240- والذين يتوفون منكم ويتركون زوجات لهم ، فقد أوصى الله بهن أن يقمن في بيت الزوجية عاماً كاملاً مواساة لهن وإزالة لوحشتهن . ولا يحق لأحد أن يخرجهن ، فإن خرجن بأنفسهن في أثناء العام فلا إثم عليكم - أيها الأولياء - أن تتركوهن يتصرفن في أنفسهن بما لا ينكره الشرع الشريف عليهن ، وأطيعوا الله في أحكامه واعملوا بما شرع لكم فإنه قادر على أن ينتقم ممن يخالف أمره ، وهو ذو حكمة بالغة لا يشرع لكم إلا ما فيه المصلحة وإن غابت حكمتها عن علمكم .
قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم } . يا معشر الرجال .
قوله تعالى : { ويذرون } . أي يتركون .
قوله تعالى : { أزواجاً } . أي زوجات .
قوله تعالى : { وصية لأزواجهم } . قرأ أهل البصرة وابن عامر وحمزة وحفص وصية بالنصب على معنى " فليوصوا وصية " ، وقرا الباقون بالرفع ، أي كتب عليكم الوصية .
قوله تعالى : { متاعاً إلى الحول } . " متاعاً " نصب على المصدر أي متعوهن متاعاً ، وقيل : جعل الله ذلك لهن متاعاً ، والمتاع نفقة سنة لطعامها ، وكسوتها وسكنها وما تحتاج إليه .
قوله تعالى : { غير إخراج } . نصب على الحال ، وقيل بنزع حرف على الصفة ، أي من غير إخراج ، نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له حكيم بن الحارث ، هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته فمات ، فأنزل الله هذه الآية فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ، ولم يؤت امرأته شيئاً ، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً كاملاً ، وكانت عدة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً كاملا ، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول ، وكانت نفقتها وسكنها واجبة في مال زوجها تلك السنة ما لم تخرج ، ولم يكن لها الميراث ، فإن خرجت من بيت زوجها سقطت نفقتها ، وكان على الرجل أن يوصي بها فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث ، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالربع والثمن ، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر .
قوله تعالى : { فإن خرجن } . يعني من قبل أنفسهن قبل الحول من غير إخراج الورثة .
قوله تعالى : { فلا جناح عليكم } . يا أولياء الميت .
قوله تعالى : { في ما فعلن في أنفسهن من معروف } . يعني التزين للنكاح ، وارفع الجناح عن الرجال وجهان : أحدهما : لا جناح عليكم في قطع النفقة إذا خرجن قبل انقضاء الحول . والآخر : لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها في بيت زوجها حولا غير واجب عليها ، خيرها الله تعالى بين أن تقيم حولاً ولها النفقة والسكنى ، وبين أن تخرج فلا نفقة ولا سكنى إلى أن نسخه بأربعة أشهر وعشر .
ثم قال تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي : الأزواج الذين يموتون ويتركون خلفهم أزواجا فعليهم أن يوصوا { وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج } أي : يوصون أن يلزمن بيوتهم مدة سنة لا يخرجن منها { فإن خرجن } من أنفسهن { فلا جناح عليكم } أيها الأولياء { فيما فعلن في أنفسهم من معروف والله عزيز حكيم } أي : من مراجعة الزينة والطيب ونحو ذلك وأكثر المفسرين أن هذه الآية منسوخة بما قبلها وهي قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وقيل لم تنسخها بل الآية الأولى دلت على أن أربعة أشهر وعشر واجبة ، وما زاد على ذلك فهي مستحبة ينبغي فعلها تكميلا لحق الزوج ، ومراعاة للزوجة ، والدليل على أن ذلك مستحب أنه هنا نفى الجناح عن الأولياء إن خرجن قبل تكميل الحول ، فلو كان لزوم المسكن واجبا لم ينف الحرج عنهم .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن أحكام الزواج وما يتعلق به من طلاق ووصية وعدة وغير ذلك من أحكام بقوله - تعالى - :
{ والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً . . . }
الآية الكريمة من هذه الآيات تبين بعض الحقوق التي شرعها الله - تعالى - للمرأة التي توفي عنها زوجها .
