعني مولى رسول الله - قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا فمر بي ، فدعاني فخرجت إليه ، ثم مر بأبي بكر فدعاه فخرج إليه ، ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه ، فانطلق حتى أتى{[30479]} حائطا لبعض الأنصار ، فقال لصاحب الحائط : " أطعمنا " . فجاء بِعذْق فوضعه ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم دعا بماء بارد فشرب ، وقال : " لتسألن عن هذا يوم القيامة " . قال : فأخذ عُمَرُ العذْقَ فضرب به الأرض ، حتى تناثر البُسرُ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا رسول الله ، إنا لمسئول{[30480]} عن هذا يوم القيامة ؟ قال : " نعم ، إلا من ثلاثة : خرقة لف بها الرجل عورته ، أو كسرة سَدَّ بها جوعته ، أو جحر تَدخَّل فيه من الحر والقر " {[30481]} تفرد به أحمد .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، حدثنا عمار ، سمعت جابر بن عبد الله يقول : أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رطبا ، وشربوا ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا من النعيم الذي تسألون عنه " .
ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة ، [ عن عمار بن أبي عمار ، عن جابر ]{[30482]} به{[30483]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد ، حدثنا يزيد ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن صفوان بن سليم ، عن محمود{[30484]} بن الربيع قال : لما نزلت : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } فقرأ حتى بلغ : { لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قالوا : يا رسول الله ، عن أي{[30485]} نعيم نُسأل ؟ وإنما هما الأسودان الماء والتمر ، وسيوفنا على رقابنا ، والعدو حاضر ، فعن أي نعيم نسأل ؟ قال :{[30486]} أما إن ذلك سيكون " {[30487]} .
وقال أحمد : حدثنا أبو عامر ، عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا معاذ بن عبد الله بن حُبَيب ، عن أبيه ، عن عمه قال : كنا في مجلس فطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء ، فقلنا : يا رسول الله ، نراك طيب النفس . قال : " أجل " . قال : ثم خاض الناس في ذكر الغنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا بأس بالغنى لمن اتقى الله ، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى ، وطيب النفس من النعيم " .
ورواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن خالد بن مخلد ، عن عبد الله بن سليمان ، به{[30488]} .
وقال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة ، عن عبد الله بن العلاء ، عن الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزم الأشعري قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما يسأل عنه - يعني يوم القيامة - العبد من النعيم أن يقال له : ألم نُصِحّ لك جسمك ، ونُرْوكَ من الماء البارد ؟ " . تفرد به الترمذي . ورواه ابن حبان في صحيحه ، من طريق الوليد بن مسلم ، عن عبد الله بن العلاء بن زَيْر ، به{[30489]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا سفيان ، عن محمد بن عمرو ، عن يحيى بن حاطب ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : لما نزلت : { [ ثُمَّ ]{[30490]} لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قالوا : يا رسول الله ، لأي نعيم نسأل عنه ، وإنما هما الأسودان التمر والماء ؟ قال : " إن ذلك سيكون " . وكذا رواه الترمذي وابن ماجة ، من حديث سفيان - هو ابن عيينة - به{[30491]} ورواه أحمد عنه{[30492]} ، وقال الترمذي : حسن .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قالت الصحابة : يا رسول الله ، وأي نعيم نحن فيه ، وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير ؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : أليس تحتذون النعال ، وتشربون الماء البارد ؟ فهذا من النعيم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني ، عن ابن أبي ليلى - أظنه عن عامر - عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { [ ثُمَّ ]{[30493]} لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قال : " الأمن والصحة " {[30494]} .
وقال زيد بن أسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } يعني : شبع البطون ، وبارد الشراب ، وظلال المساكن ، واعتدال الخلق ، ولذة النوم . رواه ابن أبي حاتم بإسناده المتقدم ، عنه في أول السورة .
وقال سعيد بن جبير : حتى عن شربة عسل . وقال مجاهد : عن كل لذة من لذات الدنيا . وقال الحسن البصري : نعيم الغداء والعشاء ، وقال أبو قِلابة : من النعيم أكل العسل والسمن بالخبز النقي . وقول مجاهد : هذا أشمل هذه الأقوال .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } قال : النعيم : صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيما استعملوها ، وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } [ الإسراء : 36 ] .
وثبت في صحيح البخاري ، وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن سعيد ابن أبي هند ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " {[30495]} . ومعنى هذا : أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين ، لا يقومون بواجبهما ، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه ، فهو مغبون .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا القاسم بن محمد بن يحيى المروزي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا أبو حمزة ، عن ليث ، عن أبي فزارة ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فوق الإزار ، وظل الحائط ، وخُبْز ، يحاسب به العبد يوم القيامة ، أو يسأل عنه " {[30496]} ثم قال : لا نعرفه إلا بهذا الإسناد .