والمعنى : لقد شرع الله لكم فيما شرع من أحكام ، أن على المسلم قبل أن يحضره الموت أن يوصى لزوجته التي على قيد الحياة بما تنتفع به انتفاعاً مستمراً لمدة حول من وفاته ، ولا يصح أن يخرجها أحد من مسكن الزوجية .
وقوله : { وَصِيَّةً } فيه قراءتان مشهورتان .
القراءة الأولى بالنصب ، والتقدير : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً فليوصوا وصية ، أو كتب الله عليهم وصية لأزواجهم .
والقراءة الثانية بالرفع والتقدير : فعليهم وصية لأزواجهم .
وعلى قراءة النصب تكون كلمة { وَصِيَّةً } مفعولا مطلقاً أو مفعولا به ، وعلى قراء الرفع تكون مبتدأ محذوف الخبر . وقوله : { لأَزْوَاجِهِمْ } جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة { وَصِيَّةً } على القراءتين . أي : وصية كائنة لأزواجهم .
والمراد بقوله : { مَّتَاعاً } ما تتمتع به الزوجة من السكن والنفقة بعد وفاة زوجها بوصية منه . وهو منصوب على المصدر أي متعوهن متاعاً أوم على المفعولية . أي جعل الله لهن ذلك متاعاً .
وقال - سبحانه - : { مَّتَاعاً إِلَى الحول } للتنصيص على أن هذه المدة تمتد حولا كاملا منذ وفاة زوجها ، إذ كلمة حول تدل على التحول أي حتى تعود الأيام التي حدثت فيها الوفاة . وقوله : " غير إخراج " حال من أزواجهم أي غير مخرجات من مسكن الزوجية ، فلا يصح لورثة الميت أن يخرجوهن من مسكن الزوجية بغير رضاهن ، لأن بقاءهن في مسكن الزوجية حق شرعه الله لهن ، فلا يجوز لأحد أن يسلبه منهن بغير رضاهن .
ثم قال - تعالى - : { فَإِنْ خَرَجْنَ } من منزل الزوجية برضاهن ورغبتهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي فلا إثم عليكم أيها المسلمون { فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } أي فيما فعلن في أنفسهن من أمور لا ينكرها الشرع كالتزين والتطيب والتزوج بعد انتهاء عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام .
هذا ، وللعلماء في تفسير هذه الآية اتجاهان مشهوران :
أما الاتجاه الأول : فيرى أصحابه أن هذه الآية منسوخة لأنها توجب على الزوج حين مشارفة الموت أن يوصي لزوجته بالنفقة والسكني حولا ، ويجب عليها الاعتداد حولان ، وهي مخيرة بين السكنى في بيته حولا ولها النفقة ، وبين أن تخجر منه ولا نفقة لها ، ولم يكن لها ميراث من زوجها قالوا : وكان هذا الحكم في ابتداء الإِسلام . وقد نسخ وجوب الوصية بالنفقة والسكنى بآية المواريث وبحديث " ألا لا وصية لوارث " حيث جعل لها الربع أو الثمن عوضاً عن النفقة والسكنى ونسخ وجوب العدة حولا بقوله - تعالى - قبل ذلك : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } الآية .
قالوا : ومما يشهد لذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : نسخت بآية الميراث بما فرض الله لن من الربع والثمن " ونسخ أجل الحول بأن جعل أجلها أربعة أشهر وعشراً " .
وقد حكى هذا الرأي صاحب الكشاف فقال : والمعنى : أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصلوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا ، أي : ينفق عليهن من تركته ولا يخرجهن من مساكنهن . وكان ذلك في أول الإِسلام ثم نسخت المدة بقوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } وقيل نسخ ما زاد منه على هذا المقدار . ونسخت النفقة بالإِرث الذي هو الربع والثمن .
واختلف في السكني فعند أبي حنيفة لا سكنى . ثم قال : فإن قلت كيف نسخت الآية المتقدمة والمتأخرة ؟ قلت : قد تكون الآية متقدمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل . كقوله - تعالى - : { سَيَقُولُ السفهآء } مع قوله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء } وعلى هذا الاتجاه سار جمهور المفسرين .
أما الاتجاه الثاني : فيرى أصحابه أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة وممن ذهب إلى هذا الاتجاه مجاهد ، فقد قال ما ملخصه : دلت الآية الأولى وهي { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } على أن هذه عدتها المفروضة تعتدها عند أهل زوجها . ودلت هذه الآية بزيادة سبعة أشهر وعشرين ليلة على العدة السابقة تمام الحول ، وأن ذلك من باب الوصية للزوجات أن يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا ولا يمنعن من ذلك لقوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فإذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر - أو بوضع الحمل - واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ } .
ومن المفسرين الذين أيدوا هذا الاتجاه الإِمام ابن كثير فقد قال - بعد أن ساق قول مجاهد - وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له وقد اختاره جماعة منهم الإِمام أبو العباس بن تيمية .
كما أيده أيضاً الإِمام الفخر في تفسيره ، فقد قال بعد أن ساق بعض الأدلة التي تثبت ضعف قول من قال بالنسخ : " فكان المصير إلى قول مجاهد ألوى من التزام النسخ من غير دليل " .
والخلاصة أن أصحاب هذا الاتجاه الثاني لا يرون معارضة بين هذه الآية وبين آية { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } لأن الآية التي معنا لا تتحدث عن عدة المتوفي عنها زوجها وإنما تتحدث عن حقها في البقاء في منزل الزوجية بعد وفاة زوجها ، وأن هذا الحق ثابت لها فإن شاءت بقيت فيه ، وإن شاءت خرجت منه على حسب ما نراه مصلحة لها ، ولأنها لا يوجد من ألفاظها أو معانيها ما يلزم المرأة بالتربص والامتناع عن الأزواج مدة معينة .
أما الآية الثانية فنراها واضحة في الأمر بالتربص أربعة أشهر وعشراً ، وهي العدة التي يجب أن تمتنع فيها المرأة التي مات عنها زوجها عن التزين والتعرض للزواج . إذن فلا تعارض بين الآيتين ومتى انتفى التعارض انتفى النسخ .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز في انتقامه ممن تعدى حدوده ، إذ هو القاهر فوق عباده ، حكيم فيما شرع لهم من آداب وأحكام فينبغي أن يمتثل الناس أوامره ويجتنبوا ما نهاهم عنه .
وتؤدي هذه اللمسة دورها في مجال الحديث عن أحكام الزواج والطلاق ؛ وفي تقرير التصور الإسلامي لقاعدة الإسلام الكبرى . وهي العبادة ممثلة في كل طاعة . ثم يعود السياق إلى ختام الأحكام :
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا : وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج . فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم . وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين . . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون . .
والآية الأولى تقرر حق المتوفى عنها زوجها في وصية منه تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله ، مدة حول كامل ، لا تخرج ولا تتزوج إن رأت من مشاعرها أو من الملابسات المحيطة بها ما يدعوها إلى البقاء . . وذلك مع حريتها في أن تخرج بعد أربعة أشهر وعشر ليال كالذي قررته آية سابقة . فالعدة فريضة عليها . والبقاء حولا حق لها . . وبعضهم يرى أن هذه الآية منسوخة بتلك . ولا ضرورة لافتراض النسخ ، لاختلاف الجهة كما رأينا . فهذه تقرر حقا لها إن شاءت استعملته . وتلك تقرر حقا عليها لا مفر منه :
( فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ) . .
وكلمة ( عليكم ) توحي بمعنى الجماعة المتضامنة المسؤولة عن كل ما يقع فيها . فالجماعة هي التي يناط بها أمر هذه العقيدة وأمر هذه الشريعة وأمر كل فرد وكل فعل في محيطها . وهي التي يكون عليها جناح فيما يفعل أفرادها أو لا يكون . . ولهذا الإيحاء قيمته في إدراك حقيقة الجماعة المسلمة وتبعاتها ، وفي ضرورة قيام هذه الجماعة لتقوم على شريعة الله وتحرسها من خروج أي فرد عليها . فهي المسؤولة في النهاية عن الأفراد في الصغيرة والكبيرة . والخطاب يوجه إليها بهذه الصفة لتقرير هذه الحقيقة في حسها وفي حس كل فرد فيها . . والتعقيب :
للفت القلوب إلى قوة الله . وحكمته فيما يفرض وما يوجه . وفيه معنى التهديد والتحذير . .
قال الأكثرون : هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
قال البخاري : حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زُرَيع عن حبيب عن ابن أبي مُلَيْكة ، قال ابن الزبير : قلت لعثمان بن عفان : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها - أو تدعها ؟ قال : يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه{[4179]} .
ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان : إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها ، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها ؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي ، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة ، فنسختها آية المواريث فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج . ثم قال : وروي عن أبي موسى الأشعري ، وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان ، وعطاء الخراساني والربيع بن أنس : أنها منسوخة .
وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
فهذه عدة المتوفي عنها زوجها إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها وقال : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ [ مِمَّا تَرَكْتُمْ ] {[4180]} } [ النساء : 12 ] فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة .
قال : وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان ، قالوا : نسختها { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
قال : وروي عن سعيد بن المسيب قال : نسختها التي في الأحزاب : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ]{[4181]} } [ الأحزاب : 49 ] .
قلت : وروي عن [ مقاتل و ]{[4182]} قتادة : أنها منسوخة بآية الميراث .
وقال البخاري : حدثنا إسحاق بن راهويه ، حدثنا روح حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } قال : كانت هذه العدة ، تعتد عند أهل زوجها واجب فأنزل الله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } قال : جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت وهو قول الله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فالعدة كما هي واجب عليها زعم ذلك عن مجاهد : رحمه الله . وقال عطاء : وقال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } قال عطاء : إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت لقول الله : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ [ فِي أَنْفُسِهِنَّ ]{[4183]} } قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى ، فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه{[4184]} .
فهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر{[4185]} وعشرا ، وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك ولهذا قال : { وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ } أي : يوصيكم الله بهن وصية كقوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } الآية [ النساء : 11 ] وقال : { وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ } [ النساء : 12 ] وقيل : إنما انتصب على معنى : فلتوصوا بهن وصية . وقرأ آخرون بالرفع " وَصِيَّةٌ " على معنى : كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير ولا يمنعن من ذلك لقوله : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة الأشهر والعشر أو بوضع الحمل ، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } وهذا القول له اتجاه ، وفي اللفظ مساعدة له ، وقد اختاره جماعة منهم : الإمام أبو العباس بن تيمية{[4186]} ورده آخرون منهم : الشيخ أبو عمر بن عبد البر .
وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلم ، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة الأشهر وعشر{[4187]} لا تجب في تركة الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة ، وهما قولان للشافعي رحمه الله ، وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة ، عن عمته زينب بنت كعب بن عُجْرَة : أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها : أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا ، حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه . قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خُدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " قالت : فانصرفت ، حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو أمر بي فنوديت له - فقال : " كيف قلت ؟ " فرددت عليه القصة التي ذكرت{[4188]} له من شأن زوجي . فقال : " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا . قالت : فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته ، فاتبعه وقضى به{[4189]} .
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به{[4190]} ، ورواه النسائي أيضاً وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به{[4191]} ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
{ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم } قرأها بالنصب أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم على تقدير والذين يتوفون منكم يوصون وصية ، أو ليوصوا وصية ، أو كتب الله عليهم وصية ، أو ألزم الذين يتوفون وصية . ويؤيد ذلك قراءة كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول مكانه . وقرأ الباقون بالرفع على تقدير ووصية الذين يتوفون ، أو وحكمهم وصية ، أو والذين يتوفون أهل وصية ، أو كتب عليهم وصية ، أو عليهم وصية وقرئ " متاع " بدلها . { متاعا إلى الحول } نصب بيوصون إن أضمرت وإلا فبالوصية وبمتاع على قراءة من قرأ لأنه بمعنى التمتيع . { غير إخراج } . بدل منه ، أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول ، أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات ، والمعنى : أنه يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولاً بالسكنى والنفقة ، وكان ذلك في أول الإِسلام ثم نسخت المدة بقوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وهو وإن كان متقدماً في التلاوة فهو متأخر في النزول ، وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن ، والسكنى لها بعد ثابتة عندنا خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله . { فَإِنْ خَرَجْنَ } عن منزل الأزواج . { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الأئمة . { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } كالتطيب وترك الإِحداد . { مِن مَّعْرُوفٍ } مما لم ينكره الشرع ، وهذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها . { والله عَزِيزٌ } ينتقم ممن خالفه منهم . { حَكِيمٌ } يراعي مصالحهم .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 240 )
{ الذين } رفع بالابتداء ، والخبر في الجملة التي هي «وصية لأزواجهم » ، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر «وصيةٌ » بالرفع ، وذلك على وجهين : أحدهما الابتداء والخبر في الظرف الذي هو قوله { لأزواجهم } ، ويحسن الابتداء بنكرة من حيث هو موضع تخصيص( {[2337]} ) كما حسن أن يرتفع «سلامٌ عليكم » ، وخير بين يديك ، وأمت في حجر لا فيك( {[2338]} ) ، لأنها مواضع دعاء ، والوجه الآخر أن تضمر له خبراً تقدره ، فعليهم وصية لأزواجهم ، ويكون قوله { لأزواجهم } صفة( {[2339]} ) . قال الطبري : «قال بعض النحاة : المعنى كتبت عليهم وصية » ، قال : «وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود » ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر «وصيةً » بالنصب ، وذلك حمل على الفعل كأنه قال : ليوصوا وصية ، و { لأزواجهم } على هذه القراءة صفة أيضاً ، قال هارون( {[2340]} ) : «وفي حرف أبي بن كعب » وصيةٌ لأزواجهم متاعٌ «بالرفع ، وفي حرف ابن مسعود » الوصية لأزواجهم متاعاً « ، وحكى الخفاف( {[2341]} )أن في حرف أبيّ » فمتاع لأزواجهم «بدل وصية .
ومعنى هذه الآية أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تقيم في منزله سنة وينفق عليها من ماله ، وذلك وصية لها ، واختلف العلماء ممن هي هذه الوصية ، فقالت فرقة : كانت وصية من الله تعالى تجب بعد وفاة الزوج ، قال قتادة : » كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها فلها السكنى والنفقة حولاً من مال زوجها ما لم تخرج برأيها ، ثم نسخ ما في هذه الآية من النفقة بالربع أو بالثمن الذي في سورة النساء ، ونسخ سكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر . وقال الربيع وابن عباس والضحاك وعطاء وابن زيد ، وقالت فرقة : بل هذه الوصية هي من الزوج ، كانوا ندبوا إلى أن يوصوا للزوجات بذلك ف { يتوفون } على هذا القول معناه يقاربون الوفاة ويحتضرون ، لأن الميت لا يوصي ، قال هذا القول قتادة أيضاً والسدي . وعليه حمل الآية أبو علي الفارسي في الحجة( {[2342]} ) ، قال السدي : » إلا أن العدة كانت أربعة أشهر وعشراً ، وكان الرجال يوصون بسكنى سنة ونفقتها ما لم تخرج . فلو خرجت بعد انقضاء العدة الأربعة الأشهر والعشر سقطت الوصية . ثم نسخ الله تعالى ذلك بنزول الفرائض . فأخذت ربعها أو ثمنها ، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة وصارت الوصايا لمن لا يرث ، وقال الطبري عن مجاهد : إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها ، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشراً ، ثم جعل الله لهن وصية ، منها سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، وهو قوله تعالى : { غير إخراج ، فإن خرجن فلا جناح عليكم } .
قال القاضي أبو محمد : وألفاظ مجاهد رحمه الله التي حكى عنها الطبري لا يلزم منها أن الآية محكمة ، ولا نص مجاهد ذلك ، بل يمكن أنه أراد ثم نسخ ذلك بعد بالميراث( {[2343]} ) .
و { متاعاً } نصب على المصدر( {[2344]} ) ، وكان هذا الأمر إلى الحول من حيث العام معلم من معالم الزمان قد أخذ بحظ من الطول ، وقوله تعالى : { غير إخراج } معناه ليس لأولياء الميت ووارثي المنزل إخراجها ، و { غير } نصب على المصدر عند الأخفش ، كأنه قال : لا إخراجاً ، وقيل : نصب على الحال من الموصين( {[2345]} ) . وقيل : هي صفة لقوله { متاعاً } ، وقوله تعالى : { فإن خرجن } الآية ، معناه أن الخروج إذا كان من قبل الزوجة فلا جناح على أحد ولي أو حاكم أو غيره فيما فعلن في أنفسهن من تزويج وترك حداد وتزين إذا كان ذلك من المعروف الذي لا ينكر ، وقوله تعالى : { والله عزيز } صفة تقتضي الوعيد بالنقمة لمن خالف الحد في هذه النازلة فأخرج المرأة وهي لا تريد الخروج . { حكيم } أي محكم لما يأمر به عباده ، وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قوَّله الطبري مجاهداً رحمه الله ، وفي ذلك نظر على الطبري رحمه الله( {[2346]} ) .