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان قالا : حدثنا حماد ، قال عفان في حديثه : قال إسحاق ابن عبد الله : عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل - قال عفان : يوم القيامة - : يا بن آدم ، حملتك على الخيل والإبل ، وزوجتك النساء ، وجعلتك تَرْبَع{[30497]} وترأس ، فأين شكر ذلك ؟ " {[30498]} تفرد به من هذا الوجه .
آخر تفسير سورة " التكاثر " {[30499]} [ ولله الحمد والمنة ]{[30500]}
أعقب التوبيخ والوعيد على لهوهم بالتكاثر عن النظر في دعوة الإِسلام من حيث إن التكاثر صدهم عن قبول ما ينجيهم ، بتهديدٍ وتخويف من مؤاخذتهم على ما في التكاثر من نعيم تمتعوا به في الدنيا ولم يشكروا الله عليه بقوله تعالى : { ثم لتسئلن يومئذٍ عن النعيم } ، أي عن النعيم الذي خولتموه في الدنيا فلم تشكروا الله عليه وكان به بَطركُم .
وعطف هذا الكلام بحرف { ثم } الدال على التراخي الرتبي في عطفه الجُملَ من أجل أن الحساب على النعيم الذي هو نعمة من الله أشدّ عليهم لأنهم ما كانوا يترقبونه ، لأن تلبسهم بالإِشراك وهُم في نعيم أشد كفراناً للذي أنعم عليهم .
و { النعيم } : اسم لما يلذّ لإِنسان مما ليس ملازماً له ، فالصحة وسلامة الحواس وسلامة الإِدراك والنوم واليقظة ليست من النعيم ، وشرب الماء وأكل الطعام والتلذّذ بالمسموعات وبما فيه فخر وبرؤية المحاسن ، تعد من النعيم .
والنعيم أخص من النعمة بكسر النون ومرادف للنَّعمة بفتح النون .
وتقدم النعيم عند قوله تعالى : { لهم فيها نعيم مقيم } في سورة براءة ( 21 ) .
والخطاب موجه إلى المشركين على نسق الخطابات السابقة .
والجملة المضاف إليها ( إذ ) من قوله : يومئذ } محذوفة دل عليها قوله : { لترون الجحيم } [ التكاثر : 6 ] أي يوم إذ ترون الجحيم فيغلظ عليكم العذاب .
وهذا السؤال عن النعيم الموجه إلى المشركين هو غير السؤال الذي يُسأله كل منعَم عليه فيما صرف فيه النعمة ، فإن النعمة لما لم تكن خاصة بالمشركين خلافاً للتكاثر كان السؤال عنها حقيقاً بكل منعَم عليه وإن اختلفت أحوال الجزاء المترتب على هذا السؤال .
ويؤيده ما ورد في حديث مسلم عن أبي هريرة قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر فقاما معه فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته . إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال : الحمد لله ما أحد اليوم أكرمُ أضيافاً مني فانطلق فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتَمر ورُطب وأخذ المدية فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لتُسألنَّ عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة " الحديث . فهذا سؤال عن النعيم ثبت بالسنة وهو غير الذي جاء في هذه الآية . والأنصاري هو أبو الهيثم بن التَّيِّهان واسمه مالك .
ومعنى الحديث : لتُسألن عن شكر تلك النعمة ، أراد تذكيرهم بالشكر في كل نعمة . وسؤال المؤمنين سؤال لترتيب الثواب على الشكر أو لأجل المؤاخذة بالنعيم الحرام .
وذكر القرطبي عن الحسن : لا يُسأل عن النعيم إلا أهل النار ، وروي{[462]} « أن أبا بكر لما نَزَلَتْ هذه الآية قال : يا رسول الله أرأيتَ أكلة أكلتُها معك في بيت أبي الهيثم بن التيِّهان من خبز شعير ولحم وبُسر قد ذَنَّب{[463]} وماء عذب ، أنخاف أن يكون هذا من النعيم الذي نُسأل عنه ؟ فقال عليه السلام : " ذلك للكُفار " ثم قرأ : { وهل يُجازَى إلا الكفور } [ سبأ : 17 ] .
قال القشيري : والجمع بين الأخبار أن الكلَّ يسألون ، ولكن سؤال الكافر سؤال توبيخ لأنه قد ترك الشكر ، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر .
والجملة المضاف إليها ( إذ ) من قوله : { يومئذ } محذوفة دلّ عليها قوله : { لترون الجحيم } [ التكاثر : 6 ] أي يوم إذ ترون الجحيم فيغلظ عليكم العذاب .