موقع هذه الآية هنا بعد قوله : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن } [ البقرة : 243 ] إلى آخرها في غاية الإشكال فإن حكمها يخالف في الظاهر حكم نظيرتها التي تقدمت ، وعلى قول الجمهور هاته الآية سابقة في النزول على آية { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن } يزداد موقعها غرابة إذ هي سابقة في النزول متأخرة في الوضع .
والجمهور على أن هذه الآية شرعت حكم تربص المتوفى عنها حولاً في بيت زوجها وذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بعدة الوفاة وبالميراث ، روي هذا عن ابن عباس ، وقتادة والربيع وجابر بن زيد . وفي البخاري في كتاب التفسير عن عبد الله بن الزبير قال : « قلت لعثمان هذه الآية ، { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم } قد نسختها الآية الآخرى فلم تكتبها ، قال : لا أغير شيئاً منه عن مكانه بابن أخي » فاقتضى أن هذا هو موضع هذه الآية ، وأن الآية التي قبلها ناسخة لها ، وعليه فيكون وضعها هنا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم لقول عثمان « لا أغير شيئاً منه عن مكانه » ويحتمل أن ابن الزبير أراد بالآية الأخرى آية سورة النساء في الميراث .
وفي البخاري قال مجاهد « شرع الله العدة أربعة أشهر وعشراً تعتد عند أهل زوجها واجباً ، ثم نزلت { وصية لأزواجهم } فجعل الله لها تمام السنة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، ولم يكن لها يومئذ ميراث معين ، فكان ذلك حقها في تركة زوجها ، ثم نسخ ذلك بالميراث » فلا تعرض في هذه الآية للعدة ولكنها في بيان حكم آخر وهو إيجاب الوصية لها بالسكنى حولاً : إن شاءت أن تحتبس عن التزوج حولاً مراعاة لما كانوا عليه ، ويكون الحول تكميلاً لمدة السكنى لا للعدة ، وهذا الذي قاله مجاهد أصرح ما في هذا الباب ، وهو المقبول .
واعلموا أن العرب في الجاهلية كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفي عنها زوجها تمكث في شر بيت لها حولاً ، محدة لابسة شر ثيابها متجنبة الزينة والطيب ، كما تقدم في حاشية تفسير قوله تعالى : { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } [ البقرة : 234 ] عن « الموطأ » ، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة ، وشرع عدة الوفاة والإحداد ، فلما ثقل ذلك على الناس ، في مبدأ أمر تغيير العادة ، أمر الأزواج بالوصية لأزواجهم بسكنى الحول بمنزل الزوج والإنفاق عليها من ماله ، إن شاءت السكنى بمنزل الزوج ، فإن خرجت وأبت السكنى هنالك لم ينفق عليها ، فصار الخيار للمرأة في ذلك بعد أن كان حقاً عليها لا تستطيع تركه ، ثم نسخ الإنفاق والوصية بالميراث ، فاللَّه لما أراد نسخ عدة الجاهلية ، وراعى لطفه بالناس في قطعهم عن معتادهم ، أقر الاعتداد بالحول ، وأقر ما معه من المكث في البيت مدة العدة ، لكنه أوقفه على وصية الزوج عند وفاته لزوجه بالسكنى ، وعلى قبول الزوجة ذلك ، فإن لم يوص لها أو لم تقبل ، فليس عليها السكنى ، ولها الخروج ، وتعتد حيث شاءت ، ونسخ { وصية } السكنى حولاً بالمواريث ، وبقي لها السكنى في محل زوجها مدة العدة مشروعاً بحديث الفُريعة .
وقوله : { وصية لأزواجهم } قرأه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ويعقوب وخلف : برفع ( وصية ) على الابتداء ، محولاً عن المفعول المطلق ، وأصله وصية بالنصب بدلا من فعله ، فحول إلى الرفع لقصد الدوام كقولهم : حمد وشكر ، و { صبر جميل } [ يوسف : 18 ] كما تقدم في تفسير { الحمد لله } [ الفاتحة : 18 ] وقوله : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] ولما كان المصدر في المفعول المطلق ، في مثل هذا ، دالاً على النوعية ، جاز عند وقوعه مبتدأ أن يبقى منكراً ، إذ ليس المقصود فردا غير معين حتى ينافي الابتداء ، بل المقصود النوع ، وعليه فقوله : { لأزواجهم } خبر ، وقرأه أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : { وصيّةً } بالنصب فيكون قوله : { لأزواجهم } متعلقاً به على أصل المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله لإفادة الأمر .
وظاهر الآية أن الوصية وصية المتوفين ، فتكون من الوصية التي أمر بها من تحضره الوفاة مثل الوصية التي في قوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين } [ البقرة : 180 ] فعلى هذا الاعتبار إذا لم يوص المتوفَّى لزوجه بالسكنى فلا سكنى لها وقد تقدم أن الزوجة مع الوصية مخيرة بين أن تقبل الوصية ، وبين أن تخرج . وقال ابن عطية : قالت فرقة منهم ابن عباس والضحاك وعطاء والربيع : أن قوله { وصية لأزواجهم } هي وصية من الله تعالى للأزواج بلزوم البيوت حولاً ، وعلى هذا القول فهو كقوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] وقوله : { وصية من الله } [ النساء : 12 ] فذلك لا يتوقف على إيصاء المتوفين ولا على قبول الزوجات ، بل هو حكم من الله يجب تنفيذه ، وعليه يتعين أن يكون { لأزواجهم } متعلقاً بوصية ، وتعلقه به هو الذي سوغ الابتداء به ، والخبر محذوف دل عليه المقام لعدم تأتي ما قرر في الوجه الأول .
وقوله : { متاعاً إلى الحول } : تقدم معنى المتاع في قوله : { متاعاً بالمعروف حقا على المحسنين } [ البقرة : 236 ] والمتاع هنا هو السكنى ، وهو منصوب على حذف فعله أي ليمتعوهن متاعاً ، وانتصب متاعاً على نزع الخافض ، فهو متعلق بوصية والتقدير وصية لأزواجهم بمتاع . و ( إلى ) مؤذنة بشيء جعلت غايته الحول ، وتقديره متاعاً بسكنى إلى الحول ، كما دل عليه قوله : { غير إخراج } .
والتعريف في الحول تعريف العهد ، وهو الحول المعروف عند العرب من عهد الجاهلية الذي تعتد به المرأة المتوفى عنها ، فهو كتعريفه في قول لبيد{[188]} :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** ومن يَبْكِ حولاً كاملاً فقد اعتذر
وقوله : { غير إخراج } حال من { متاعاً } مؤكدة ، أو بدل من { متاعاً } بدلاً مطابقاً ، والعرب تؤكد الشيء بنفي ضده ، ومنه قول أبي العباس الأعمى يمدح بني أمية :
خباءٌ على المنابر فُرسا *** نٌ عليها وقالَةٌ غيرُ خُرْس
وقوله : { فإن خرجن فلا جناح عليكم } هو على قول فرقة معناه : فإن أبين قبول الوصية فخرجن ، فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من الخروج وغيره من المعروف عدا الخطبة والتزوج ، والتزين في العدة ، فذلك ليس من المعروف . وعلى قول الفرقة الأخرى التي جعلت الوصية من الله ، يجب أن يكون قوله : { فإن خرجن } عطفاً على مقدر للإيجاز ، مثل : { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي فإن تم الحول فخرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن أي من تزوج وغيره من المعروف عدا المنكر كالزنا وغيره ، والحاصل أن المعروف يفسر بغير ما حرم عليها في الحالة التي وقع فيها الخروج وكل ذلك فعل في نفسها .
قال ابن عرفة في « تفسيره » « وتنكير معروف هنا وتعريفه في الآية المتقدمة ، لأن هذه الآية نزلت قبل الأخرى ، فصار هنالك معهوداً » . وأحسب هذا غير مستقيم ، وأن التعريف تعريف الجنس ، وهو والنكرة سواء ، وقد تقدم الكلام عن القراءة المنسوبة إلى علي بفتح ياء { يتوفون } وما فيها من نكتة عربية عند قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن } [ البقرة : 234 ] الآية .